أحواش وعبق تاريخ في بير زيت (الحلقة الثانية)
تاريخ النشر: 07/03/15 | 9:52جولة جميلة جعلت من بير زيت..حلماً يتحقق؛ هذه الجولة التي رافقتني بها مضيفتي وصاحبة الدعوة لي للتجوال في بير زيت السيدة ابتسام سليمان، والتي تحدثت في الحلقة السابقة عن تاريخ دير اللاتين/ كنيسة العذراء الحبل بلا دنس والمدرسة، هذه الكنيسة التي حملت الاسم المكسيكي (سيدة غوادالوبّة)، والذي يعود لحكاية مكسيكية تقول إن السيدة مريم العذراء ظهرت عدة مرات لهندي مكسيكي من قبيلة الأزتك اسمه خوان دياغو، وذلك في نهاية العام 1531 ميلادي، وسمت نفسها بهذا الاسم (سيدة غوادالوبّة)، ويعني السيدة التي تسحق الحية أي الشيطان، وهذا الهندي كان فقيراً وفلاحاً طيب القلب، وبالأصل كان وثنياً، ولكنه أصبح من أوائل المؤمنين بعد الاحتلال الاسباني للمكسيك، وقد قابل المطران (خوان دي زومارانما) راعي الكنيسة بعد جهد جهيد، وأبلغه رسالة السيدة العذراء مريم ورغبتها ببناء مزار لها ومعبد على قمة جبل تيباك، ولكن المطران لم يصدق الهندي مرتين وطلب إشارة يصدقها، فأرسلت له سيدتنا مريم الإشارة مع الفلاح الهندي من خلال ورود نادرة داخل معطف الفلاح، فلما سقطت الورود من المعطف ظهرت صورة سيدتنا مريم على المعطف، فأسرع المطران لجبل ايباك وبنى المزار وعَيّن الفلاح حارساً له حتى وفاته، وحسب بعض المصادر الكنسية فإن الورود والمعطف وعليه الصورة ما زال محتفظاً بها حتى الآن في معبد جبل ايباك، وأن الفحوصات أظهرت معجزات أخرى في عينيّ سيدتنا مريم في الصورة، وفيما بعد وبقرار من البابا بندكتوس الرابع عشر، جعل من سيدتنا مريم العذراء سيدة غوادالوبّة شفيعة بلاد المكسيك الكاثوليكية وأمريكا اللاتينية بأسرها.
وهذه الكنيسة كما كنائس اللاتين بشكل عام بنيت على شكل مستطيل وسقف (جملوني)، ومن الداخل على شكل قبو برميلي مدعم بالأضلاع من الداخل، ولكنها هنا بنيت من حجارة بير زيت اللامعة والمموجة الألوان، ومدخل الكنيسة يضم نافذة من الزجاج المعشق وفوقها لوحة فسيفسائية (لعذراء غوادالوبّة)، وفي أعلى الكنيسة صليب حجري مقدم من الأب سليمان سمندر ابن بير زيت، ويوجد برج الكنيسة وهو على ارتفاع 33م من أرضية الكنيسة ويحتوي على 81 درجة للوصول إلى موقع الأجراس، ومن مدخل الكنيسة حيث الأعمدة على الدرج وصولاً إلى صحن الكنيسة والأقواس فيها، حيث يظهر قوس ضخم يفصل بين الهيكل وصحن الكنيسة، وهذا القوس مستمد من الفترة الرومانية حيث كان يرمز للنصر، ومروراً بجرن المعمودية والمصلى الصغير (الكابيلا) و(السكرستيا) التي تضم ملابس الكاهن وخدام الهيكل والأدوات التي يستخدمونها، مروراً بالنوافذ والأدراج، واللوحات الفنية والنوافذ والأدراج الصغيرة، حيث نجد جمالاً متميزاً في البناء للكنيسة، جمالاً منح بير زيت جمالاً على جمال.
من الكنيسة اتجهت برفقة السيدة ابتسام سليمان وأنا لا أحمل سوى حقيبتي الصغيرة على كاهلي الستيني، والتي تضم قلمي ودفتراً للملاحظات وعدستي ومرفقاتها، اتجهنا نحو البلدة القديمة، كي نبدأ الجولة بزيارة جمعية الروزنا للتراث المعماري التي رتبت لنا الجولة في البلدة القديمة التراثية، وفي الطريق القصيرة نسبياً لم تكف عدستي عن التصوير وتوثيق ذاكرة المكان، فمررنا بكنيسة القديس بطرس (الانجيلية الأسقفية) والتي افتتحت في منتصف العام 1902 وهي كنيسة صغيرة جداً تعود لطائفة البروتستانت حسبما عرفت، وهي طائفة صغيرة في بير زيت لا يتجاوز عددها الـ 45 شخصاً، وهي بناء تراثي مكسو بالقرميد الأحمر مع ساحة صغيرة، وكانت مغلقة مما لم يتح لي رؤيتها من الداخل. وقبل أن ندخل البلدة القديمة مررنا ببقالة شكري وهي من أقدم بقاليات بير زيت، وكانت توفر للسكان المواد التموينية الأساسية واللحوم، وقد أغلقت بعد وفاة شكري وإن بقيت ذكراه في أذهان الناس وخاصة كبار السن، إضافة إلى العديد من بيوت بير زيت التراثية الجميلة، ولفت نظري بيت بني في العام 1907 ويتميز بجمال نمط البناء والنقوش والنوافذ المزخرفة بالأقواس الحجرية، وبيت آخر شبيه ويتميز بساحة واسعة، فهذه المنازل أشبه بالقصور وتدل على المستوى الاجتماعي لأصحابها حين بنوها، وهذه المنازل بعضها مرمم وبعضها مهجور ومغلق ومتروك، وأعتقد أنه يمكن استغلالها بعد الترميم والإعداد لتكون مطاعم واستراحات جاذبة للزوار.
ما أن دخلنا الشارع الرئيس للبلدة القديمة (شارع البلد) حتى همست لنفسي وللسيدة ابتسام سليمان: يا الله أشعر أني بدأت أتنشق عبق التاريخ في بـير زيت، وأشعر أن هذه الجدران القديمة بدأت تهمس لي بحكايات الأجداد وقصص عشق الجدات، فيا ترى كم من الحكايات ستهمس لي أرواح الجدود والجدات؟ وكم ستبوح لي هذه المباني من أسرار أعرف أني لن يمكنني أن أصمت ولا أبوح بها، لكنني واثق أنها لن تغضب مني إن بحت بأسرارها، فصدري سيضيق عن كتمان أسرار هذا الجمال، وروحي لن تقبل أن تبقى هادئة وساكنة أمام جمال حورية البلدات الفلسطينية.
سرنا في شارع البلد وعدستي لا تتوقف عن التصوير وروحي لا تتوقف عن التحليق، وكلما سرنا بعض من الأمتار أشعر بدقات قلبي تتزايد، وكأنني فتى في أوائل العمر يقف أمام معشوقته لأول مرة، فمن لا يسير على قدمية ويتأمل كل هذا الجمال لن يدرك أبداً كم هي المشاعر التي اجتاحت روحي وأنا أجول في بير زيت، ولعل ما جعلني أشعر بالراحة والاطمئنان أن البيوت على جانبي شارع البلد مرممة بدون أن تمس روح التراث، وأن هناك العديد من المطاعم والمحلات على جانبي الشارع التراثي الجميل، فمن مقهى ومطعم جميل يحمل اسم العرمان وهو في بداية طريق العين المتفرع من طريق البلد، إلى مطعم الطابون إلى مطعم جمهورية الفلافل، مروراً بمطحنة وبابور بير زيت القديمة التي سيكون عنها حديث لاحق، وغيرها من الأمكنة في طريق البلد، مما يوفر للزائر الراحة حين يبغي الطعام أو القهوة والاستراحة أثناء التجوال.
قبل أن نصل إلى نهاية الشارع للوصول إلى جمعية الروزنا التقينا الأخ رائد سعادة رئيس الجمعية في سيارته، فتوقف وكان لقاء حار بيننا، فهمس لي: (أعذرني لارتباطات عمل خارج البلدة، ولكن الأخ أبو جميل المنسق الميداني للجمعية ينتظركم لترتيب جولتك في بلدتنا، فأهلاً بك ونورت بير زيت وتشرفنا بحضورك)، فشكرته بحرارة وواصلنا الطريق إلى الجمعية الواقعة مباشرة مقابل كنيسة الروم الأرثوذكس (دير جارجيوس)، فوقفت أتأمل موقع الجمعية في المبنى التراثي الجميل الذي جرى ترميمه، وهذا المبنى تأثر بالزلزال الذي تعرضت له المنطقة عام 1927 فلم يتم اكمال طابقه العلوي إلا حين جرى ترميمه، وبدأت عدستي بتوثيق المكان من الخارج والداخل، فهذه الجمعية تميزت بالمحافظة على التراث، ولها دور كبير في المحافظة على التراث المعماري في البلدة اضافة إلى العمل على ترميم الأبنية والأحواش بالتعاون مع البلدية ومؤسسات مختلفة أهمها مؤسسة رواق، وفي كل عام يكون لها مهرجان شامل للتراث، وقد سبق وحضرت هذه المهرجانات أكثر من مرة، وشاركت مع الجمعية في رحلة مسار سيراً على الأقدام في وادي النطوف، ووثقت الرحلة والأمكنة بعشرات الصور، وكتبت مقالة سبق نشرها عن الجمال للمكان والرحلة، وفي العام الماضي 2014 كانت النسخة السابعة من أسبوع التراث في بير زيت، واستقبلنا الأخ (أبو جميل) استقبال جميل كلقبه كما استقبلتنا الآنسة رنا سعادة بترحاب جميل وابتسامة وضّاءة، ووجدنا وفداً ايطالياً جاء لزيارة البلدة، وشاركناهم الإفطار التقليدي الذي أحضرته إدارة الجمعية من مناقيش الزعتر والجبنة، لنبدأ بعدها جولتنا برفقة الأخ (أبو جميل) بعد أن فضلت أن تكون جولتنا مستقلة عن الزوار الطليان، ورغبت أن تكون سيراً على الأقدام في البلدة القديمة بدون استخدام السيارات، فالتجوال على الأقدام يتيح لي الفرصة أن أتأمل كل ما أراه وأوثقه بالذاكرة والعدسة.
بدأنا جولتنا بزيارة حوش علية ربيع والذي يعود تاريخه إلى لعام 1852، وهو كان بالأصل أول كنيسة لطائفة اللاتين حين منحه المالك للطائفة التي لم يكن لديها كنيسة تستخدمها للعبادة، واستمر الحوش يستخدم كنيسة مجاورة لكنيسة الروم الأرثوذكس حتى بناء دير اللاتين، والذي تحدثت عنه في بداية هذه الحلقة والحلقة السابقة، ويستخدم الآن بعد ترميمه كمقر للعديد من الاحتفالات والمناسبات والتي سبق أن حضرت بعضاً منها، حيث تقع أمامه ساحة فسيحة تسمح بذلك، وهو مكون من أربعة غرف وغرفة علوية تسمى في بلادنا العلية، وهذا الحوش كانت تسكنه خمسة عائلات كما نظام الأحواش في بير زيت، في غرفة عائلة تحتها الخابية، والعلية كانت تعود لعائلة ربيع التي حمل الحوش اسمها.
إنه عبق التاريخ والتراث، فنظام الأحواش كان منتشراً في فلسطين، ولكل حوش ذاكرة وحكاية، ومن حوش علية ربيع اتجهنا إلى حوش دار سعادة الذي يتميز بجماله والذي أصبح المقر الرسمي لمؤسسة النيزك للتعليم المساند والإبداع العلمي (دار سعادة للعلوم والتكنولوجيا)، والذي يعتبر بيت العلوم الأول في فلسطين، حيث استقبلنا الأخ مهند الطويل وهو مرشد ومنسق المشاريع في المؤسسة، وهذا الحوش سأتحدث عنه وعن الأحواش الأخرى وعن مؤسسة النيزك، في الحلقة القادمة من سلسلة مقالات الذاكرة عن بير زيت.
صباح جميل تتساقط فيه الثلوج لليوم الثاني على مدينة رام الله، فأمتع نظري بمشهد الثلوج وألتقط بعض الصور، ومع فنجان القهوة وروح طيفي البعيد القريب وشدو فيروز وهي تشدو: (ثلج ثلج عم بتشتي الدنيا ثلج والنجمات حيرانين وزوار الطرقات بردانيين، والغيمات تعبانين، عالتلة خيمات مضويين، على كل قلب و على كل مرج ألفة و خير و حب متل التلج)، أكتب ما بدأته من الحديث عن أحواش وعبق تاريخ في بـير زيت، وأهمس لكم جميعاً حتى نلتقي في الحلقة التالية: صباحكم أجمل وأبيض كما الثلج.
بقلم وعدسة: زياد جيوسي