سلاح الخبز في حرب الإبادة

د. جمال زحالقة

تاريخ النشر: 05/06/25 | 15:17

تزايد خلال الأسبوع الأخير عدد ضحايا مشروع توزيع «المساعدات الإنسانية» الإسرائيلي -الأمريكي ليصل إلى ما يربو على مئة شهيد، ومئات الجرحى. وإذ من الصعب إيجاد تبرير مباشر لهذا السلوك الإسرائيلي في إرفاق وجبات الطعام بوجبات الدم، فإن التفسير يكمن في المبدأ الناظم لحرب الإبادة وهو أن القاعدة هي إطلاق النار والقتل، والاستثناء هو «السماح» للفلسطيني بالبقاء على قيد الحياة.
في البداية «تباطأت» ماكينة الدعاية والتضليل الإسرائيلية في تبرير ما تقوم به قوّاتها من استهداف للمدنيين طالبي الإغاثة، لكنّها ما لبثت أن شنّت هجوما من الأكاذيب لطمس الحقيقة بالادعاء بأن «حماس تكذب» وأن جنودها أطلقوا النار لإبعاد من خرجوا عن المسار المسموح بالمشي فيه، ورددت الناطقة بلسان البيت الأبيض الرواية الإسرائيلية، واضطرت صحيفة «واشنطن بوست»، من أهم وسائل الإعلام في العالم، إلى «التراجع» عن عدم تحقّقها من نشر خبر عن استشهاد 27 فلسطينيا صباح الثلاثاء الماضي، مع أن منظمة الصليب الأحمر المحايدة أكّدت الخبر. هنا تبرز الحاجة إلى «ملاحقة» الأكاذيب الإسرائيلية وتفنيدها لأنّها من أهم أدوات امتصاص الضغوط وحشد «الشرعية» الدولية لمواصلة حرب الإبادة في غزّة، وليس من الدقيق القول إنه « لم يعد أحد يصدّق إسرائيل»، فالبعض ما زال يصدّقها أو تشوّشه أضاليلها.
لم يحمل أحد من طالبي الإغاثة الإنسانية سلاحا، ولم يهدد أيٌّ منهم جنديا إسرائيليا أو مجنّدا أمريكيا في «مراكز المساعدات»، فالناس جاءت، في هذا السياق، للحصول على الطرود الغذائية، وليس للاصطدام مع قوّات الاحتلال. وهذا ما لم تستطع حتّى الابواق الإسرائيلية نفيه، لكنّها حاولت تحميل حماس المسؤولية، بالادعاء أن مقاتليها هم من أطلقوا النار على الناس «لمنعهم من التوجّه لمراكز المساعدات». ولإثبات عدم تورّط الجيش الإسرائيلي في قتل 27 فلسطينيا يوم الثلاثاء، استند موقع القناة 12 الإسرائيلية إلى شريط نشره يوم الأحد، فوفق المنطق «قتل رصاص يوم الأحد الناس يوم الثلاثاء». وذهب الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي اللفتنانت جنرال آفي دبرين، إلى أن حماس «أطلقت النار في الأيام الأخيرة» دون إشارة مباشرة إلى الثلاثاء، وأضاف أن «الجيش قام بإطلاق نار الإبعاد.. وحماس تكذب». تحاول إسرائيل أن تربح من كل العوالم، فهي تقتل وتدمّر كما تريد، وتفرض الجوع على الناس، وتلجأ إلى استعمال «سلاح الخبز» في حرب الإبادة. في المقابل تعرض نفسها أمام العالم كمن تقدم «المساعدات الإنسانية للناس»، وتحمّل حماس مسؤولية قتل طالبي الإغاثة. بموازاة ذلك تواصل حربها الإجرامية وتوسّعها، وتلقي الذنب على حركة حماس لأنّها ـ كما تقول «رفضت خطة ويتكوف»، بخصوص الهدنة المؤقّتة، وتتهمها بالتعنّت، لأنها تصر على إنهاء الحرب. وتسعى إسرائيل بالمجمل إلى التخفيف من حدّة الانتقادات الدولية، عبر نشر روايتها الكاذبة والمضللة، وحين لا يصدّقها الناس تأتي بالمزيد. المجرم بحاجة للكذب للتغطية على جريمته ومنفتح على روايات عديدة، والضحية من مصلحتها كشف الحقيقة، وليس لها سوى رواية واحدة. وما تنشره بعض وسائل الإعلام عن روايتين متساويتين، في تجاهل لبنية الحقيقة حول الجريمة، هي خدمة للمجرم وخيانة لأخلاقيات المهنة، إذن ما معنى التعامل مع الحقيقة والكذب بالدرجة نفسها من المصداقية؟

سياسة إسرائيل في حرب الإبادة في غزة هي رصاص وتجويع وتلويح بالخبز، وكلما اعتقدناها وصلت إلى الدرك الأسفل، نراها تبدع في الانحطاط من قاع إلى قاع

لقد انطلق الفلسطينيون وأنصار قضيتهم في العالم من السطوة الأخلاقية لقضية شعب فلسطين العادلة، وهذا ما يجب الاستمرار فيه، والتأكيد عليه أكثر وأكثر، لأن هذا هو الصحيح أوّلا، ولأن أنصار العدالة في بلادهم يدعمون العدالة في العالم بشكل شبه تلقائي، إلّا إذا وصلتهم معلومات مشوّهة، وعليه يجب مضاعفة الجهود في تسخير «سطوة الحقيقة» لفضح أكاذيب إسرائيل، وعدم الاكتفاء بإدانة جرائمها. إن الاستناد إلى «سطوة العدالة والحقيقة» المزدوجة هي مفتاح توسيع وتفعيل التضامن العالمي مع شعب فلسطين، الذي يتعرض اليوم لكارثة من صناعة إسرائيل والولايات المتحدة. إن «مؤسسة غزة الإنسانية» هي أبعد ما يكون عن الإنسانية، وهي في حقيقتها جزء لا يتجزّأ من حرب الإبادة، وترمي في ما ترمي إليه إلى تعبيد طريق تهجير أهالي قطاع غزّة، عبر حشرهم في منطقة ضيّقة ومواصلة خنقهم، حتى يفرّوا من الجحيم في أول فرصة يفتح فيها الباب. وقد فضح مؤسسها الرسمي ورئيسها الأول جيك وود، الأهداف الحقيقية للمؤسسة، واستقال مؤكّدا أنه لا يمكن من خلالها الالتزام بالقواعد الأساسية للإغاثة الإنسانية السامية. وهذا الأسبوع أعلنت شركة «مجموعة بوسطن الاستشارية»، التي قدّمت خدمات أساسية لمؤسسة غزة الإنسانية، عن انسحابها ما شكّل ضربة قوية لأن هذه المجموعة تلعب دور محوريا في إدارة المشروع الأمريكي الإسرائيلي. وجاء إعلان مؤسسة غزة للإغاثة الإنسانية عن تعيين القس الأنجليكاني جوني مور، رئيسا لها، ليكشف حقيقة أمرها وتوجهاتها العامّة، فمور هو من أشد الداعمين لترامب ومن أقرب المقرّبين من نتنياهو، وله أيضا علاقات متشعّبة في دول الخليج. هو يدّعي أنه يقوم بنشاط في «التفاهم بين الأديان»، وقد عمل في إدارة ترامب السابقة في هذا المجال. لكن مراجعة سريعة لتصريحاته وتدويناته على منصات التواصل الاجتماعي، تُظهر أنّه يتقبّل المسلمين فقط إذا كانوا داعمين لإسرائيل، أو متصالحين معها. ويمكن الاستدلال على سياساته المتوقّعة من خلال مواقفه المعلنة بخصوص غزة، فهو أوّلا دعم مقترح ترامب بالنسبة لتولي الولايات المتحدة مسؤولية إدارة غزّة (بعد طرد سكّانها) وكتب «الولايات المتحدة ستتحمّل المسؤولية الكاملة عن مستقبل غزّة، ما يمنح الجميع الأمل والمستقبل»، وثانيا وجّه انتقادات لاذعة للأمم المتحدة واتهمها بتجاهل من «يسرق المساعدات»، مشيرا إلى أن منظمات الإغاثة الدولية فشلت في تقديم حلول فعّالة، وثالثا تغاضى عن جرائم جيش الاحتلال قائلا إن «ضحايا حماس هم الفلسطينيون أنفسهم».
ينتمي جوني مور إلى تيار المسيحية الأنجليكانية الصهيونية، الذي يؤمن بأن دعم عودة اليهود إلى «أرض الميعاد» هو استجابة لمشيئة إلهية، وهذه «العودة» هي شرط لتحقيق نبوءات الخلاص النهائي، والعودة الثانية للسيد المسيح. إضافة إليه ينتسب السفير الأمريكي في إسرائيل القس مايك هكابي، إلى التيار نفسه. ولعل في هذين التعينين إشارة إلى أن ترامب يفتح مجالا واسعا لتأثير الأنجليكانيين على كل ما يتعلّق بغزة وبفلسطين عموما، في حين يستبعدهم عن قضايا أخرى «مهمّة لإسرائيل» مثل إيران وسوريا واليمن والعلاقة مع دول الخليج. وإذ يشكّل الأنجليكانيون حوالي ربع الناخبين في الولايات المتحدة، فإن تأثيرهم السياسي على الحزب الجمهوري هو من الوزن الثقيل. لكن علينا أن ننتبه إلى أن هناك أقلية مهمة داخل هذا التيار، وبالأخص بين الشباب، لا تقبل بالدعم الأعمى لإسرائيل، وترفض «وضع السياسة فوق القيم الإنسانية».
لقد قامت «مؤسسة غزة الإنسانية» بهدف استبعاد مؤسسات الإغاثة الدولية المستقلة والمجرّبة عن العمل في القطاع المنكوب، وبغية إخضاع المساعدات الإنسانية التي يحتاجها الناس في غزة للأغراض والغايات الإجرامية الإسرائيلية، المتمثّلة في حرب الإبادة الجماعية والتدمير الشامل والتهجير القسري وفرض الاحتلال على غزة. وتدعي إسرائيل ومعها الولايات المتحدة والقائمين على المؤسسة بأن مشروع الاستجابة الإنسانية الجديد كفيل بحل مشكلة المجاعة في غزة. لكن إلى الآن وصلت طرود الغذاء إلى 110 آلاف إنسان في أحسن الأحوال، وذلك وفق ما أُعلن عن توزيع حوالي 20 ألف طرد يكفي الواحد منها لخمسة أشخاص ونصف (ما هذا النصف؟) لمدة ثلاثة أيام ونصف اليوم، ويعني هذا أن مليوني إنسان لم يحصلوا على ما يغطي حاجاتهم من طعام. وإذ تدّعي المؤسسة أنها في البداية فقط، فإن مشروعها المعلن حين يجري تفعيله بالكامل سيزوّد مليون إنسان فقط بالغذاء، فما مصير المليون المتبقّي؟ هنا تنكشف مناورة إسرائيل بتقسيم أهالي غزة إلى قسمين: الأول يحصل على طعام والثاني لا يحصل على طعام، الأول يشكر الاحتلال على مكارمه والثاني يسعى لاسترضائه علّه يشفق عليه ببعض الفتات.
سياسة إسرائيل في حرب الإبادة في غزة هي رصاص وتجويع وتلويح بالخبز، وكلما اعتقدنا أن الدولة الصهيونية وصلت إلى الدرك الأسفل، نراها تبدع في الانحطاط من قاع إلى قاع ومن حضيض إلى حضيض. ولعل بصيص الأمل في أن الضمير العالمي بدأ يصحو، وربما يصحو الضمير العربي أيضا.
*كاتب وباحث فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة