د.روز اليوسف شعبان:النجاح والعطاء في السيرة الغيريّة لمحمد موسى السلحوت

تاريخ النشر: 29/10/23 | 18:14

ابن العمّ ” أبو شكاف” سيرة غيريّة، للكاتب جميل السلحوت، إصدار الرعاة للدراسات والنشر، وجسور للنشر والتوزيع، عمّان، 2023.

تُعرّف السيرة الغيريّة بأنها إحدى أنواع التعبير الأدبي الكتابي، والتي تختص بالحياة الشخصيّة لشخصٍ ما، حيث يقوم المؤلّف بإعادة بناء حياة الشخص الذي يكتب عنه بتفاصيلها بناءً على وجهة نظره الشخصيّة، بالطبع بالاعتماد على الدلائل الموجودة سواء أكانت مُصوّرة، محكيّة أو مكتوبة. غالباً يتم النظر للسير الغيريّة بأنها إحدى أنواع التاريخ، خصوصاً تلك التي تتحدّث عن الحياة الشخصيّة لأحد الشخصيات البارزة، ولا يخلو الأمر من بعض العوائق أثناء كتابة السير الغيرية، إذ أنّ التحدي الأكبر خلال كتابة السير الغيريّة هو الحصول على المعلومات بشتى الأساليب والطرق والتأكّد تماماً من صحّتها.(ويكبيديا).

عناصر السيرة الغيريّة الناجحة

تشتمل السيرة الغيريّة الناجحة على عدّة عناصر يتمّ كتابتها بشكل متسلسل وبأسلوب ممتع هي:

تاريخ ولادة الشخص ومكانها، بالإضافة لتاريخ الوفاة في حالة الكتابة عن شخص قد فارق الحياة.

معلومات عن عائلة الشخص المكتوب عنه.

الإنجازات والأحداث الهامّة في تاريخ حياة الشخص.

تأثيرات الشخص التي قدّمها للمجتمع.

للحصول على سيرة غيريّة ناجحة لابد من الاستناد في كتابة المعلومات للأدلة والحقائق، بالإضافة لكتابتها بشكل مثير للاهتمام، خصوصاً في الجملة الأولى للسيرة، إذ يجب كتابتها بطريقة تحفيزيّة جذّابة ومثيرة للاهتمام.(ويكبيديا).

بعد قراءتي للسيرة الغيريّة التي كتبها الكاتب جميل السلحوت، والتي من خلالها سرد سيرة حياة ابن عمّه محمد موسى السلحوت، يتّضح أن هذه السيرة الغيريّة اشتملت على جميع عناصر السيرة الغيريّة الناجحة، وبذلك يمكن القول إن الكاتب جميل السلحوت وُفّق في كتابتها وحقّق هدفه الذي عبّر عنه في كلمته حين قال:” هو قدوة يقتدى، وسيرته تشكّل قدوة ليس لأبناء العائلة فقط، وإنما لأبناء شعبنا وأمّتنا فهو ذكي بالفطرة، شهم كريم بالوراثة، بنى نفسه بنفسه، تعلّم وعمل وجدّ واجتهد، وبنى نفسه من الصفر. عسى أن يستفيد من سيرته ويسترشد بها جيل الأبناء والأحفاد الجادّين في البحث عن مستقبل مشرق”.( ص 17-18).

ولا شكّ أن الكاتب جميل السلحوت أحبّ ابن عمه وأعجب بشخصيته وذكائه، ورأى به قدوة، وقد دفعه حبّه لأبناء شعبه، كتابة هذه السيرة؛ حتى يأخذوا منها العبر.

ولد محمد موسى السلحوت الملقّب” أبو شكاف” عام 1942، في بيت من شعر الماعز في بيئة رعويّة فقيرة في منطقة السواحرة،” منطقة الحزيم”، التي نزحت إليها عائلته لاحقا في حرب 1948، من جبل المكبر. شبّ محمد في ظروف غاية في القسوة والحرمان، وعانى من شظف العيش، فوالده موسى كان يعاني من الإعاقة الحركية، بعد تفجير قامت به الحركة الصهيونيّة في القدس، ولم يكن له أي دخل سوى مردود عدد من الأغنام لا يصل 30 رأسا من الغنم البيّاض، فاضطرّت والدته للعمل في غزل النّول ونسجه وبيعه؛ لتتمكن من الإنفاق على عائلتها.

ويعود سبب لقبه” أبو شكاف” الى حادثة حدثت له حين كان طفلا رضيعا، حيث أخذته والدته معها إلى الأرض لتعمل فيها، ووضعت رضيعها في “شقاف” لتحميه من برودة الهواء، فانهار جزء كبير من صخر” الشقاف”، فصرخت والدته ظنّا منها أنّ رضيعها تحت الصخرة الضخمة المنهارة، لكنهم وجدوه حيّا بين تلك الصخرة وحائط” الشقاف” الداخليّ، ولم يصب بأذى، فأطلقوا عليه لقب “أبو شكاف ” بتغيير القاف إلى كاف حسب لهجة أهل المنطقة”.

تعلّم محمد في مدرسة ابتدائيّة في بلدته السواحرة، وتابع تعليمه الإعداديّ في مدرسة صور باهر المجاورة لجبل المكبّر، وتبعد 2 كيلومتر عن بيته، وكان محمد وزملاؤه يذهبون الى المدرسة ويعودون منها سيرا على الأقدام، وينتعلون صنادل “الكاوتشوك” صيفا وشتاءً. اضطر محمد للعمل، فعمل عتّالا على الحمار، وذلك بتحميل الطحين والأرزّ الذي كانت توزعه وكالة غوث اللاجئين” الأونروا”، داخل باب الأسباط في القدس القديمة، كما باع الجريدة والأسكيمو. ثم التحق بالمدرسة الرشيديّة في القدس، وبعد أن حصل على الثانويّة العامّة سافر الى السعوديّة؛ ليعلّم في مدارسها، وبعد أن ادّخر بعض النقود سافر إلى أمريكا وتعلم في جامعة هيوستن في ولاية تكساس هندسة الكهرباء، ثم انتقل للعمل الحرّ ونجح نجاحا مبهرا، حيث عمل في الصرافة، وبنى مراكز تجاريّة، وطوّر شركته المصرفيّة التي كان لها ثمانية فروع، واعتبرت شركته ثاني أكبر شركة صرافة في تكساس(ص125).

تأثيرات محمد موسى السلحوت وخدماته للمجتمع:

عام 1994 كان محمد السلحوت من المؤسّسين الرئيسيّين للمركز الثقافي العربي في هيوستن، حيث يتم تأجير قاعة المركز لأبناء الجالية العربيّة في المناسبات المختلفة كالأفراح والمآتم والمحاضرات والاحتفالات بالمناسبات الوطنيّة. وفي الطابق الثاني توجد غرف صفيّة لتعليم اللّغة العربيّة للأطفال والكبار، وقد نجح المركز بتوحيد أبناء الجالية الفلسطينيّة بشكل خاصّ والعربيّة بشكل عام، للتضامن مع القضايا العربيّة القوميّة.

دعم” أبو شكاف” عائلته ماديًّا، كان محمد عضوا في جمعية العرب الأمريكيّين ضد العنصريّة، وقد بنى علاقات مع جمعيّات ومؤسّسات خيريّة، لها نشاطاتها الاجتماعيّة والثقافيّة والوطنيّة والسياسيّة، ويقدّم لها تبرّعات سخيّة باستمرار. منها المركز الثقافي العربيّ في هيوستن، مركز القدس الثقافيّ الطبيّ، مؤسّسة لتأسيس ملاعب أطفال في فلسطين، مؤسسة “لينارد”؛ لتوفير بعثات جامعية للطلاب الفلسطينيين في مخيّمات اللاجئين، مؤسّسة عدالة، فلسطين للمحاماة وغيرها…(ص-151 150).

تطرّق الكاتب جميل السلحوت في هذه السيرة الغيرية، لمواضيع اجتماعيّة وسياسيّة وثقافيّة وتربويّة، وعادات وتقاليد كانت شائعة في سنوات الأربعينات والخمسينات والستّينات، فكتب عن تربية الأهل لأولادهم، التمييز الصارخ بين الذكور والإناث، مكانة المرأة المتدنيّة وعدم احترامها أو الأخذ برأيها أو مشاورتها وخاصّة في زواجها، كما كانت تتعرض للضّرب بسبب ودون سبب. مع ذلك كان للمرأة دور أساسي في العمل في البيت، وتربية الأولاد، والعمل في الحقول، والنسج والحياكة، وحلب الأغنام وإعداد اللبنة والجبن والسمنة والزبدة.

ومن الأمثال الشعبيّة التي ساقها الكاتب (ص 34) والتي تبيّن مكانة المرأة المتدنيّة ما يلي:

” اللي بتموت وليته من حسن نيته”.

” البنات مثل خبيزة المزابل”.

” دلّل ابنك بغنيك ودلّل بنتك بتخزيك”.

“ابنك إلك وبنتك لغيرك”.

” خير ابنك إلك وخير بنتك لغيرك”.

وكان للجدّ دور مركزي في العائلة فهو صاحب الرأي والمشورة في زواج حفيداته، أو أي أمر آخر يتعلق بالأسرة.

كما تطرق الكاتب جميل السلحوت الى موضوع الصحة وعدم الوعي لدى الأهل للنظافة والصحة واعتمادهم في علاج أبنائهم على وصفات شعبيّة كانت تضرّ بأبنائهم، فكانوا مثلا يعالجون سماط الأطفال بوضع تراب أحمر بدل البودرة، وكان التراب يلتصق بجلودهم الغضّة، فيسلخ بشرتهم دون رحمة(ص 34). ومن علاج الأطفال عندما يصابون بالحصبة أو السعال الديكي أنهم كانوا يسقون الطفل المريض ملعقة من حليب أتان “حمارة”. كما كانوا يكوون الطفل بمسلّة حديديّة تحت لسانه، ويعتقدون أن من لا يُكوى سيكبر أخرسا(ص 36). كما أنهم لم يعرفوا تطعيم الأطفال ضد الأمراض الشائعة؛ لذا فنسبة الوفيات كانت مرتفعة بين الأطفال، إضافة إلى انتشار مرض الشلل.( ص 38).

أمّا علاج من يمرض من الأطفال والكبار، فكان يتراوح بين قراءة التعاويذ على الطفل المريض، وبين الجعدة المغلية وهي نبتة شديدة المرارة، وبين الكيّ بالنار على البطن.(ص 35).

من خلال هذه السيرة الغيرية كشف لنا الكاتب جميل السلحوت، سيرة ابن عمّه ” أبو شكاف”، هذه السيرة التي امتازت بالتحدي ومواجهة الصعاب والكفاح والنجاح الباهر وتحقيق الأحلام في بلاد العم سام، بلاد الفرص السانحة، وتحقيق الطموحات والأحلام لمن يعرف كيف يقتنصها ويستثمرها جيّدا. وأبو شكاف كغيره من الأشخاص الطموحين، قصد بلاد العم سام بهدف تحقيق الأحلام والثراء، فاستطاع باجتهاده وذكائه تحقيق ما صبا إليه، واقتنص الفرص التي سنحت له بحكمة ودهاء، فهو لم يكن كبعض الأثرياء الذين انشغلوا بثرائهم عن هموم مجتمعهم وشعبهم وانغمسوا في ملذات الحياة، بل على العكس من ذلك، فالثراء الكبير والمناصب الرفيعة التي حصل عليها “أبو شكاف” لم تبعده عن قيمه وأخلاقه التي تربّى عليها، فبقي إنسانا محبا لوطنه وخاصّة للقدس، وفيًّا لأصدقائه وخاصّة الكتّاب الكبار: جميل السلحوت ومحمود شقير و خليل السواحري، داعما لشعبه ووطنه متبرعا للكثير من المؤسسات والجمعيّات الخيريّة.

هذه السيرة إذن، هي نموذج حيّ لإنسان مكافح عانى من الفقر وشظف العيش، لكنّه كدّ وتعب وحقق النجاح، فهو قدوة لشبابنا. إضافة إلى ذلك فإن هذه السيرة غنيّة بالمعلومات عن الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسيّة والتربويّة، التي سادت المجتمع العربي في القدس قبل عدّة عقود.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة