الذاكرة والريف والسياسة
بقلم عبدالحق الريكي
تاريخ النشر: 21/06/25 | 12:39
لذاكرة والريف والسياسة
الحلقة الرابعة
من أجل رفع التعتيم عن مصير جدي: مراسلة رسمية إلى وزارة الخارجية والمندوبية السامية للمقاومة
في إطار سعيي الحثيث لكشف النقاب عن مصير جدي، موح الحاج أفقير، أحد أبناء الريف الذين رفضوا الانخراط في آلة القتل الفرانكية خلال الحرب الأهلية الإسبانية سنة 1936، وجهتُ مؤخرًا رسالتين رسميتين إلى كل من:
وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج
المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير
تهدف هاتان المراسلتان إلى إبلاغ السلطات المغربية بخطوة سأقوم بها، والمتمثلة في توجيه رسالة إلى ملك إسبانيا وعدد من الجمعيات الإسبانية الفاعلة في مجال حفظ الذاكرة التاريخية، وعلى رأسها الجمعيات التي تُعنى بضحايا نظام فرانكو.
في هذه المراسلات، عرضتُ باختصار مأساة جدي، الذي تمكن من الفرار سباحة من إحدى البواخر التي كانت تقله نحو جبهات القتال، ثم عاد سرًا إلى الريف، قبل أن يُعتقل في أجدير ويُصفّى لاحقًا في مدينة تطوان أواخر الأربعينات. لا قبر يُزار، ولا وثائق رسمية تُسعفني لمعرفة الحقيقة الكاملة. فقط روايات متفرقة، وألم عالق في الذاكرة العائلية.
لقد أردتُ من خلال مخاطبة المؤسسات المغربية أن أُعبّر عن إيماني بأن حفظ الذاكرة مسؤولية وطنية قبل أن تكون مطلبًا شخصيًا. إن رفع التعتيم عن قصص المقاومين المجهولين، خصوصًا أولئك الذين ذهبوا ضحية أنظمة القمع خارج أرض الوطن، يندرج ضمن معركة أكبر من أجل ردّ الاعتبار للتاريخ المنسي، والاعتراف بما قدمه أبناء الريف من تضحيات منسية.
هذه الخطوة ليست سوى بداية طريق طويل وشاق. أعي أن النسيان كان دائمًا أداة للإقصاء، لكنني أؤمن أن الكتابة والمساءلة والمراسلة الرسمية أدواتنا المتاحة اليوم لمواجهة هذا الصمت المتواطئ.
أكتب لا لأجل الماضي فقط، بل من أجل المستقبل.
من أجل أن يعرف أحفادنا أن في هذا الوطن من قاوم، ومن تمّ طمس أثره.
وأن في هذا الوطن من لا يزال يُطالب بالحقيقة والعدالة والكرامة.
مهم جدا:
“جميع الأفكار الواردة في هذا المقال تعبّر عن آرائي الشخصية. من يعرفني يدرك أن الكتابة ليست بالأمر السهل عليّ. أقول هذا من باب الأمانة والإنصاف، وأتحمل المسؤولية الكاملة عن كل فكرة وكل كلمة وردت فيه. وفي الختام، وكما يُقال في أروقة المحاكم، فإنني أتحمل وحدي كامل المسؤولية عن هذا المقال.”
بقلم :عبدالحق الريكي
الرباط، 20 يونيو 2025
« الذاكرة والريف والسياسة ».
الجزء الثالث
ضد النسيان: أكتب لأحتفظ بما يتلاشى
بقلم: عبد الحق الريكي
كثيرًا ما أجد نفسي جالسًا أمام الصفحة البيضاء،
بهذا الإحساس الغريب: ممتلئ وفارغ في آنٍ معًا.
ممتلئ بالقصص، بالوجوه المنسية، بالصراخ الذي اختنق مع الزمن؛
وفارغ من الكلمات التي تليق لسردها كما تستحق.
في هذا الفضاء الهشّ بين المحو والذاكرة، أكتب.
لا للتسلية، ولا حتى للإبداع – بل لأتذكر.
لأقاوم النسيان، أو على الأقل، لأبطئ زحفه.
منذ فترة، بدأت ذاكرتي تخونني.
تتشقّق، تتخلى عني، وتخذلني.
أنسى أسماءً، أماكن، وجوهًا كانت قريبة حدّ الألم.
وأتساءل: ماذا سيبقى، حين تبدأ الكلمات نفسها في الرحيل؟
ما يدفعني للكتابة اليوم ليس مجرد حاجة أدبية،
بل هو فعل بقاء.
ثمة استعجال: في الحكي، في الشهادة، في التسمية.
وفي قلب هذا الاستعجال: الريف.
أرضي، جرحي، حكايتي.
الريف ليس مجرد منطقة جغرافية،
إنه ندبة حيّة في ذاكرة المغرب.
جهة تجاهلتها الرواية الرسمية،
وسكتت عنها، أو شيطنتها.
لكن خلف ضجيج الانتفاضات،
وخلف صور الاحتجاج،
ثمة قصص أعمق:
عن عائلات اقتُلعت من جذورها،
عن منافي، عن ثورات خُنقت،
عن أحلام تحطّمت.
منها قصة جدي، موح الحاج أفقير،
الذي مات بصمت، ودُفن تحت إسمنت النسيان في تطوان،
ما بين 1947 و1949.
يُقال إنه هرب سباحة من باخرة حربية فرانكية سنة 1936،
رافضًا حربًا لا يؤمن بها.
ويُقال إنه حاول العودة إلى أجدير،
فأُلقي عليه القبض، وعُذّب، ثم أُعدم.
لا قبر، لا وثيقة رسمية، لا تكريم.
فقط اسم محرف: “موح الحاج أفقير”،
كما كتبته الإدارة الاستعمارية.
اسم أحاول اليوم أن أجعله يتكلم،
أن أبحث عنه في الأرشيف الإسباني،
وفي ذاكرة المتفرقين ممن عاشوا تلك السنوات السوداء.
لم يحظ جدي بنقشٍ على حجر،
أرغب أن تكون كلماتي تلك الحجرة الغائبة.
لا شاهدة قبر، بل حجر ذاكرة.
هذه المعركة الشخصية،
تتلاقى مع نضالات جماعية.
لأن حكايتي العائلية جزء من سياق سياسي أوسع:
النضال من أجل الاعتراف بذاكرة الريف،
بجرائم الماضي،
وبالعدالة للمنسيين.
لسنا بصدد إثارة أحقاد،
بل تصحيح علاقتنا بالتاريخ.
فالمجتمع الذي ينسى موتاه،
ويزور ماضيه،
يحكم على نفسه بتكرار الجراح ذاتها.
الكتابة أيضًا رفضٌ للصمت.
ذاك الذي يُفرض علينا،
أو الذي نفرضه نحن على أنفسنا.
طويلاً ترددتُ في البوح:
عن عائلتي، عن ألمي، عن هشاشتي.
بدافع الحياء، أو الخوف، أو التعب.
لكنني اليوم أعي أن الصمت محو،
وأن كل قصة مسكوت عنها،
وكل ذكرى مكبوتة،
تزيد من صلابة إسمنت الكذب واللامبالاة.
لهذا بدأت هذا المشروع:
أجمع مقالاتي،
وفتات ذاكرتي،
وتأملاتي السياسية والحميمية،
في كتاب بعنوان:
« الذاكرة والريف والسياسة ».
ليس كتابًا كغيره.
بل محاولة لإعادة البناء،
حجرًا بعد حجر،
وكلمة بعد كلمة،
لذاكرة مهدمة.
لا أبحث عن “الحقيقة” المطلقة،
بل عن حقيقتي أنا:
حقيقة رجل من الريف،
ولد بعد الاستعمار،
وطُبع بالانتفاضات والصمت.
أدرك أنني لا أكتب وحدي،
بل إن مئات، وربما آلاف من أبناء الريف،
يحملون في قلوبهم قصصًا مشابهة:
آباء مفقودون،
نضالات منسية،
وجراح بلا قبور.
أودّ أن يكون هذا الكتاب كتابهم أيضًا.
فضاءً للاعتراف والمقاومة.
يساعدني الذكاء الاصطناعي أحيانًا
في ترتيب أفكاري،
وتجاوز عراقيل صحتي،
لكن ما أمليه عليه
ينبع من أعمق مكان فيّ:
من ذاكرة مثقوبة،
ومن ألم دفين،
ومن حبّ عظيم للريف
ولأرواح من قضوا فيه.
الكتابة ضد النسيان ليست فقط فعلًا أدبيًا،
بل هي فعل وفاء.
لجدي. لأمي وأبي المتوفى. لأرضي. ولنفسي.
بقلم: عبد الحق الريكي
الرباط، الإثنين 16 يونيو 2025
« الذاكرة والريف والسياسة »
« الذاكرة والريف والسياسة ».
(الجزء الأول)
موح الحاج أَفْقِيرْ… رجل رفض أن يُقتل مرتين
بقلم: عبد الحق الريكي
للنشر والتعميم. هاتفي هو : +212661305858
لا أعرف الكثير عن جدي، موح الحاج أفقير. لم أره قط، ولم يحدثني عنه أحد طويلاً، لكن ظله ظل يرافقني منذ وعيت على معنى الظلم، والهوية، والمقاومة.
اسمه كان يُذكر في البيت نادراً، وبصوت منخفض. في ريفنا الجريح، حين يُقتل أحدهم مرتين—مرة بالرصاص، وأخرى بالصمت—تصير الحكاية ثقلاً تتوارثه الأجيال.
كان جدي من رجال الريف الذين لبّوا نداء محمد بن عبد الكريم الخطابي، وصعدوا الجبال يحملون الحلم والبندقية. قاوم الإسبان إلى أن فرضت السياسة، لا الرصاص، نهاية المعركة. لكن قدره لم يتوقف عند النضال من أجل وطنه.
مع اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية سنة 1936، بدأت القوات الفرانكية تجنيد شباب الريف قسراً لإرسالهم إلى جبهة لا يفهمونها. كانوا يُؤخذون من حقولهم، من بيوتهم، ليُزجّ بهم في معركة بين إسبان يقتلون إسباناً… حرب لا مكان فيها للريفي، إلا كوقود.
رفض جدي أن يكون جندياً في جيش الجنرال فرانكو. رفض أن يقاتل باسم من كان بالأمس يقتل أبناء قبيلته. فحكم عليه بالفرار… أو بالموت. اختار الفرار.
لكن رصاص الفرانكاويين كان أسرع. قُتل جدي وهو يحاول التملص من التجنيد القسري. لم يُحاكم، لم يُدفن بكرامة، لم يُذكر في وثائق. قُتل فقط، ومضى… كما مضى كثيرون مثله، سقطوا بصمت في هوامش التاريخ.
أحيانًا أفكر: ما الذي كان يدور في ذهنه في لحظاته الأخيرة؟ هل كان يرى وجه ابنيه، أو زوجته، أو عبد الكريم؟ هل كان غاضبًا، خائفًا، أم فخورًا بقراره الأخير؟
كل ما أعرفه أنني أحمل اسمه في دمي، وصوته في صمتي، ورسالته في قلمي.
حين أكتب اليوم عن الريف، عن السياسة، عن الخيانة والوفاء، عن الحلم والخذلان، لا أفعل ذلك ككاتب فقط… بل كحفيد لرجل رفض أن يكون مجرد ضحية. جدي، موح الحاج أفقير، لم يمت عبثًا. لقد علّمني، من دون أن أراه، أن الكرامة أحيانًا أغلى من الحياة.
بقلم : عبدالحق الريكي
الرباط، 10 يونيو 2025
.(الجزء الثاني)
جدّي الذي دُفن في صمت، تحت إسمنت النسيان
بقلم: عبدالحق الريكي
قال أحدهم :
“الذين لا قبور لهم، لا أحد يزورهم… لكننا نزورهم في ذاكرتنا، في شتات الصور، وفي ما لا يُقال.”
ظِلٌّ في البيت… وظلٌّ في التاريخ.
كبرتُ في بيت لا صور فيه لجدّي الا صورة يتيمة، ولا حديث عنه. لا قبر نزوره، لا يوم وفاة نُحييه، لا حكاية مكتملة تُروى عنه. كنت أسمع اسمه همسًا في كلام النساءوالرجال، أو في نبرة ارتباك حين يفتح أحدنا موضوع “أجدير” أو “عبد الكريم الخطابي” …
اسمه الحقيقي: موح الحاج أفقير.
أما الإسبان فسمّوه “إنريكي”. هكذا قرروا أن يحرفوا الأسماء، ويعيدوا صوغ الهويات كما يشاؤون. ومن هنا، حمل أحد أبنائه (أبي ومن بعد أنا وأولاد أبي وعمي)، عن غير وعي، ولكونه تم رفض (في فترة الاستقلال) أسماء مثل ” الورياغلي” “الأجديري”، لقب “الريكي”، ثم صار ذلك الاسم لقبًا للعائلة.
من أجدير إلى المجهول
كان جدّي من بني ورياغل، من أجدير، مسقط رأس الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي.وحارب مع هذا الأخير كما حارب كل الريفيين الأحرار ضد احتلال الريف من طرف المستعمر الإسباني. في صيف 1936، مع بداية الحرب الأهلية الإسبانية، جُنّد قسرًا للقتال مع جيش فرانكو. لكنه، كما يحكى، هرب سباحةً من الباخرة قبل أن تُبحر إلى جبهة القتل…
اختفى بعدها.
يُقال إنه وصل الجزائر، ومنها إلى الدار البيضاء (منطقة الحماية الفرنسية)، و”تزوج” هناك، وأنجب طفلًا لقّبوه بـ”وْلْدْ الريكي .لكن الحنين شدّه إلى أجدير، فعاد سرًا، ليلتقي بزوجته وأبنائه… وهنالك، انتهت القصة.
اعتقال… إعدام… ودفنٌ بلا شاهد.
تم اعتقاله فور وصوله إلى أجدير، ثم نُقل إلى تطوان، حيث جرت تصفية كثير من المقاومين في صمت. لكنه لم ينتهِ.
في تطوان، بالضبط في السجن المدني الاسباني، بين 1947 و1949 على الأرجح أو تاريخ آخر، تم إعدامه سرًا، ودُفن في منطقة تم لاحقًا تغطيتها بالإسمنت والبنايات في عهد الاستقلال. اليوم، تمرّ فوقه الشوارع والسيارات، ولا أحد يعلم أن تحت تلك الأرض، يوجد رجل اسمه موح الحاج أفقير مع آخرين…
الصمت الذي يخنق العائلات.
لم يكن الصمت اختيارًا، بل خوفًا… حتى داخل البيت، كانت أمي تخفض صوتها حين تتحدث عنه، وتطلب منّي ألّا أكرر كلامها خارج المنزل… قالت لي يومًا:
“والدك منعنا نحكيو فهاذ الشي، السياسة تجيب غير الصداع…”
لكنني لم أكن أرى في الأمر سياسة، بل بحثًا عن جدّي… عن ذاكرتي… عن معنى العدالة… لأنني رأيت أبي يبكي مرتين في حياته يوم يذكر أباه (أبي مات سنة 1999)…
لماذا أكتب الآن؟
لأني أخاف من أضيع ذكرياتي… لأني رفضتُ أن يُدفن جدّي مرتين: مرة في قبر مجهول، ومرة في ذاكرة ميتة. ولأني مؤمن أن الريف لا يشفى من جروحه بالنسيان، بل بالاعتراف. ولأني أعرف أنني لست وحدي… كثيرون يحملون نفس الحكاية بصيَغ مختلفة، لكنها تنتهي جميعها بنفس العبارة: “مات… وماعرفنا عليه والو.”
نداء مفتوح :
أتوجه اليوم، بصفتي حفيدًا لا مؤرخًا، لا باحثًا أكاديميًا، بنداء مفتوح إلى من يملك وثيقة، شهادة، صورة، أو سطرًا في أرشيف قديم عن الرجل الذي سمّوه “إنريكي”، وكان اسمه الحقيقي موح الحاج أفقير. أبحث عنه لا لأنني أريد الثأر، بل لأن الذاكرة أمانة، ولأن من لا يعترف بشهيده، يُعيد قتله كل يوم. خاصة ان هناك في إسبانيا يبحثون عن قبور”الجمهوريون، النقابيون، اليساريون، وكل من عارض فرانكو”…
إنني أكتب لأُحرّر ذاكرة أمي – أطال الله في عمرها لأنها قربت المائة سنة من عمرها – وخاصة أبي رحمه الله …
ولأعيد الاعتبار لرجلٍ لا قبر له، لكن له في قلبي، وفي الريف، مقامٌ لا يُمحى.
لا أبحث عن ثأر. بل عن حقيقة…
لأن الذاكرة أمانة…
لأن من لا يعترف بشهده، يعيد قتله كل يوم….
مهم :
ورغم أن الكتابة لم تكن سهلة عليّ، فقد ساعدني الذكاء الاصطناعي، ومنحني فرصة التعبير عمّا كان مستعصيًا. ومع ذلك، فإن جميع الأفكار الواردة في هذا المقال تعبّر عن آرائي الشخصية وحدي. أقول هذا من باب الأمانة والإنصاف، وأتحمّل المسؤولية الكاملة عن كل فكرة وكل كلمة وردت فيه. وكما يُقال في أروقة المحاكم: إنني أتحمّل وحدي كامل المسؤولية عن هذا المقال.
بقلم: عبدالحق الريكي
الرباط، الجمعة 13 يونيو 2025
للنشر والتعميم. هاتفي هو : +212661305858
מציג את 20250617_112732.jpg.