مع عبد اللطيف عقل في أغاني القمة والقاع

تاريخ النشر: 27/08/14 | 9:20

ماذا في القمة والقاع؟
أغاني القمة….والقاع
شعر: عبد اللطيف عقل

عبد اللطيف عقل شاعر مسؤول أمام الكلمة والقيمة، أطلق ذاته المغتربة من وهج المأساة وأوفدها للقارئ الواعي أمانة في عنقه _ أمانة عرضت على السموات والأرض فأبين أن يحملنها، وحملتها آلهة الحزن التي تتقن رقص الأوبرا في القمم والقيعان، “لأنه لا بعد بين قمة الوجد وقاعه” (أغاني القمة…. ص3)
من فضلكم افتحوا الديوان!

_ أربع كراسات صدرها بوصية:
الكراسة الاولى _ مأساة أوديب
الكراسة الثانية _ أغاني حادي العيس
الكراسة الثالثة _ أغان على الصليب
الكراسة الرابعة _ أوراق بين القمة والقاع.

ثلاث تراجيديات ودراما ساتيرية، تمامًا كأنه شاعر يوناني يتقدم لمسابقة.
الكراسة الاولى- مأساة أوديب: أسطورة أسخيلوس اليوناني ولمن نسي خيوطها نلم له بعضها:
_ كان لايوس ملك طيبة قد تزوج من لوكاست، وقد أوحت الآلهة للملك لايوس بأن سينجب ولدًا اسمه (أوديب)، سيكون قاتلاً للملك – أي لأبيه- ويهيمن على العرش، فما كان من لايوس إلا أن كاد للصبي، لكن الصبي ظل في حماية الآلهة ليجري القدر مجراه. ينشأ ويترعرع حتى يقتل أباه من غير علم أنه هو أبوه، ثم يقتل الوحش _ أبا الهول _ ويتربع على العرش ويتزوج أمه _ الملكة _.
لكن الوحش الهائل عكر عليهما الصفو، وأخبرهما بالحقيقة المذهلة، فانتحرت جوكاست، وفقأ أوديب عينيه.

هذه ملامح من الأسطورة التي استفاد منها الشاعر، استفاد من سَداها ولحمتها، لكنه لم يخضع لها بكليتها، فالشاعر سيد الموقف يصدر الكراسة الأولى طبقًا لقانون الوحدات الثلاث: الزمان والمكان والنوع.
يبتدىء الشاعر:
“الزمان يفقد تتابعه
المكان يختصر امتداده
وتتجمع الشخوص في لحظة واحدة
ومكان واحد ( ص 18 )
إننا الآن في قمة المأساة”

أوديب في الأسطورة القديمة لا يثير بك عطفًا إلا عندما تقوده أنتيغونا _ كان أعمى… حتى ابنة طه حسين بكت لحاله أو لحال أبيها _، ولكن “أوديب” عقل منقذ، بحار (28)، أمه جوكاست “الأرض” التي تلد يسوع، دمها عطر، وتسقي اللوز والزيتون أجفانها. (ص26)
لايوس الماضي الموبوء بكل مخلفاته _الواجمة_ يعترف أن أوديب سيستولد الأرض الجديبة، لكنه ما يفتأ يوصي بقتل أوديب (ص25)، أبو الهول شرير في لباس إمام، يحفظ الوصايا العشر عن ظهر قلب أو قلب ظهر، ويفتك بأخوة أوديب ويفعل فيهم الأفاعيل. (ص26)
والملك كريون في حضن جوكاست _لم يتغير شيء _.

الشاعر متواجد في كل شخصية، في العراف الذي ينقل أخبار الآلهة وإرادتها يتدخل في دوره ويقول:
“يا نبيًا… قد صلبناه فمتنا
يوم صلبه. (ص24)
الشاعر يكاد يكون (أوديب)… فيقول:
” جئت من قلب الفراغ المر
ومسحت الذل
عن كل الجباه العربية” (ص 31)
ألـمٌ يتــنـزى من أعماق الشاعر قبل أن نتبين أن هذا كلام أوديب:
“واسحبوني قبل أن أولد من أحشاء
جوكاست الحبيبة
واقتلوني يا عبيد الغرباء ” (ص 32)
* * *
الكراسة الثانية (أغاني حادي العيس)- غزليات يحفظها العشاق وهاك:
“صغيرة أشتار من ثغرها
أزهار لوز بعد لم يثمر” ص37
فأنت أنثى في ربيع الصبا
وقامة فرع وصدر ثري” ص39
الغزل له طعمان: طعم المزج الجميل والتلاقي بين ثغر الحبيبة وثغر الأرض، شفتان تنفرجان على قبلة يقبلها عبد اللطيف…. وحبال الدعاء تربط بينه وبين حبيبته، هذا الحبيب أول الليل
“مر في خاطره
تمدد زهوًا.. وماج اختيالا…
وتأبى وسامته أن تنالا” ص46
أما الحضور فهو في الأرض ساعتها يحضر طيف حبيبته ويغفو (ص47).
الغزل الثاني فيه طعم الجوع الذي يكاد يحرقنا، وهي التنويعات الغزلية والتوقيعات الذاتية، واقع شعري يروده عبد اللطيف مؤمنًا أن الكلمة يجب أن يقولها هو كما يشاء زاخرة بفنيتها وجماليتها.
* * *
الكراسة الثالثة (أغان على الصليب)– عذاب الشاعر، توتر، عذابات، رؤى عظيمة ممتزجة بالانتماء، بحث وراء الماضي والحاضر والمستقبل، نكء الجروح، لاستطلاع مشارف الآتي مستقبل أبهج _ على الأقل _ تسوغه المعدة. يخطو يقف ذاهلاً صارخًا رافضًا لاعنًا حتى يستحضر المستقبل. يقف ليستأصل الأقزام والوحش القابع خلف الوجه… والجدري الذي سلط على عيني البدوي، والعراف صاحب اللحية _ التي ينطبق عليها وصف ابن الرومي _.
* * *

الكراسة الرابعة أوراق بين القمة والقاع: ورقتان فيهما التهكم الساتيري، اختصار المسافة العربية في أوراق تنضح عظامًا نخرة وزيفًا. الشاعر يلم عمائم أهله ويحرقها (ص135). يكتب قصيدة النثر وهي كما يقول مالارميه “النثر لا يوجد، فحيث الجهد في الأسلوب فهناك النظم”، ويوافق حركات النفس الغنائية وتموجات وقفزات الضمير -كما قال بودلير لصديقه ( أرسين هومسي ) عندما صدر له المجموعة الشعرية.
ومع هذا فالشاعر بالكثافة والزخم يتراوح بين القمة والقاع، يخبط كطابة، يغترب مرة أخرى تحت ضغوط المجتمع ومقاساته _ المقاسات تمامًا مثل مقاييس القصيدة: بالمسطرة (ص143) _، وفي اغتراب ذاته يكاد يذعر:
“وجهي يغسله الخوف” (135)

والذعر لا يؤدي به دائمًا إلى الانهيار، بل أحيانًا يسمو للقمة، وفي كلتا الحالتين يرتبط التبسيط والتكثيف في تجارب إنسانية حميمة تعززها مدلولات فلسفية وفكرية.
والديوان برفض الواقع بقدر ما يعانق الحزن، يغترب ليتسامى، يقودنا في رحلتنا الطويلة… وذلك بتعبئة أفكارنا بفحوى الأشياء وحقيقتها كما يرى ييتس في قيمة الفنون.
عبد اللطيف في ديوانه منتم ولا منتم كما تشاء، انتماؤه يعززه لا انتمائية للدجل والشعوذة، ولا انتمائيته يعززها انتماء للأرض.

وفي صوته بقايا نغمات لشعراء آخرين نلحظها لحظا نزار: “سيوفنا أطول من قاماتنا” (دفتر على هوامش النكسة)..
عقل: “الاقزام والسيوف الطويلة ” (ص76)
درويش: “عيونك شوكة في القلب.
توجعني وأعبدها ” (عاشق من فلسطين ص5)
عقل: ” حضورك يا منيتي
مدية. رضيتك” (ص 49)

ولعل ذلك أيضًا ملموس في الشعر القديم:
بشار:
“كيف بأمي إذا رأت شفتي
أم كيف إن شاع منك ذا الخبر”
عقل:
“ويلمس واخجلي شفتي
أتعرف أمي” (ص47)

لا تتريب على الشاعر، فالمعاني ملقاة على قارعة الطريق – كما يقول نقادنا القدامى.
شيء مغر في ديوان عبد اللطيف _ وهو انتقاؤه العنوان. فعنوان القصيدة أجمل في نظري من مضمونها، العنوان فستان ينتقيه لحبيبته ويحسن انتقاءه بذوق، لا تكاد تخطر حتى تشرئب الأعناق، والقصيدة عنده ملخص تركيزي لقصائد سابقة، فيها تكرار للذات بشكل أعمق، وكل قصيدة تهمس لي: أنا أجسد تجربة عقل.
الرحيل ورائحة الارض (ص124): قصيدة ترحل فيها النفس من الأفق المجهول، تحمل أبعادًا زمنية، طفولة شاعرية، وخيالاً أملاه الهروب من الواقع الذي تشيخ فيه الشباب.
الأصل والصورة (ص89): الأصل مخلفات صدئت تحاول أن تفرض نفسها، والصورة تتهكم وتنفعل.
خمس أغنيات للضياع ص129: يغنيها للجنس، والفراغ _ المفسدة _، للجنس ثانية، للعلم الذي ليس من ورائه طائل، وللشيخ المعمم. يكاد يقنعنا في حديثه عن العراف أنه طيب:
“خلّص الزمنى وما ظلت عقيم في النساء” (83)
صعده درجة درجة…. فكدت أصدق إنسانيته، ثم ما لبث أن أهوى به الى القاع:
“كل شيء فيك مات”
وغضب الشاعر على (الشيوخ) فيه الحاد واع ومثقف وفيه إيمان:
“لحية الشيخ الطويلة
لا يعري زيفها المدهون إلا صوت شاعر” ص138

يتهكم الشاعر على التعلق باللحم النسائي والتهالك عليه، ثم ما يلبث أن يقع في الشرك:
“ليس للحب وجود
إنه محض حكايا وأمان
هو فعل الحب
الهوى ساعات خطف وانطفاء” ص 118

يتغاير هذا الحب بالحب الذي يكلفه غاليًا، هذا الحب نتيجة التخاذل ليس هو سببه على كل حال، يدعوه السلطان…ويسل من عينيه خيط النور، ويساعده في ذلك أخوه ووالده وجاره، فكلهم متألبون عليه… يعلمه السلطان أن حب ذويه جريمة (ص85)، لذا تطل صور الوهم والأقدام الحافية والسيوف الطويلة التي يحملها الأقزام فيقرر الشاعر قائلاً:
“مخرج الكلمة منفاها وحد الملكوت” (ص67)
الحزن هو الإطار الذي أطر نفسية الشاعر:
“لكنني أحترف الأحزان” (ص72)
وحزنه كبرياء نسمع منه:
“حزني الكبير
ينزف في دفاتري (ص75)
حروف كبرياء”
ولماذا هذا الحزن الذي نحسه قبل أن ينطق به معترفـًا على كرسي الشعر؟
للإجابة على هذا السؤال سنتجول في المدينة.
يرتاد المقهى فيرى:
“من سداها
يولد الأبطال وتنمو المعجزات” (ص78)
وحتى تتم فصول التفاهة والخواء دخلنا فإذا الحديث:
“أنا لولا القص غاب
كنت أرديتك أجهزت عليك _” (ص79)
هذه هي المادة التي يصهر الشاعر فيها ذاته، لأجلها يصارع ويقاتل في الخيال:
” همد المقهى وظل التبغ مصلوبا
وأعقاب السجاير
جثث محروقة الأوصال” (ص79)

والشعر عند هذه المادة خطايا وكأنه يتفلسف، لذلك نجده يخاطب نفسه في الوطن:
“أيها الوطن المعلق على الشفاه
كقربة ماء
وتحت البطون كاللبن اللزج
لن أكتب لجراحك البيض قصيدة غزل
لأنني كنت طفلاً حين شربوك إبريقا
من القهوة الباردة” (ص144)

ومن خلال هذه النظرة التي يسميها البعض يأسا أو بعض يأس يتمثل له الشاعر قبرًا:
الشاعر يحلم بصوت يقطع الصمت… وكذلك فإن الشاعر يحلم أن يقطع الصمت، وأن يشرق نور ليحرق الليل…..ولكن من خلال محاسبة الذات.
الحزن أحيانًا يمتزج بشعور التفاهة إزاء الواقع:
“تورقت ملامح الصغار
كأنما الوجوه من ورق” ص113
ورق ورق….يكررها الشاعر ليعرفنا بالتمزق والأشلاء في مدينة “لا تحفل بالغرباء”.
الورق أحيانًا أغنية: الكراسة الرابعة سماها أوراق بين القمة والقاع، والديوان أغاني القمة والقاع، إذن فالورقة أغنية _ إذا تساوت الكميتان _ ولا عجب فالقمة عنده تظهر عهر السفح الواطئ.

الشاعر يبحث عن نفسه كثيرًا، يتفحص وجوده خلال الورق، وحياة لا توضع موضع التأمل لا تستحق أن تستمر كما يقول سقراط.

وأخيرًا،
أود لو أبدأ من جديد:
القصيدة الأولى _ الوصية أولاً _ (ص9) لا أملك أن أقول عنها أكثر من أنها زاخرة بالصور الملهمة كأنها لوحة _ يد الله _ التي أبدعها رودين، تحتاج إلى ذهن متفتح ومتخيل يستوعب ما فيها حتى حجرتيها، تتبين لك خطوط مأساوية وامتزاج بين الماء والنار يجمعهما في يده.
كنت أرجو أن تكون هذه القصيدة خاتمة تضاف إلى “أوراق بين القمة والقاع”، ويكون عنوانها الوصية أخيرًا…فما أروعها وصية تكاد تكون شرخًا في الرأس بتلاوينها وبتدليكها الخدر الذي شل حواسنا، كيف جرؤ عقل أن يفتتح بها الديوان ليلقمها القارئ الذي يسخر بمثل هذا الشعر، ويقول أن أصحابه عجزة ولا بد لهم من نهاية.
ولا بد من نهاية:
من تهنئة الرسام سابا الذي تعانقت خطوطه مع كلمات عقل.
انبثقت كلمات عقل صافية أصيلة، ثم رافقته متوترة… وعمرت كلماته بالرسوم بقدر ما عمرت خطوط الفنان
بالشعر.

…………………………………………..
نشرت أولاً في الملحق الأدبي لجريدة الأنباء 13 -10 -1972، ثم أعدت نشرها في كتابي “عرض ونقد في الشعر المحلي. القدس: مطبعة الشرق- 1976، ص 61.

ب.فاروق مواسي

1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة