نظرات في قصائد الشاعرة صفاء أبو فنة

تاريخ النشر: 03/06/12 | 9:00

الوجعُ الذي يشقُّ صدرَ القصيد

نظرات في قصائد الشاعرة صفاء أبو فنة

د. سامي ادريس

الشاعرة صفاء أبو فنة تجدد عهدها مع الشعر، وتطور أدواتها الشعرية، وتتحفنا بمجموعة من القصائد العذبة التي تنم عن تجربة موجعة صادقة قد تكون عاشتها وذاقت مرارتها ، فجاء التعبير عنها شعراً سائغاً لذةً للشاربين.

عندما استمعتُ الى القائها في الفيديو ، وتوسمتُ السعادة والرضى والابتسامات المشجعة في عيون الحاضرين من أصدقائها ومريديها،ورأيت طريقة إلقائها العذبة، عرفتُ أنني أمام موهبة حقّة وتأكد لي أنها ستكون شاعرة يُُشارُ لها بالبنان. كانت تُلقي قصائدها وعيونُ الجمهور مشدودة إليها والسعادةُ والرضى يُعبّرُ عنهما بالتصفيق الحارِّ بين الفينة والأخرى في هدوء عذب وأجواء راقية قلّ أن ينال مثلها كبارُ الشعراء.

إن رحلة إلقاء القصيدة لدى الشاعرة تبدأ بموسيقى سمفونية أخاذة، تأخذنا الى أجواء القصيدة الداخلية وتتغلغل موسيقاها في عروقنا ممهدة لهذا الصوت الملائكي لتلقي على مسامعنا ما كتبته أكُفُ القدر بقساوتها وظلمها، وما حفرته نظرات مجتمعنا على جبين الفضيلة. ولتأخذنا الى صفاء العقول والسرائر وهي الحُرّةُ بنتُ الحرائر . وترى آلات التصوير تتهافتُ لتصويرها في حفلٍ يرتقي به الشعر أعلى عِلّيين.

فلنسمعها وهي تصرخ وتقول:

آهٍ وألفُ آه

من وجعٍ يشقُّ

صدرَ القصيد

اقتطفتُ هذه السطور من قصيدة صفاء أبو فنة الأخيرة المنشورة في موقع بقجة ومنتدى جبران الأدبي، وهي قصيدة جميلة كباقي قصائدها خاصة ” مناجاة” و” تغريبة” .

إن المتتبع لتطور الأداة الشعرية لدى صفاء يلحظ تطوراً واضحاً في بناء القصيدة وجمالية الاستعارات البلاغية. والسامع لشعر صفاء غير القارئ له، فهي تقنع الجمهور بألحان قصائدها وبصوتها العذب النمير الذي تتغلغل في مساماته آيات الحزن والأسى وطيور الحب والشوق الى شىءٍ نظلُّ لا نعرفه، ويظل حب الاستطلاع يقودنا الى عالم الشاعرة المفعم بالإنسانية والصفاء الروحي فهي اسم على روح وروح على اسم وقد توافقا فألّفا لنا هذه التحفة الصفائية المتميزة.

تقول في قصيدة “ شَجرة الدُرَّاق

موظفةً جمعاً من الاستعارات في آن واحد:

تُزَّنِرُ خَاصِرَة الأفق بِوهج الصَبابة والسنى

ورموشُ السماء تُمسيها زائِرة عَين الكرى

ولحيفا عروس الشاطئ نصيب في شعر صفاء ، حيث تقول:

فيكِ النوارس تَلثِمُ خَدّ البحر السَعيد

تَهزكِ أوتارُ الساحلِ والشاطئ الرَّغيد

وفي هذه القصيدة إلماح الى الماضي السعيد الذي عاشته حيفا هانئةً تستقبل السفائن الغاديات الرائحات، وترتل آيات الحب ومواويل الهناء.

وتبدع صفاء في قصائدها الوطنية فتقول في ” أماه”

أماهُ ..

شَجرةُ لّوزٍ شامِخَة من تُرابِ فلسطين

مَاجِدَةُ الخُلقِ والجودِ براعِمُها حِطين

وفي قصيدة ” سمفونية الوجود” تقول:

” تَتَوضأ في غدير بيسان تتطّهر, تعانق

قاماتِ الجِبالِ والوديان, تُصَلي فروضها

الخَمسَ وتعتكفُ في حَرمٍ قدسيّ شَريف ..

ملاحظة: كنتُ قد كتبتُ عن الشاعرة في بداية طريقها المقال التالي:

الوصال الصوفي في قصيدة : ” خمسَ عشرة زُمردة” للشاعرة صفاء أبو فنة “فراشة الوادي” .

ففي القصيدة الأخيرة أعني ” خمسَ عشرة زُمردة” ارتفع صوت صفاء أبو فنة ليصل سُدة الشعر الحقيقي، في قصيدة صوفية بحتة حين الشفاه تهمسُ لتصل في نشوتها الى ثريات الذهب، عبر أجواء من الموسيقى التصويرية والترانيم الليلية، وبخور مسحور من عبق زهر البنفسج:

وثريات الذهب هذه هي تعبير جبراني مسحور مختوم بالطلاسم الجبرانية العذبة الخالدة التي لم ولن يتصوح أو يذوي بريقها الأخاذ:

هل جلست العصر مثلي بين جفنات العنب

والعناقيد تدلت كثريات الذهب

وجاء التوظيف الجديد لهذا التعبير على يد الشاعرة ، في التشبيه البليغ همسات شفاهك ثريات الذهب ، ترانيم الليل، وعبق زهر البنفسج. فالشاعرة تجمع هنا بين تشبيهات متناقضة من عالم الأصوات: (همسات وترانيم) الى أن يزداد الزخم الصوفي حدةً وهياجاً في قولها :

تموت دموعي في قافلةِ عشقكَ

تتموجُ قرب مقعدكَ الخشبي

ورياح هوجاء ممتدة تعانق

فيكَ الأفق…

وكان انتقالها الى استعمال الفعل المضارع ذي الدلالة الحركية والصوتية معاً، فاعلاً في عملية الحلول الصوفية، فالعشق له قافلة ، والقافلة تعني الرحلة والرحيل للوصول والحلول الصوفي، فكأنما الشاعرة تسير داخل قافلة العشق، وحينما تقطع مرحلة ( تتموج) قرب مقعدك الخشبي، ومع جمال استعمال كلمة تتموج التي جاءت في المكان المناسب إذ لا يمكن القول ( تترنح، أو تتهادى، أو تتمايل) فهذه كلها وغيرها لا تعطي الدلالة الحركية الخاصة المحددة للفعل ” تتموج” الذي بالاضافة الى حركة الأمواج ، تاتي مصحوبة بصوت الموج الخاص. إلا أن الصفة الحسية ( الخشبي) أفقدت الانسياب الصوفي للقصيدة. فبعد قافلة العشق الصوفي السالكة في مدار الحلول، تصدمنا صورة الواقع الحسي المجرد الصلد في المقعد الخشبي.

وليس هو نفس المقعد في قصيدة معالي رائف ” كنتَ ولا زلتَ” ، مع أن كل من الشاعرتين تغترفان من النهر عينه.

حيث تقول :

ونتخذَ نفس المقعَد

في الواقع

الذي سَنبنيهِ سوياً

على أرض قصائدنا الخَضراء

ولعلني أفسر القصيدة بما لم تقصد الشاعرة ، ولم يخطر ببالها حين كتابة القصيدة ، وهذا أمر طبيعي جداً، فالشاعر غير مطالب بتفسير قصيدته ومقاصدها الكلية، وإنما هي شقشقة يقولها ويمضي.

ففي قولها ذي التجليات الصوفية الرفيعة:

ورياح هوجاء ممتدة تعانق

فيكَ الأفق…

ما يدل على مصداقية التحليل والوقوف عند لمسات صوفية خطيرة. فالرياح الهوجاء التي تزلزل كيانه، ممتدة لتعانق الأفق، وأي أفق : إنه الأفق الذي فيك، وفي هذا معنى الرحلة الصوفية للوصول واكتشاف أعماق الأعماق والغور فيها. ولكن يبدو لي التناقض الحركي في قولها : رياح هوجاء…. ( تُعانق)، فالهوجاء تزلزل فيك الأفق…

وأحب أن أقول للقراء مرة ثانية مؤكداً إنني أشهد ميلاد شاعرة تحمل القمر بين أصابعها، وتمتلك القدرة على إدهاش القارئ وهزه. والآن أصبح الأمر أن تحثي السير الى الامام بقصائد تكون بنفس المستوى أو أعلى، لا تتعجلي الشهرة، واتركي لروحك العنان لتحلق في سماء الشعر.

كما أنني أرى في فراشة الوادي، حمامة تشرب من نفس الغدير، وتحوم حول سدة الشعر الصوفي، والآن فقد نقرت أكسير الشعر بعد معاناة الروح.

‫11 تعليقات

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
    د. سامي المحترم..
    إنّ هَمَساتكَ العَذْبة تَشْنف الآذان ولُّغاتكَ تحاكي لُّغات الشِّعر والجمال, د. سامي بكلّ صدقٍ وود !! أنّ تحليلاتكَ العميقة زَاخِرة بالمَعاني, مُتَورِّدة الأحاسيس وصادقة, مفعمة بِنَفَحات المسكِ واختلاجاتُ العنبر
    لقد تَكَحلتْ رُموش قصائدي بِكحل مِدادك, وتَزيّنتْ خدودها بِرتوش كلماتكَ..
    عماه.. إنّ هذه الهَمساتْ تزيد من إقْدامي .. أشكرك من أعماقِ قلبي وأتمنى لكَ الخير كلّه أوله وآخره, ظاهِره وباطنه

  2. د. سامي إدريس عميد الأدب المحلي , حفظك الله ورعاك ,
    لقد أبحرت وغصت في بحر صفاء فأحسنت الغوص وعدت إلى الشاطئ حاملا لنا من أجمل مرجانات فراشة الوادي .
    كان نقدك وتحليلك لإبداعات صفاء بمنتهى الوضوح والشفافية ولهذا أتقدم إليك بعظيم شكري وجل تقديري بإسمي وبإسم زملائي الشعراء والأدباء لهذا الجهد البناء , ولك يا صفاء إحلى التهاني وأغلى الأماني لحصولك على لقب شاعرة من عملاق الأدب .

  3. الف الف تحية يا صفاء الصمود والثبات والامل والتفائل للحياه افضل لا استطع ان اعبر عن محبتي لك ولشعرك الجميل المعبر من الاعماق بل شعرك الحقيقي اليك كل الاحترام التقدير والتهاني والاماني.

  4. تحيّاتي الورديّة عمي زهدي ..
    إنّ كلماتكَ وسام شَرف أعلقه فوق لوحاتي الشّعرية, فوق قصائدي المتلفحة بديباجة الوطن
    وزَخرافتة الأبية ..

  5. السيّد أبو سامح المحترم طابت أوقاتك, سيّدي الفاضل أشكرك من صميم قلبي .. إنّ شهادة الدكتور سامي هي شهادة أعتز وأفتخر بها ..
    دُمتَ ودامَ نبضكَ الأخضر

  6. إليكَ أيَّتها المعجبة ..
    إنّ هَمسات بوحكِ دافئة, وترانيم مِدادكِ ساحرة..
    أشكركِ لمتابعتكِ العطرة لكتاباتي
    دُمتِ بألفِ ألفِ خير وعافية

  7. أختي صديقتِي وزميلتِي الأكثر من رائعة
    لم تكن كلمات د. سامي إدريس من فراغ فكتاباتكِ أسلوبكِ وإحساسكِ بقمةِ الجمالِ والعذوبة
    تستحقين ألف شهادةٍ وشهادة لروحكِ الشفافة والمُبدعة
    دام عطرُ قلمكَ يرفرف في ساحةِ الأدبِ والشعر
    ولكِ مني أرق التحيات وأجملها

  8. الغالية, شاعرة الوادي معالي,
    إنّ نَفَحاتَ مِدادك تَطوِّقها بَراعِم الزَهر والياسمين, أُحِبّك بِعمقِ صَداقتنا وأشكركِ لروحكِ الطيبة والنَبيلة.. إليكِ أجمعُ باقات الفل المكدَسَةِ بِعَبقِ المودّة الصادِقَة والجَميلة

  9. الشكرُ موصولٌ لكم جميعاً. إن ما نقدمه من كتابة حول نصوص اخواننا الشعراء والشاعرات هو أقل ما يمكن تقديمه. نرجو ا، تروا الخير على وجهه( تفصيح للمقولة العامية: تشوفوا على وجهه الخير إن شاء الله)

  10. انا مغرم بزميلة معي بالكلية اسمها صفاء فعندما قرأت قصائد الشاعرة صفاء ابو فنة فأحسست بأنها تتكلم عني وعن حبي لصفاء فاشكرك كل الشكر أيتها الشاعرة وحفظك الله وبالتوفيق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة