النضال الحقوقي بين ذاكرة الجمعية وحدود الوطن المقدسة

عبده حقي

تاريخ النشر: 05/06/25 | 15:00

لا يحتاج الحديث عن الجمعية المغربية لحقوق الإنسان إلى مقدمة مطوّلة، فهي واحدة من أقدم المنابر والأصوات الحقوقية في المغرب بل والعالم العربي ، ورافعة حقوقية طالما لعبت أدواراً مفصلية في الدفاع عن الحريات وحقوق الأفراد. لكن، كما في كل التجارب الجمعوية الكبرى، تأتي لحظات مفصلية يُطرح فيها السؤال الأكثر إلحاحا وإزعاجاً: هل ما زالت الجمعية وفية لنفس المسار الحقوقي؟ أم أن بوصلتها قد اختلّت تحت وطأة الاصطفافات الإيديولوجية وحسابات لم تعد تضع حقوق المغاربة من طنجة إلى لكويرة ضمن أولوياتها ؟

النداء الأخير الذي وجهه بعض أعضاء الجمعية إلى المناضلين للعودة إلى صفوف الجمعية، قد أعاد إلى السطح نقاشاً مزمناً حول معنى الانتماء الحقيقي إلى مشروع وطني، وحول طبيعة الخطوط الفاصلة بين النضال المدني والاختراق السياسي. فالدعوة إلى العودة، كما وردت، تبدو للوهلة الأولى محاولة لإعادة اللحمة إلى جسمٍ عرف كثيراً من محاولات الانقسامات الفاشلة . غير أن العودة، في حد ذاتها، لا تكفي إذا لم تسبقها وقفة صادقة في نقد الذات، ومساءلة جوهرية للمواقف.

إن الخلاف الجوهري لا يكمن في الأساليب ولا في الآليات، بل في الثوابت والمرجعيات. حين يصبح الحديث عن الوحدة الترابية للمملكة المغربية موضوعاً قابلاً للتأويل أو يُطرح بصيغة ملتبسة، فنحن لا نكون أمام اجتهاد حقوقي مشروع، بل أمام خيانة ضمنية للإجماع الوطني. والوحدة الوطنية ليست وجهة نظر، بل حجر الأساس لكل فعل حقوقي نزيه وصادق. فمن لا ينطلق من هذا المعطى، يفقد تلقائياً الحق في التحدث باسم هذا الوطن أو الادعاء بالدفاع عن أبنائه.

لقد أدّت بعض التصريحات الصادرة عن قيادة الجمعية، وفي مقدمتها الدكتورعزيز غالي، إلى زعزعة ثقة عدد من المناضلين والمتابعين للشأن الحقوقي، إذ باتت تُقرأ في سياقات تتقاطع ــ أو على الأقل لا تتصادم بما يكفي ــ مع خطاب جبهة “البوليساريو” وصانعيها ومناصريها. وهنا يكمن الخطر الأكبر: أن تنزلق جمعية كانت إلى عهد قريب مرجعية وطنية في الدفاع عن حقوق الإنسان، نحو هامش تفقد فيه هويتها، لا لشيء سوى أنها رفضت الانتماء الصريح إلى قضية الوطن الأولى.

إن النضال الحقوقي، مهما صدق وعلا صوته، لا يمكن أن يُبنى فوق رمال التشكيك في السيادة. والحياد الذي يدّعيه البعض في قضايا حساسة كقضية الصحراء، ليس إلا وجهاً من وجوه التواطؤ المشبوه، حتى وإن تزيّن بأقنعة الحياد المقنع. لا أحد يطلب من الجمعيات أن تتحول إلى أدوات في يد الدولة، ولكن على الأقل، ألا تصبح أدوات في يد خصوم الوطن.

هنا، يظهر البعد الأخلاقي في كل هذا النقاش. فالوطن ليس زيا يُلبس عند الحاجة ويُخلع عند أول اختلاف في الرأي. الوطنية ليست عاطفة فقط، بل التزام عملي يتجلى في التفاصيل، في الخطاب، في التحالفات، وفي الصمت حين يجب الكلام. لا يمكن أن تدافع عن العدالة وأنت تقف في نفس الصف مع من يشككون في شرعية الوطن. ولا يمكن أن تطلب العودة إلى “البيت الحقوقي” وأنت ما تزال تفتح أبوابه لرياح الشك والهدم.

إن المغرب لا يعاني من قلة الأصوات المنتقدة، ولا من غياب الجمعيات أو الحركات الاحتجاجية، لكنه يعاني من الازدواجية في المواقف : أن يرفع البعض شعارات النبل الحقوقي في العلن، بينما يرتّب في الكواليس مصالح ضيقة تتقاطع مع أطروحات سياسية خطيرة. لهذا، فإن الحديث عن العودة إلى الجمعية يجب أن يكون مقروناً باعتذار واضح للتاريخ، ومراجعة داخلية عميقة تعيد ضبط البوصلة نحو قيم الانتماء الوطني.

لعلّ أكبر خطر يتهدد العمل الحقوقي في المغرب، اليوم، ليس في تضييق الدولة وحصارها أو في رقابة القوانين، بل في تهجينه من الداخل عبر خطاب مزدوج: ظاهره يدافع عن الإنسان في بعده الكوني ، وباطنه ينخر أسس الكيان. في مثل هذه اللحظة التاريخية، نحتاج إلى جمعيات ترفع راية الوطن أولاً، ثم راية الكرامة والحرية في إطار السيادة الكاملة، لا إلى منابر تتحول إلى أبواق أجنبية تحت غطاء النضال.

قد تكون الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بحاجة إلى المصالحة مع روادها ومناضليها، ولكن قبل ذلك، هي في حاجة إلى مصالحة صريحة مع الوطن في شمولية مقدساته. فكما لا نبني بيتاً مشتركاً تحت سقف متصدع ، لا يمكن أن نؤسس نضالاً حقوقياً على خطاب رمادي، يساوي بين الدولة والعدو، بين الوطن والمشروع الانفصالي.

الاختيار الآن واضح، ولا يحتمل التأجيل أو المواربة: إما أن تكون الجمعية صوتاً وطنياً صادقاً في الدفاع عن حقوق الوطن والمواطنين معا، أو أن تتحول إلى منظمة لا فرق بينها وبين تلك التي تهتف باسم حقوق الشعوب وهي قد تسهم في تفكيك الأوطان.

في النهاية، هناك جملة تختصر كل هذا السجال: لا حقوق دون وطن، ولا حرية بدون ولاء للوطن، ولا كرامة إن لم تبدأ من وضوح الانتماء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة