د. سامي إدريس: قراءة في شعر أحمد فوزي ابو بكر

تاريخ النشر: 06/02/12 | 13:28

أرَقُ البلابل، وديوان مسروق السماء:

قراءة في شعر أحمد فوزي ابو بكر

أشُمُّ حَصى الدَّربِ دَمْعًا بِواديَ عاره

لكي أُذيقكم شهد القصيد، دعوني أستفتح وإياكم بهذه النفحات من قصيدة أبي بكر ” رمحٌ من الأساطير”، ذات المذاق الخاص. فإذا أطربكم الشعر فقد أطربكم النقد الرزين وقد بُلّغنا الأرب. ولتعلموا أن هناك حقيقة بِتُّ استشعرها في كل كتاباتي النقدية وهي أنه كلما ارتفع مستوى الشاعر الذي نحن بصدد تحليل قصائدة ونقدها، ارتفع مستوى النقد وازدهى، وزاد استمتاع الناقد بالكتابة واستمتاع القراء كذلك، حتى لتبدو كلمة الناقد قطعة فنية واحتفالاً مستوحى من عالم الشاعر السمفوني الرائع. ولتعلم عزيزي القارئ أن للشعر مهمة خطيرة، ورسالة عظيمة، كما هي للنقد الذي أعتبره مسؤولية عظمى ورسالة أشد خطورة. وقد شعرت بعد كتابتي لهذا المقال أنني انتقائيٌّ متحيّزٌ الى جانب الشاعر، حيث كان همّي امتاع القراء ، فاخترتُ القصائد الجميلة على ذائقتي، مبحراً في ديوان ” مسروق السماء “، وتجاهلت مجموعة هائلة من القصائد التي قد تمدنا بصورة أخرى، وقد ركزت في مقالتي على تعريف القارئ بالتناصّ، وهو تداخل النصوص، وذلك لأنني وجدت شاعرنا مولعاً بهذه الظاهره الأدبية .والله من وراء القصد.

” تَحُطُّ السُّنونو على كَتِفي في صَلاتي

أشُمُّ حَصى الدَّربِ دَمْعًا بِواديَ عاره

هُنا يَفْقَهُ الماءُ صمتَ الحِجارة

نساءٌ رحلنَ ودمعَ الشِّتاءِ عويلا

أَعُدُّ حَصى الدََّرْبِ ،كَمْ رَقَصَت

ها هُنا البَرْمَكِيَّةُ في مَوْلِدي

هُنا الصَّمْتُ يُشْجي القُلوبَ

وَيُبكي العُيونَ طَويلا ”

***

يغرفُ من بحر، ولا ينحتُ في صخر

والحقيقة أنه لكي يكتب الناقد العالم والملهم معاً ، بصدق عن شاعر معين، يجب عليه أن يبحر في تاريخه الحياتي،أي في سيرته الذاتية، بكل تقلباتها وطقوسها ومحطاتها، وفترات التراجع والتوقف، وفترات ذروة العطاء والتوهج،وهي بيانات هامة على طريق النقد لتعريف القراء بالشاعر.

وقد رأيت من خلال اطلاعي باستمتاع مثير على قصائد الشاعر أبي بكر المنشورة منذ سنوات الثمانين، أنه يغرفُ من بحر، ولا ينحتُ في صخر، وهذه الجملة لا أقولها عبثاً، وإنما تجارب الشاعر الحياتية ومخزون ذكرياته يدخل ويتداخل في توليفة عذبة في اللاوعي في عالمه الباطني ، فتخرج هذه الابداعات من ثورة التأمل الباطني، التي يكسوها ويغمرها بعطفه معرفة الشاعر الأدبية واللغوية واطلاعه على أوزان الخليل ابن أحمد الفراهيدي، وتهويمات علقت بذهنه من كبار الشعراء الذين قرأ لهم وحفظهم في صباه.

وينساب شعر أبي بكر انسياباً ثَرّاً متدفقاً سلساً في مضمونه ولفظه، بعيداً عن شعر الحداثة الغامض، وقريباً من الشعر الحر الحديث، وذلك في مجموعة كبيرة من قصائده الكثيرة من الشعر الملتزم الى الشعر الفلسفي، الى الشعر العاطفي الخاص الذي يجمع بين العاطفة والوطن والحالة الاجتماعية.

الرمز والتناص الديني في ديوان “مسروق السماء”

التناص في المفهوم الاصطلاحي المبسّط هو تداخل النصوص وأساسه التفاعل والتشارك بين النصوص، وهذا يقتضي الحفظ والمعرفة السابقة ومخزون من الحافظة للنصوص السابقة. وأعتقد أن المبدع أساساً لا يتم له النضج الحقيقي إلاّ باستيعاب الجهد السابق عليه في مجالات الابداع المختلفة.ولذلك كان النقّاد ينصحون الشعراء الناشئين بالحفظ من الشعر الكلاسيكي .

ويظهر التناص الديني في عدة قصائد لدى شاعرنا أبي بكر ، حيث وُظّفتْ في هذه القصائد الرموز الدينية توظيفاً جميلاً منحها مذاقاً خاصاً، ويبرز فيها شغف الشاعر بالتناص الديني ” Intertextuality المباشر أي بذكر مفردات وجمل دينية كما هي أو بتحريف بسيط يتناسب والسياق اللفظي والمضموني. كما حدث في قول الشاعر : ” جنة عدم ” تحويراً لجنة عدنٍ. وهناك التناص الإيحائي من الكتب المقدّسة مثل قصيدة “صلاة حرّة” و”لوحة بلقيس” حيث استخدم التناص التوراتي والقرآني وقصيدة “لست بقارئ” اعتمد بتناصّه على العهد الجديد وأيضًا في قصيدة قديمة هي “صالح للاستعمال” اعتمد على التناص القرآني حيث تذكر ناقة صالح المعجزة.

وأبو بكر شاعر يرى أن الكتب المقدسة والأشعار الكلاسيكية هي منبع الابداع

والبلاغة، وكل من يريد الابحار في محيط الشعر لا بد له من أن يشرب منها حتى يرتوي حتى الثمالة.

مثل قصيدته ” على هامش الوقت”، حيث يظهر التناص القرآني المباشر والايحائي باستعماله (سدرة المنتهى) ( البراق) الذي أبى أن يغادر مرعى السماء، والالماح الاستعاري في (صهوة المعجزات) يقودنا الى براق الرسول، كل ذلك في توظيفات مدروسة وموفقة فيها من التجديد ما ليس قليلاً:

على هامش الوقتْ..

كلابٌ تحاولُ قطع الطّريقِ على جنّة البرتقالْ

سوادٌ يشيرُ إلى سِدْرَةِ المنتهى

بُراقٌ أبى أنْ يغادرَ مرعى السّماء

وفي قصيدة: ” رمحٌ من الأساطير” يقول:

أطيرُ رذاذًا على صهوةِ المعجزاتِ

لتلمسَ كفّي بُراقَ الرّسولِ

وفي قصيدة ” كلمات على الطريق” يستخدم السبع المثاني وهي سورة الفاتحة، ويلمح الى الآية : لكم دينكم ولي دين، في قوله: لكم طريقٌ يا رفاقُ

ولي طريقْ :

اشرب من البئرِ،ارتوِ ،

واقرأ له السّبعَ المثاني

ثمَّ قُمْ نحو الطريقِ

وقُلْ لَهُمْ

للعاكفينََ على المقامِ

لكم طريقٌ يا رفاقُ

ولي طريقْ

وفي قصيدة ” صالح للاستعمال” يقول:

جدّهُ ملحُ الموانئِ

أُمّهُ ناقةُ صالحْ

صالحٌ صمت الترابْ

وفي قصيدة ” حلُمتُ/ أُغنّي ” يقول:

لأكتب إسمي على صخرة الكهف عند المغيبْ

وأذهبُ طوعاً لأوّل ومضة برقٍ أغيبْ

ويبقى الغناءْ..

وفي آخر قصائد الشاعر، قصيدة ” يا رحى” المنشورة في 3-1-2012، تصبح جنة عدن ” جنة عدم”

يا رحًى

يا جنَّةَ

..عَدَم

اطحَني قَمْحي

ودوري في عِظامي

نَشْوَةً في السُّكْرِ

تُنْسيني الأَلَم

وفي قصيدة ” يهودا وعيون الحمامة” يقول:

يهوذا,

عيونُ الحمامةِ قد أَخْبَرَتْني

بأنّ إلهكَ ليسَ إلهي

فقمْ إنّ فخّكَ في الإرتقابْ

فما قَتَلوهُ وَما صَلَبوهُ

ولكنَّ صَلْبَكَ طابْ

الأضواء ستخفت أمّا الكلمة فباقية

لكن الملاحظ عند شاعرنا الذي ينقاد إليه الوزن الشعري فيطوّعه في أداء وتصميم وتركيب متكامل، فيه شئ من التجديد وبلوغ الأرب من الشعر الذي يروي ذوّاقة الشعر، الملاحظ أنه تبدأ قصيدته بزخمٍ وعنفوان وتنتهي ذابلةً متهافتة نسبةً الى بدايتها، وأنا إذْ أتحدث عن شعر أبي بكر فإنما أعامله معاملة الشاعر الذي يمشي مرفوع القامة صلباً ، ويمكننا اعتباره في مصاف الشعراء المحليين من الصف الأول. فيجب أن يهتم للأخطاء المطبعية التي تصدم القارئ الغيور على لغة الضاد، والى ضبط الوزن في جميع أرجاء القصيدة. وشاعرنا مجرب في نظم الشعر متمرس في الأوزان المختلفة.

ولا أدري ، مع احترامي لراي الشاعر في قصيدة النثر، وعدم ايمانه بوجود موسيقى داخلية ، لا أدري كيف لم يتوصل الشاعر الى أننا في الطريق الى زوال الفروق بين الشعر والنثر، فكم هو عدد الشعراء المحليين الذين يمكنهم كتابة قصيدة موزونة لها معنى ، وأنا أعرف موقعاً محترماً لا ينشر إلا قصائد النثر المغرقة في الغموض . وأنا في سبيلي الى كتابة بحث عن تجربتي في كتابة الشعر على مجمع البحور والأوزان، فأجدني أنتقل في القصيدة الواحدة بين الوافر والرجز والكامل وقد أختمها بالرمل فما قولك بهذا؟ أليست هذه هي مرحلة التجديد القادمة . ومن درس الموسيقى يدرك ذلك جيداً. وكأني بالشاعر أبي بكر يكاد يعيد هنا ما قاله سابقاً: الأضواء ستخفت أمّا الكلمة فباقية. أو لنقتبس الآية الكريمة : فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. فالاختفاء وراء التعابير الغامضة،وكأن القصيدة غير مفهومة إلاّ للخاصة،يحطُّ من قيمة الشعر.

كلّ الرجال على السّواء منافقون

يأتي هذا القول في قصيدة مطولة تحت عنوان ” على رصيف السوق”، وذلك على لسان امرأة أبدع الشاعر في وصف تفاصيل حياتها، هي ” راقصة السوق” ووصف السوق في إحدى المدن المكتظة بالعشق” سوق الفاتنات ”

وقد ذكرتني هذه القصيدة بقصيدة شيخ شعراء المثلث الصديق محمود الدسوقي الذي ارتجل ارتجالاً قصيدة في وصف راقصة مصرية، وكان يحلو له ولجمهور أصدقائه إلقاؤها في المناسبات السارة :

مقهىً يعجّ بجلبةِ الغوغاءْ

كلّ الرجال منافقون على السّواءْ

ومقنّعون بكذبهم ومراوغون ..مداهنون

حتّى إذا نفذَ القضاء بصيدهم تركوه يغرق بالدماء

والسّوق سوق الفاتنات…

والكلّ أعمى لا يرى غير اهتراء الذّات فوق الأرصفة

حبّ التسوق في عيون الآخرين

حبّ التغندر بين بسطات العطور الزّائفة

بين اسطواناتٍ تضجّ بأغنيات الإكتئاب

بين أسمال الثّياب

لتعود بعد العصر تبكي الإغتراب

*

لقد أجاد الشاعر التصوير والوصف فأبدع هذه القصيدة،وأحسن اختيار حلبة المسرح وهو السوق الذي يعج بالكائنات البشرية من الرجال والنساء، وأحسن التركيز على شخصية هذه الراقصة التي تمشي بخيلاء في السوق، تتغندر بين بسطات العطور وأسطوانات الأغاني ، ولكنها تعود بعد العصر تبكي اغترابها وضياعها وعدم انتمائها الى ” السوق” الذي هو رمز للمدينة كلها، بدليل أنها تقول بيأس ثابت خائر القوى إن كل الرجال منافقون، صيّادون يصطادون ويرمون بصيدهم على قارعة الطريق بعد قضاء مأربهم ولذتهم الدموية منه. فهل في هذا القول جناية على الرجال أيها الشاعر؟ أم أنه تصوير لأنواع شرسة من الرجال المفترسين. مهما يكن من أمر فقد أبدعت في وصف هذا العنف اللا إنساني.

تأثر الشاعر بشعر أحمد حسين الكنعاني

ففي قصيدته ” أرق البلابل” يقول جامعاً مواطن الجمال الشعري كلها، مخاطباً الورد الذي هو في كامل الفوضى، ليعيد ترتيب أغنية الشاعر، ليقدم شهدها الى الملكة الكنعانية، وأظنه يعني بالملكة الكنعانية الآلهة ” عنات/ة” ربّة الحب،والخصب،والحرب.

ففي قصيدته ” أرق البلابل ” يقول:

يا أَيُّها الوَرْدُ الّذي في كامِلِ الفوضى

أعِد ترتيبَ أُغْنيتي

كما تَبْغي

كما تَرْضى

أُغَرِّبُ شَهْدَ أُغْنيتي إلى عَرْشٍ

لِكَنْعانِيَّةٍ في الأَرْبَعينَ

بِأَوْجِ لَيْلَكِها وَلَيْلَتِها

‫4 تعليقات

  1. العزيز د.سامي إدريس
    أشكرك جزيل الشكر على نقدك البناء وأرجو أن أكون دائما في المستوى الذي يليق بالقراء الأعزاء فقصيدتي هي كل ما أملك
    لقد سعدت برأيك الموضوعيّ الذي انحاز إلى القصيدة وليس إلى الشاعر
    وزاد سروري اعتباري من شعراء الصفّ الأول في شعراء فلسطين المحليين
    وأرجو أن أكون قادرًا على حمل هذه المسؤولية
    أما بالنسبة للقصيدة النثرية فهي حتى يمنا هذا لا يُعرف لها نموذجٌ يحتذى به وقد اختلط الحابل بالنابل من كثرة الكتبة لهذا اللون المسمى بالقصيدة النثرية فباتت الخاطرة قصيدة نثرية والسجع قصيدة نثرية والنثر العادي اذا وزعناه الى اسطر غير متساوية قصيدة نثرية حتى الصورة القلمية والبورتريه والسكيتش أيضا
    أما بالنسبة للأخطاء فهي سهوا هنا في الانترنت وقد تداركناها في الكتاب (مسروق السماء)
    تحيتي العطرة ولن أوفيك حقك أستاذي مهما قلت في كرم أخلاقك ونزاهتك

  2. ذهبت بمعية الشاعر احمد فوزي ابو بكر والشاعر راضي عبد الجواد والشاعر عادل خليفة الى البروة المهجرة حيث بيت محمود درويش ومدرسته الابتدائية . ومن مجمل الحديث الذي شدىبه الشاعر احمد والذي من عادته ان ينظمه شعرا قوله : ما اجمل طبيعة بلادنا ففيها الهليون والشومر والعكوب والخبيزة والزعتر” وذكر انه يتمتع بهذه الطبيعة . عندها بدأنا نأكل الشومر المتواجد حول مدرسة محمود درويش في البروة المهجرة. بطريقة ما علم محمود درويش بالامر اثر مقالة نشرت بصحيفة الحياة الجديدة في رام الله وكان ذاك سنة 2007. كان مفاجئا ان محمود درويش أعاد كلمات احمد فوزي ابو بكر حين قال في قصيدة طللية البروة :” يقول السائح جفف دمعتيك بحفنة العشب الطريّ أقول هذا آخري يبكي على الماضي”
    وهذا هو احمد في حبه للوطن ورموزه المبنية بالهشاشة والمكونة صلب ارتباطنا بوطننا يؤثر على محمود درويش في اشعاره الى درجة ابكائه.
    هذه المقالة ترتقي لتحليل راق شامل ومتمكن من اللغة والشعر والادب والثقافة وحب المجاز المرتبط بالوطن وجرحه وجرح الشعب الطريد وتبرز لنا الشعراء الذين هم حصى الوادي بعد ان يتبخر زبد شعراء ثقافة البيت المقتبس “وادخل اصبعك الطويل في دبر الاحد”
    اشكركم على هذا المقال الذي يمثل ركيزة لحركة نقدية ادبية جدية ينتظرها العالم العربي من الاهواز الى المحيط

  3. د. سامي حفظك الله ورعاك , لقد أضأت لنا طريقنا المظلم بسراج وهاج وأفضت علينا بوابل من العلم والمعرفة كعادتك فأصبح عرجون علمنا نخلا باسقا يكاد يناطح السماء , طبعا هذا كله بفضل كرمك وجودك العلمي السخي علينا جميعا فأمطرت من العلم مدرارا وأسقيت كتابا وشعارا , وأنا تلميذك الصغير الذي يدعو لك بالخير وطول العمر ليلا ونهارا

  4. أخي الشاعر أحمد فوزي أبي بكر، الشكر لك أولاً على أن متعتني بالاطلاع على ديوانك مسروق السماء، الذي يمكن كتابة عدة حلقات عنه. أرجو أن يكون اختياري للقصائد موفقاً.
    وأخي خالد محاميد أنني في تحليلي لبعض قصائد الديوان لم أعالج القصائد الوطنية وهي كثيرة وتحتاج الى مقالة منفردة
    وأخي أبا فريد أنت المعلم وشاعر الغزل الأول، فطابت لياليك دافئة بقصيدة جديدة.

    ن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة