فلسطيني حتى النخاع
تاريخ النشر: 03/09/24 | 16:52التقيت بالدكتور نبهان عثمان غانم مرّة واحدة في بيت صديق مشترك، ودار بيننا حديث حول دور المثقّف، وتجربتي مع “اليسار” الصهيوني في أزمنة عابرة، وحين وصلتني نسخة من كتابه “الثقافة الاستعمارية والألم البشري” تساءلت بيني وبيني هل أقف مرّة أخرى لأقابل “مثقّفاً” آخر من مثقّفي الرفاه من خلال كتاباته؟ هل أقرأ طبعة جديدة من كتاب “الخديعة… منظمة الفساد الفلسطينية” لغسان أبو العلا؟ هل أتصفّح طبعة جديدة من كتاب “ستّون عاماً من الخداع-حركة فتح، من مشروع الزعيم إلى مشروع التصفية” لمحمد سعيد دلبح؟
تساءلت بيني وبيني: هل أقف في خط المواجهة مع مثقّف رفاه ممّن مارسوا الانتهازيّة بحرفيّة مستغلّين أزمة أبناء شعبنا، متلوّنٍ ومنافقٍ، طُفيليٍّ مراوغٍ، متسلّقٍ لأبعد الحدود، وما أن وصل سنّ التقاعد واعتزل الوظيفة حتّى تقلّب رأسًا على عقب. يلعب دور المثقّف الانتهازيّ، يغطّي تواطؤه بالكلام المعسول والمزاودة، ويبدأ بالشعارات الرنّانة لعلّه يبيّض بعضًا من ماضيه ويلمّع صفحته وصفحة أسياده؟
شاركت صباح الجمعة الفائت ببرنامج إذاعي بمناسبة اليوم الدولي لذكرى الاتجار بالعبيد وإلغائه؛ وفشّة غلّ، قرّرت أن أبدأ بقراءة الكتاب، وما إن وصلت إلى ما كتبه عن عبوديّة القرن 21 (ص 82) وعبوديّة الديون، على مستوى الفرد والمجموعة، فالناس يستقرضون الأموال، وكذلك الدول، ويصبحون بين ليلة وضحاها عبيداً للمُقرِض، تروحنت!
الكتاب مجموعة من “المقالات والدراسات والخواطر”، صدر عن دار جفرا ناشرون وموزعون في الأردن، حرّره وراجعه الكاتب فراس حج محمد، لوحة الغلاف للفنان الفرنسي البارون أنطوان جين جرو (لوحة زيتية بعنوان “مقتل الجنرال كليبر”؛ وهو الجنرال الذي سحق ثورة القاهرة الثانية واغتاله سليمان الحلبي) وصمم غلافه الفنان رمزي الطويل، ويقع في (270) صفحة من القطع الكبير. وتوزعت على ستة فصول؛
تناول الفصل الأول الذي حمل عنوان “السياسة والتنمية” خمسة مقالات: لنقرأ التاريخ، وكيف نبني الوطن، ودور السلطة الوطنية الفلسطينية منذ نشوئها في التنمية: الإنجازات والإخفاقات وغيرها.
أما الفصل الثاني فحمل عنوان “بؤس البدايات وخيبة النهاية”، وفيه مقالات حول النقد والنقد الذاتي، وكيف ذهبت للدراسة في تشيكوسلوفاكيا، أحوال الشعب الفلسطيني متعثرة وإمكاناته المالية مبددة وطاقاته العلمية مهملة، عقلية النهب والفساد الدولية، وصعاليك بمراتب قيادية وغيرها.
وتوقف في الفصل الثالث عند معركة طوفان الأقصى وما يتعلق بها؛ موقف جنوب إفريقيا، سمو نضال الشعب الفلسطيني، وإعادة هيكلة تفكيرنا وأساليبنا وآلياتنا، والدولة الفلسطينية الديمقراطية الواحدة وغيرها.
أما الفصل الرابع فناقش قضايا سياسية وحضارية من منظور قومي، تحت عنوان “العرب أمة واحدة وفي الشرق مستقبلها”؛ تناول أسباب تخلف أمتنا العربية، والتقدم التقني ليس مقياسا للحضارة، تركيا دولة شرقية أم دولة غربية، والتيار القومي العربي وفلسطين وغيرها.
وجاء الفصل الخامس تحت عنوان “أوروبا الشرقية بين عقيدتين”، الرأسمالية والاشتراكية، فناقش أكذوبة حرية السوق الدولية… وأكذوبة الاقتصاد الحر، ودول مزقها الغرب: تشيكوسلوفاكيا، ودول ضلت الطريق أوكرانيا… وعمى الألوان، والتجربة الصينية في التنمية وغيرها.
وختم الكتاب في الفصل السادس بمجموعة من “الذكريات والخواطر”، ليتحدث فيه عن جوانب ذاتية وشخصية.
يوجّه الكاتب رسالة مفتوحة “إلى شرفاء وأحرار العالم”؛ لأولئك الذين لا يحتاجون إلى جهد لإدراك الأخطار التي تواجه البشرية. ولأولئك الذين سمت قيمهم الإنسانية إلى السماء. وأولئك الشرفاء في العالم، الذين ملؤوا الشوارع والميادين بأجسادهم وأصواتهم، معلنين رفضهم لإبادة الشعب الفلسطيني، ومعلنين وقوفهم ودعمهم لنضال الشعب الفلسطيني. ومعلنين إدانتهم لكل المجرمين والمستبدين في العالم أينما كانوا، وذكّرني بآلاف المتطوّعين الذين ساندوا الثورة في حينه وذاك الزخم والمدّ في دعم قضيّتنا، وتلاشى كلّه مع الوهم الأوسلويّ المقيت، ويا خوف قلبي يتلاشى ثانية مع الخذلان من موقف رام الله؟
كتب في الفصل الأول مقالة بعنوان ” لنقرأ التاريخ” فجاءتني مقولة أستاذي سرحان في الصف الأوّل ثانوي في مدرسة الرامة: “ندرس التاريخ كي نعرف الماضي لنعيش الحاضر ونؤمّن المستقبل”. هل فعلاً تعلّمنا من أخطاء من سبقونا وأمّنّا المستقبل؟ وتلته مباشرة مقالة تحمل عنوان “كيف نبني الوطن” وعند قراءته مثنى وثلاث ورباع تذكرت لقاء جمعني بوزير سابق في السلطة الفلسطينية في إحدى مطاعم حيفا حين تباهى بأنّه نجح بتجنيد 80 مليار دولار في العشر سنوات الأخيرة، فابتسمت قائلاً “أكيد 60 منها عملت (يوتيرن) ورجعت لحسابات شخصيّة في بنوك أجنبية” فامتقع لون وجهه ومن يومها انقطعت العلاقة بيننا.
لفت انتباهي أنّ الكثير من “قادتنا” يُحمّلون الاحتلال فشلنا ببناء الوطن، ويتشدّقون به كشمّاعة نعلّق عليها الفشل المتواصل، وذكّرني بمؤتمر لأمنستي (منظمة العفو الدوليّة) شاركت به في ثمانينيّات القرن الماضي في الرباط، وحين إدارتي لإحدى الندوات تحدّث مشاركٌ وجاء في كلمته تسع مرات خلال خمس دقائق أنّ الاستعمار هو السبب في انتهاكات حقوق الإنسان في بلده، فسألته إذا كان يعرف متى تحرّرت بلده من الاستعمار؟ فلم يعرف الجواب، وطبعاً كان ذلك قبل ولادته بسنين.
جاء فصل آخر تحت عنوان “دور السلطة الوطنية منذ نشوئها في التنمية: الإنجازات والإخفاقات”؛ وضحكت حين قرأت ما كتبه “الكثير منا تابع أو أشرف على العديد من المشاريع المموّلة بتلك الأموال، فمعظمها ذهب إلى الخبراء والمستشارين واللقاءات والمؤتمرات، وورش العمل والدراسات، وما بقي سوى القليل القليل صرف على أنشطة بعيدة كل البعد عن إيجاد تنمية حقيقيّة” (ص. 56)، وأخذتني مجدّدا لـ (N.G.OS) والبروبوزال والمعاشات والمصاريف التي تلتهِم، عادةً، أكثر من 80% من المدخول والميزانيات.
جاء في الفصل الثاني تحت عنوان “القيادة الحكيمة تبحث عن الكفاءات” وتذكّرت قصّة صديق لي عمل في إحدى الجامعات بموضوع تخصّصه، دكتور علوم سياسيّة، وصدمته حين اتصل به أحد الزملاء خلال العطلة الصيفيّة ليواسيه بسبب استبدال دكتور صيدلة به، ولم يعلمه أحد بذلك، وكذلك الحال مع زوجته، حاملة دكتوراه في علم الوبائيّات، ولم يتم قبولها لأيّة وظيفة كانت بفترة الكورونا، لأنّ زوجها (برسونا نان غراتا)، بينما سافر مدير مستشفى رمبام خصيصاً إلى أمريكا ليقنع نسيب صاحبي بالعودة للعمل هناك!
كتب د. نبهان بجرأة ودون مواربة ليتساءل: “لو سألنا عاملا من عمالنا أن يستغني عن تصريحه الإسرائيلي للعمل في إسرائيل وأن يعمل في وطنه؟ فإن جوابه معروف لي ولكم وهو الرفض” (ص 123)، والله صعبة! وتناول، مرّ الكرام الصادم تجارة تصاريح العمل ووضع الطبقة الكومبرادوريّة المنتفعة، اقتصاديا، من الاحتلال وامتيازاته.
ينتقد الكاتب بحرقة الزيف في خطاب وتصرّفات متنفّذينا، ويقول على لسان صديقة مؤرخة وكاتبة أوروبية الجنسية: “أنتم تعيشون كبرجوازيين وتتحدثون عن الفقراء والمظلومين وعن النضال والكفاح ضد الاستعمار وتطالبون بالعدل والحرية، ألا تعلم أن بساطة العيش والزهد في الدنيا والصدق في القول والعدل والإنصاف في الممارسة والتفاني بالعطاء أهم سلاح لمقاومة الاستعمار وأقصر الطرق للوصول إلى قلب الشعوب” (ص 134)، وهذا ما أسمعه كل الوقت من إيفا شتّال ونِستور، من مونيكا ماورير وساندرو، ودوناتيلا، ولينا فريدريكسون وبيورن وغيرهم كثر من أصدقائي الأجانب.
نعم د. نبهان؛ قول الحقيقة أصبح واجباً وطنياً لا مفر منه (ص 234).
راق لي لجوئه إلى السخرية السوداويّة القاتلة؛ “كيف تصبح قائداً” (ص 264)، “موقف محرج” (ص 239)، وفي خاطرة “صديق عرفته من الخلف” (ص 241) وزيارة الأخ الكبير، فامتنعت عن زيارة أصدقاء صاروا وزراء ومتنفّذين في أماكن عملهم، وقبل فترة وجيزة رتّبت موظّفة للقاء مع محقّقة من الأمم المتحدة في رام الله، وقبل يومين من اللقاء تواصل معي عدّة معارف وأصدقاء يعملون في وزارة ما مرحّبين “أهلين أستاذ، أنت عنا يوم الخميس بالوزارة؟ فاستغربت جداً، وإذ بالموظّفة تبعث لي برسالة صوتية، العاشرة مساءً، ليلة اللقاء الموعود، تعلمني أنّ مكان اللقاء تغيّر، وسيكون في مبنى الوزارة، فطبعاً لم أجبها وفضّلت زيارة حرائر الدامون.
راقت لي خواطره النابعة من تجربة حياتيّة زاخرة.
“لجنة اختيار مدير عام” (ص 113)؛ ذكّرتني بقصّة كتبتها في حينه بعنوان “والله متحيّر”؛ سأل المحامي ممثّل الجمهور في لجنة التعيين، حول اختيار راشد، وبيّن له أنّ محمداً وأحمد من حملة الدكتوراه وهما أكثر كفاءة للوظيفة، بينما راشد يفتقد للمؤهلات الأساسيّة اللازمة، فأجاب بعفويّة مطلقة “تحيّرنا بين أحمد ومحمد واخترنا راشد”. (بالمناسبة؛ أحمد هو أحمد مصالحة المذكور بصفحة 262، رحمه الله)، وكذلك الحال بقصّة صديق لي، باحث في العلوم السياسيّة، حائز درجة الدكتوراه في النظم السياسية المقارنة، تقدّم لوظيفة فكان خمسة أعضاء لجنة التعيينات من طلّابه و/ أو من أرشدهم بالماجستير، فخجلوا منه، وأخبره رئيس اللجنة “والله يا أستاذ مستحي منّك، أنت أفضل من تقدّم للوظيفة، ولكن التعليمات إنّا نقبل غيرك”!
“سائق سيارتي” (ص 116)؛ أخذتني للقاء بإحدى أسيرات الدامون، اشتغلت كمجنّدة أموال لمؤسسة عملت بها، ونجحت بتجنيد عشرات ملايين الدولارات، ومعاشها الشهري ثلاثة آلاف شيكل، وحين اعتقالها تم توجيه تهمة لها أنّ الأموال التي جنّدتها استُغلت لدعم “الإرهاب”، حقّقوا معها بالنسبة لأحد الموظفين في المؤسسة، يتقاضى ثلاثين ألف شيكل شهرياً، فأجابتهم أنها لا تعرفه، ولم تشاهده في المؤسسة في الخمس سنوات الأخيرة، وحين واجهوهما معاً في غرفة التحقيق اجهشّت بالبكاء، عرفته من شاشات التلفزيون ولم تلتقِ به في المؤسسة ولو مرة واحدة!
“إثبات الذات” (ص 252)؛ “سألتهم لماذا تعملون في وظائف عادية في هذه الشركة بينما آباؤكم يملكون شركات وبنوكاً ضخمة؟ أجوبتهم كانت مركزة على أن آباءنا أثبتوا قدراتهم في الحياة، وعلينا نحن أيضاً أن نثبت قدراتنا في الحياة”. شتّان بين هؤلاء اليابانيين وبين روّاد شارع الطيرة في نصاص الليالي.
ملاحظات لا بدّ منها؛ ميكو (وليس نيكي) بيليد، رومان فنكلشتاين (وليس فلكنشتاين)، تصريح (وليس وعد) بلفور المشئوم.
اعتراف؛ ضحكتُ عالياً حين قرأت ما كتبه عن صديقي منجد صالح (ص.249)، صوّرت الصفحة وبعثتها له، تماماً كما فعلت حين قرأت في حينه ما كتبه الكاتب المقدسيّ محمود شقير عن صديقي عبد الحميد صيام، منجد صالح عن ديمة السمّان، نبيل طنوس عن صفاء أبو خضرة وغيرهم كُثُر.
نصيحة لك عزيزي نبهان؛ لا تصدّق الوهم المارتاويّ (ص 184) ولا تعوّل عليه، “ما بحرث الأرض إلّا عجولها”. نقطة!
وأخيراً؛ نعم عزيزي نبهان،
من المؤسف، بل المؤلم، أن صاحبك، في منطقة بداية شارع الإرسال، صاحب الضمير والرؤى والمسيّس والمثقف وصاحب القيم والأخلاق على الرصيف، إلى جانب أمثاله من الكفاءات الفلسطينية (ص 246)
الأوطان ليست مائدة طعام نتناول منها ما يطيب لمذاقنا، بل هي عطاء القادرين وتضحيات المناضلين وإخلاص العاملين وكرامة الشرفاء ودعم الضعفاء والفقراء ومسح دمعة أم ثكلى ورسم ابتسامة على وجه طفل حزين.
حين أنهيت قراءة الكتاب وجدت نبهان فلسطينياً حتى النخاع، وليس من مثقفي الرفاه.
[*] مداخلة ألقيت في حفل إشهار الكتاب، مقهى حنظلة الثقافي/ رام الله، 31/8/2024.