بين التجديد والأنسنة: الإنسان في مواجهة العدم
بقلم: رانية مرجية
تاريخ النشر: 05/06/25 | 16:09
في زمنٍ تتكالب فيه الأيديولوجيات وتمزق فيه الحداثة المتأخرة أوصال الروح، تنبع الحاجة إلى وقفة تأملية حقيقية في مفهومي التجديد والأنسنة، لا باعتبارهما شعارين تائهين في كتب النقد والتنظير، بل بوصفهما خيارين وجوديين في معركة الإنسان المعاصر مع التفاهة، والقمع، والنسيان.
فما معنى أن نُجدّد؟ وهل التجديد فعل تقني مرتبط بالشكل والأسلوب، أم هو ثورة داخلية تطيح بالموروث البالي لتعيد للذات كرامتها؟ وما معنى الأنسنة، في وقتٍ يُختزل فيه الإنسان إلى رقمٍ في خوارزمية، أو بندٍ في موازنة، أو “حالة” عابرة في نشرات الأخبار؟
أنا ابنة الرملة، حيث العشب ينبت من بين حجارة المساجد المهجورة، وحيث التاريخ لم يُمحَ، بل كُتم تحت طبقات من الإسفلت والخرائط المصطنعة. أكتب من رائحة بيارات البرتقال، من بقايا الكنائس الأرثوذكسية القديمة، من حارات لا تزال تحفظ أسماء أهلها الذين طُردوا منها دون وداع.
أكتب اليوم، لا لأنتصر لمذهب أو أرفع راية مدرسة، بل لأصرخ، كما يليق بابنة مدينة فلسطينية جُرحت في الذاكرة، في وجه الحداثة الزائفة التي شوّهت الإنسان وخلّدت البضاعة.
التجديد: سؤال وجود لا شكل
لطالما نظرنا إلى التجديد من زاوية أدبية جمالية، فنتحدث عن كسر البنية، وتحطيم القوالب، ونبذ التقليد. لكن هل يجوز لنا أن نُجدد في اللغة والفكر ونبقى أسرى بنى مجتمعية وقيم مستبدة؟ أليست الحداثة الحقيقية تبدأ من تحرير الإنسان لا النص فقط؟
التجديد، كما أراه، هو قدرة الكائن على اجتراح المعنى في زمن اللامعنى، وهو أن تعيش كما تشاء لا كما يُراد لك. أن تكتب قصيدة لا تُرضي الرقابة، أن تحب من تُريد دون إذن قبيلة، أن ترفع رأسك في حضرة سُلطةٍ غاشمة، وتقول: “أنا مختلف، وسأبقى”.
في مجتمعاتنا العربية، نُربى على الطاعة، ونُعاقَب على التفكير. نجدد في الخطاب، لكن لا نجرؤ على تجديد المفهوم. نتحدث عن الحرية، ولا نمنحها لأطفالنا. نجمل الخطاب الديني، ونُبقي على أدوات القمع. فهل هذا تجديد؟ أم تزويق للقديم بطلاء جديد؟
الأنسنة: ما تبقّى من الروح
في خضم سباقٍ محموم نحو الرقمنة، والذكاء الاصطناعي، والتفوق البيولوجي، تبدو الأنسنة محاولة بائسة لإنقاذ ما تبقى من الإنسان. لكنها ليست كذلك. الأنسنة ليست رفاهًا ثقافيًا، بل معركة يومية. أن تُنصت لوجع الآخر، أن ترفض العنصرية، أن تحسّ بجوع فقير، أن ترى اللاجئ إنسانًا لا عبئًا، أن تكتب شعراً عن طفل تحت الأنقاض لا عن حورية البحر في باريس.
في عالمنا العربي، نحتاج الأنسنة أكثر من أي وقت مضى. نحتاجها في مدارسنا، في مناهجنا، في إعلامنا، في سلوكنا اليومي. نحتاج أن نُعيد الاعتبار للإنسان، لا المواطن فقط، للمرأة لا الأداة، للمثقف لا البوق، للمريض لا الرقم في ملف.
بين الأنسنة والتجديد: لا خلاص إلا بالتحرير
التجديد بلا أنسنة يتحول إلى موضة فارغة، والأنسنة بلا تجديد تتحول إلى بكائيات لا تغيّر شيئاً. وحده التقاطع بين الاثنين يخلق فعلاً تحرريًا حقيقيًا، نابعًا من الوجع، لا الاستعراض؛ من الهامش، لا من أبراج المثقفين العاجية.
أكتب لأقول: لن ننجو إن لم نعد اختراع الإنسان. الإنسان الحر، المفكر، العاشق، الرافض، الحالم، الكاسر للقيود. الإنسان الذي لا يهاب أن يكون ذاته، حتى في حضرة الموت.
فهل نُجدد لنُجمّل الزنزانة؟ أم لنكسر جدرانها؟
وهل نُعيد للإنسان إنسانيته في الشعر فقط؟ أم في سياساتنا ومؤسساتنا وقوانيننا؟
الجواب ليس عندي، ولا في الكتب، بل في قلوب من يرفضون الصمت