رواية “طيور المساء” في ندوة اليوم السابع

ديمة جمعة السمان

تاريخ النشر: 12/05/23 | 15:27

القدس: 7-5-2023 من ديمة جمعة السمان: ناقشت ندوة اليوم السابع الثقافية المقدسية رواية “طيور المساء” للكاتبة الفلسطينيّة أسمهان خلايلة، صدرت الرواية عام 2021 عن دار الهدى للطباعة والنّشر كريم 2001 م. ض. في كفر قرع وتقع الرّواية التي صمّم غلافها الفنّان مبدّا ياسين في 159 صفحة من الحجم المتوسّط.

افتتحت النقاش مديرة الندوة ديمة جمعة السمان فقالت:

مجزرة كفر قاسم التي سقط فيه 49 شهيدا بأيادي الغدر والإجرام الصهيوني غداة 29 تشرين 1956، تطلعنا على أحداثها الكاتبة خلايلة، على لسان شهود عيان، كتب الله لهم العمر ليرووا أدق التفاصيل والمشاهد الموجعة التي شاهدوها بأم أعينهم، وعاشوا رعب اللحظات التي تم فيها اغتيال أرواح بريئة مسالمة، كانوا يركضون خلف لقمة العيش.

جريمة تؤكد أن الاحتلال الصهيوني ما هو سوى دراكولا، يهتك الأعراض ويقتل الأرواح لينفذ مخططاته الاحتلالية دون أي وازع من ضمير.

وفقت الكاتبة باختيار أسلوب الرواية، فلم يكن تقليديا، وعلى الرغم من أن أحداثها كانت تتأرجح بين زمنين، أحدهما كان عام 1956 عام المجزرة، جاء بأسلوب الاسترجاع على لسان شخوص الرواية، الذين كانوا شهود عيان وعلى علاقة وثيقة مع ضحايا المجزرة، يروون الأحداث في السبعينات من القرن الماضي، وهم يعيشون قهر استغلال الاحتلال لهم، وتحويلهم إلى عبيد في أراضيهم التي صودرت ولا حول لهم ولا قوة، وتدخّلهم بشؤونهم الحياتية والاجتماعية والتعليمية، إذ كان الاحتلال يتصدى للمدرس الوطني، ويعزز التّابع لهم ولأنظمتهم التجهيلية إلخ من أمور حياتية أخرى، تعمل على إذلالهم وتزيد من مآسيهم.. وعلى الرغم من كل هذا التأرجح والانتقال من حدث إلى آخر.. ومن زمن إلى آخر إلا أن الرواية لم تفتقر إلى عنصر التشويق، بل استطاعت الكاتبة أن تربط خيوط الأحداث بطريقة ذكية حاكت من خلالها رواية محكمة متماسكة، قدمت من خلالها بعض التفاصيل التي غابت عن البعض، وأحيت الذاكرة عند البعض الآخر.

رواية وثقت لحظات يندى لها جبين الإنسانية، 49 شهيد سقطوا في مجزرة، تم اختيار تاريخها بعناية، قاصدون إخفاءها، إذ استغل الاحتلال توقيت العدوان الثلاثي على مصر، وانشغال العالم بهذا الحدث الكبير، ليمرروا جريمتهم تحت ذرائع مختلفة عنوانها أمن إسرائيل، بينما كان خطتهم تهجير أهل القرية، لكي يثبتوا روايتهم الصهيوتية، بأن فلسطين أرض بلا شعب.

وثقت الكاتبة التراث الفلسطيني من خلال الأمثال الشعبية والأغاني التراثيّة الأصيلة، في كل مناسبة، فأغنت العمل الروائي، وزادت من جماليته.

لفتني في الرواية اختيار الشخوص، ووصفهم الدقيق ليومياتهم وعلاقاتهم كأناس بسطاء يبحثون عن أرزاقهم، مما خدم أهداف الرواية، وأنسن قضية فلسطين العادلة.

أعجبني قلم الكاتبة الجميل، فقد كانت اللغة بسيطة غير معقدة، بدت طبيعية بعيدة كل البعد عن التكلف، وخدمت أهداف الرواية، إلا أنّني أعتقد أن استعمال اللهجة العامية لن يكون في صالح انتشارها في العالم العربي، إذ أنها لن تكون مفهومة لأشقائنا العرب.

كنت أتمنى لو أنّه تمّت مراجعة الرواية قبل نشرها؛ لتجنب الأخطاء المطبعية واللغوية، التي لم تكن في صالحها.

التركيز على التعايش الفلسطيني الإسرائيلي لم يكن موفقا، بل بدا دخيلا لا يخضع للمنطق.. فهل ممكن أن يعيش الحمل والذئب تحت سقف واحد؟

أمّا الأجمل في الرواية كانت فكرة العرس الجماعي لتسعة وأربعين زوجا، وهو عدد شهداء المجزرة. كانت رسالة قوية مفادها أن الشعب الفلسطيني لا يهزم، لأنه يحب الحياة ويبحث عن الفرح في كل مكان وزمان، رغم كل مآسيه وأوجاعه.

أقترح ترجمة الرواية لكي يطلع العالم على تفاصيل واقعنا المرير، ويفضح الاحتلال ويعرّيه.

وقال جميل السلحوت:

أسمهان خلايلة كاتبة فلسطينيّة من مجد الكروم في الجليل الفلسطينيّ الأعلى، تكتب الخاطرة والقصّة والمقالة، وهذه هي رويتها الأولى -حسب علمي-.

مضمون الرّواية: تتحدّث الرّواية عن مجزرة كفر قاسم التي ارتكبها الجيش الإسرائيليّ في 29 اكتوبر 1956م غداة العدوان الثّلاث على مصر، والذي اشتركت فيه بريطانيا وفرنسا واسرائيل. وأزهقت في هذه المجزرة أرواح تسعة وأربعين شخصا بين رجل وامرأة وطفل. ومنهم نساء حوامل، وكان الهدف منها هو إجبار من تبقّى من الفلسطينيّين في ديارهم على الهرب من ديارهم إلى المناطق العربيّة المجاورة كالضّفّة الغربيّة.

الأسلوب: مهّدت الكاتبة لروايتها ببعض الحوادث والحكايات التي تحدث في كلّ قرية، مستعينة بعدد من الأمثال والأغاني الشّعبيّة، التي جاءت في مكانها الصّحيح، وكأنّي بالكاتبة هنا تريد أن تدلّل على الثّقافة الشّعبيّة، التي من خلالها يستطيع الباحث أو القارئ الحاذق أن يقف على طريقة تفكير أيّ شعب إذا ما اطّلع على ثقافته الشّعبيّة، وقد طغى الأسلوب الحكائيّ الإنسيابيّ على السّرد.

التّمهيد للحدث الرّئيس وهو المذبحة: مهّدت الكاتبة لروايتها بثمانية فصول، امتدّت على ثمان وتسعين صفحة قبل دخولها إلى مذبحة كفر قاسم، وهذا التّمهيد لم يكن نشازا، ولا غريبا عن الحدث الرّئيس، فهو يحوي حكايات عديدة ومريرة عن معاناة الفلسطينيّين الذين صاروا أقلّيّة في وطنهم داخل حدود إسرائيل التي قامت كدولة في 15 مايو 1948 على 78% من أراضي فلسطين التّاريخيّة، بعد أن تشرّد منهم 950 ألفا في أصقاع الأرض بسبب ويلات الحرب.

اللهجة المحكيّة: أغرقت الكاتبة في استعمال اللهجة المحكيّة، لأنّ شخوص روايتها ومنهم معلّم المدرسة مروان وابنه فارس الذي درس الهندسة الغذائيّة، هم أناس شعبيّون مندمجون في قضايا شعبهم وهمومه، فمروان كان عضوا في الحزب الشّيوعي الإسرائيليّ، رغم ما يعني هذا من معاناة أثناء خضوع من تبقّى من أبناء شعبنا الفلسطينيّين في ديارهم في النّكبة الأولى عام 1948م للحكم العسكريّ، الذي استمرّ من العام 1948 حتى 1965، والذي لم يكن يسمح للفلسطيني أن ينتقل من بلدته إلى أخرى دون تصريح من الحاكم العسكريّ. ومعروف أنّ من كشف المجزرة وفضحها هما عضوا الكنيست عن الحزب الشّيوعي الرّاحلين ماير فلنر وتوفيق طوبي، وهما من قادة الحزب الشّيوعيّ الذي لعب دورا رئيسيّا ومهمّا في الحفاظ على الهويّة العربيّة الفلسطينيّة، وعلى اللغة العربيّة من خلال صحافته” جريدة الإتحاد، ومجلّتا الجديد والغد”. واستعمال اللهجة المحكيّة يدخلنا في متاهات حول استعمالها في الكتابة أو عدمه، لسنا في مجال ذكرها في هذه المقالة، ومعروف أنّ “اللهجة استعمال خاطئ للغّة.” لكن يجدر التّذكير هنا أنّ اللهجات المحكيّة ليست مفهومة عند الشّعوب العربيّة كافّة، بعكس اللغة الفصيحة التي يفهمها العرب جميعهم.

الرّواية التّاريخيّة: عرف العرب الرّواية التّاريخيّة، ومن أشهر من كتبوا الرّواية التّاريخيّة الرّوائيّ والمؤرّخ والصّحفيّ اللبنانيّ جوجي زيدان”1861-1914″. ومن قبل الرّواية التّاريخيّة عرف العرب السّيرة الشّعبيّة، والتي كتبت باللهجات المحكيّة مثل سيرة “عنترة” و” الزّير سالم” و”أبو زيد الهلالي، وغيرها. وإذا كان جرجي زيدان كتب رواياته باللغة الفصحى معتمدا على البحث في كتب التّاريخ، فإنّ الرّوائيّين بشكل عامّ يستفيدون من التّاريخ ولا يؤرّخون، لكنّ كاتبتنا أسمهان خلايلة في روايتها هذه اعتمدت على مصادر الحدث الشّفويّة، فكتبتها كما سمعتها من أفواه من رووها، وهذا يقودنا إلى قضيّة أخرى هي: هل يُدوّن الأدب الشّعبيّ، كما يُسمع من رواته أم يجري تفصيحه؟

عنصر التّشويق: طغى عنصر التّشويق بشكل واضح من خلال السّرد الحكائي الإنسيابيّ، رغم مرارة المضمون.

عنوان الرّواية: تحمل الرّواية عنوان” طيور المساء”، والقارئ للرّواية سيجد أنّ المجزرة وقعت في المساء، أثناء عودة المزارعين من حقولهم، والعنوان في طيّاته يحمل مضمونا دينيّا فقد روى مسلمٌ في صحيحه بسنده عن عبد الله بن مسروق قال:” سألنا عبدالله عن هذه الآية ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ أما إنَّا قد سألنا عن ذلك فقال: أرواحهم في جوف طيرٍ خضْرٍ لها قناديل معلَّقة بالعرش تسرح من الجنَّة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل”.

وماذا بعد: تعتبر هذه الرّواية بشكل وآخر رواية تسجيليّة توثيقيّة عن معاناة الشّعب الفلسطينيّ، بسبب الهجمة الصّهيونيّة على وطنه، كما تعتبر رواية توثيقيّة، عن مذبحة كفر قاسم، سردت أحداثها من أفواه من عاشوها وذاقوا ويلاتها، وهي تذكّر بمجازر أخرى مثل: دير ياسين، الدّوايمة، الطّنطورة وغيرها. وهذه المجزرة خُطّط لها بعناية على المستوى الرّسميّ؛ لتشريد من تبقّى من الشّعب الفلسطينيّ في ديارة، ظنّا من المخطّطين أنّ هذه المجزرة ستمرّ بهدوء، لأنّ حرب العدوان الثّلاثي على مصر التي صاحب المجزرة طغت على وسائل الإعلام، وعلى اهتمامات الرّأي العامّ العالميّ، وأكبر دليل على ذلك أنّ المحكمة الإسرائيليّة التي عقدت لمحاكمة القتلة أدانت قائد الوحدة العسكريّة القاتلة “شدمي” وحكمت عليه بقرش إسرائيليّ واحد، أيّ أقلّ من سنت أمريكي واحد.

العرس الجماعي: ورد في الرّواية أنّ أهالي كفر قاسم أقاموا عرسا جماعيّا، زفّوا فيه 25 شابّة على 25 شابّا في الذكرى الثّلاثين للمجزرة، ووقف العرسان والمحتفلون أمام ضريح ضحايا المجزرة، وهم بهذا يرسلون رسالة للقتلة مفادها:

” كأنّنا عشرون مستحيل

في اللد، والرّملة، والجليل

هنا .. على صدوركم، باقون كالجدار

وفي حلوقكم

كقطعة الزّجاج، كالصّبّار

وفي عيونكم

زوبعة من نار

هنا .. على صدوركم باقون كالجدار”

الجمل التّفسيريّة: ورد في النّصّ الكثير من الجمل والفقرات التّفسيريّة التي لا حاجة لها، كما أنّه لا داع للخطابات التّفسيريّة التي وردت في أخر النّصّ، ولو انتهت الرّواية قبل السّطرين الأخيرين في صفحة 152 لكن أفضل لها.

وكتبت د. روز اليوسف شعبان:

تدوّن الرواية مجزرة كفر قاسم التي نفّذها بعض الجنود الإسرائيليين بحقّ تسعة وأربعين عاملًا وذلك في 1956/10/29، حين كانوا عائدين في ساعات المساء من عملهم، وكانت السلطات قد فرضت حظر تجوّل، لكنّ العمال لم يعلموا بذلك، فتعرّض لهم الجنود وأطلقوا النيران عليهم، وقد نجا من العمّال امرأة ورجل، قاما بسرد هذه المذبحة على سكان القرية.

فارس هو شابّ من قرية كفر قاسم، قرّر أن يكتب رواية توثّق المجزرة ويوزّع الرواية على الأهالي في العرس الجماعي الذي قرّرت القرية ان تقيمه في نفس تاريخ المجزرة، بحيث يزفّ في العرس الجماعي 49 عريسا وعروسا بعدد شهداء المجزرة، وذلك تخليدًا لذكراهم ولبث رسالة أنّ الحياة أقوى من الموت،:” بعد اليوم لن نحيي ذكرى المجزرة بالبكاء والرثاء، ولن نتذكّر شهداءنا بالدموع فقط. بل سنمضي قدما في طريق الحياة”. ص 147.

ذهب فارس إلى بيت هنا المرأة الناجية الوحيدة من بين أربع عشرة عاملة، كنّ في طريق عودتهنّ الى القرية بعد يوم شاق في مستوطنة بجانب قريتهم. في بيت هنا سجل فارس في آلة التسجيل كل ما حكته هنا عن المجزرة :” بعد العصر بقليل في حوالي الثالثة والنصف اقتحم العساكر القرية يتقدمهم بعض الضباط، توجهوا الى بيت المختار، طلب الضابط من المختار أن يعلم الناس بأمر حظر التجوّل وأن كل من يتأخر عن الساعة الخامسة مساء لن يتحمل الجيش مسؤولية تعرضه لأي مكروه وسيطلق الجنود النار عليه دون تردّد. طلب المختار من الأهالي تبليغ العمال بالعودة فورا الى القرية. ص 103-104.

توزع الجنود في القرية ثم سمع صوت اطلاق نار وحين خرج الشباب لرؤية ما حدث اتّضح لهم ان الجنود أطلقوا النار على أرملة كانت تخبز في الطابون بعد أن اغتصبوها بوحشيّة. ص 108-109.

تتابع هنا روايتها فتقول:” يومها كنا مروحات من الشغل طلب الجنود من السائق محمود أن يقف وطلبوا منا النزول من السيّارة وما أن أتّمت البنات نزولهن من السيّارة حتى صرخ أحدهم: انتباه كان صوته يشبه نهيق الحمار. اطلقوا النار! ولعلع الرصاص اهتزت الأرض كأنّها تنوح تحت أقدامهن وخيوط دمائهن القانية تنساب لتروي عطشها، واستمرّ زخ الرصاص ينهمر على الفتيات وقد شكّلن دائرة هي حلقة رقصهنّ الأخيرة “.ص 118 -119

وقد وصلت أحداث المجزرة الى مسامع عضوي الكنيست (ماير فلنر )وتوفيق طوبي من الحزب الشيوعي، فحضرا إلى كفر قاسم واجتمعا ببعض الأهالي، كتبا تقريرا مفصلا عن المجزرة وعمما التقرير على وسائل الاعلام. ص 149..

ورد في الرواية أيضا وصفا مفصلا لظروف الحياة الاقتصاديّة الصعبة التي يعيشها أهالي كفر قاسم، إضافة إلى ظروف تعليميّة صعبة ومجحفة، غرف مستأجرة صغيرة وأثاث قديم، أمّا المعلّم مروان(والد فارس) فقد تمّ تعيينه في مكان بعيد عن كفر قاسم بسبب انتمائه للحزب الشيوعي وكانت السلطات تلاحقه وقد اعتقلته ذات مرّة وعذّبته.

تتطرّق الكاتبة أسمهان أيضا الى دور المرأة الفلسطينيّة في حفظ الذاكرة الفلسطينيّة فتقول على لسان الراوي:” كانت هنا( الناجية الوحيدة من النساء في المجزرة) كثيرا ما تبكيهم، وهذا ما شجع فارس أن يتوجه اليها ولم يتوجّه إلى أحد الرجال الناجين من المجزرة، فهو يؤمن أن المرأة قادرة والذاكرة النسويّة غنيّة ولم تأخذ حقها في رواية قصص الأبطال والثوّار وغيرهم. فالرواة معظمهم كانوا من الرجال، وفارس كغيره من المثقفين وغير المثقفين يؤمن بصلابة المرأة الفلسطينيّة وقدرتها على الصمود والتعاون مع زوجها في الأعمال الشاقّة المضنية التي تقوم بها متنقلة بين الأرض وأعمال الزراعة المختلفة، وشغل البيت إضافة الى تربية الأولاد، “طاقة جبارة ومتفجرة هي المرأة”، هكذا كان فارس يؤمن”. ص 14.

يبدو في الرواية أيضا الفكر اليساري الذي يؤمن بإمكانية العيش المشترك والتعاون بين اليهود والعرب،:” التحق مروان بنقابة المعلمين وتمكن من التواصل مع بعض الزملاء اليهود في النقابة من الذين يؤمنون بحق العرب في المساواة والحياة الكريمة وهو بدوره تعاون معهم لاعتباره أن العمل المشترك أكثر نجاعة واقناعا”. ص 68.

لم تغفل الكاتبة ذكر سياسة جمال عبد الناصر وتأميمه لقناة السويس كما نرى في الحوار التالي بين مروان وابو العبد:” سمعت يا مروان انه عبد الناصر رح يشتري السلاح من الاتحاد السوفييتي. هذا زعيم بحق وحقيق شجاع وجريء الله يقّدره ويقف بوجه الاستعمار من ثلث شهور أمّم القناة ومن يومها وهني بترصدوله مش رح يسكتوا أكيد رح يدبروله اشي.

– افتح الراديو يا أبو العبد خلينا نسمع الأخبار. انبعثت الأصوات تهتف بحياة ناصر..”. ص 75-76.

المكان في الرواية:

يعتبر المكان واحدًا من أهمّ المكوّنات السرديّة؛ فإنّ أيّ نصّ سرديّ يحتمل الوقوع ضمن وسط مادّيّ يشكّل خلفيّة للأحداث، ويُسهم، إلى جانب بقيّة مكوّنات النصّ السرديّ، في إيصال الرسالة النصّيّة.

يدخل المكان في علاقات متعدّدة مع مكوّنات العمل الروائيّ السرديّة، من شخصيّات وزمن ورؤية وغيرها، تجعل كلًّا منها مؤثّرًا في الآخر. ففي حين يُسهم المكان في صياغة الشخصيّات وبيان اهتماماتها ومستواها الاجتماعيّ والفكريّ، تعبّر الشخصيّة في مستويَيْها الاقتصاديّ والاجتماعيّ عن مكان سكناها، من غير الحاجة إلى الإسهاب في وصْف مكانها وتعليله.( الطويسي، 2004، ص. 167. )

ويبرز البعد النفسانيّ للمكان داخل النصّ، فالمكان ليس أبعادًا هندسيّة وحسب، إنّما هو المكان المصوّر من خلال خلجات النفس، وتجلّياتها، وما يحيط بها من أحداث ووقائع.( النابلسي، 1994، ص. 16. ) إلى جانب الأبعاد الاجتماعيّة والتاريخيّة التي تكون وثيقة الصلة بالمكان، من دون أن تنفصل عنه. حتّى أنّ المكان الذي يسكنه الشخص مرآة لطباعه، فهو يعكس حقيقة الشخصيّة، ومن جانب آخر فإنّ الحياة الشخصيّة تفسّرها طبيعة المكان الذي يرتبط بها”.( قاسم، 1984، ص. 84. ).

وقد ظهرت في الرواية الأبعاد الاجتماعيّة والتاريخيّة للمكان وذلك من خلال الحوارات بين الشخصيّات ومن خلال الأغاني والأمثال الشعبيّة وكل ما يتعلّق بالتراث الفلسطينيّ وطبيعة الحياة في القرية. فنجد مثلا وصفا دقيقا للحياة الاجتماعيّة وللبيئة الزراعيّة في القرية كما في الاقتباس التالي الذي جاء على لسان هنا:” أيام الصيف نزرع خضرة وبأوّل الشتا قمح وشعير وسمسم وحمّص، وبآخر الصيف ننزل عكروم الزتون، نقضّي شهر في القطف وجمع الموسم، لا كان سيارات ولا ماكينات تجمع حبّ الزتون، وأخوي وحيد، مسكين لولا مساعدة اولاد عمّي وبنات خالتي ما كان ممكن نخلّص بشهرين…. كبرت وصار عندي صاحبات من هالقرايب وبنات الجيران، واشتغلنا سوا في السهول، نقطف البندورة ونجمع البطاطا، هالأرض أرضنا صرنا نشتغل فيها بالأجرة مثل عبيد السخرة”. ص 24.

:” كنا نجمع مؤونة البيت ونعبّيها بالجرار ونخزّنها. قمح وطحين وبرغل وفريكة وزبيب وقطين، البيتنجان والبندورة كنا نشّفهن كمان وندفنهن تحت التبن والقش والبامية والثومات إنشكهن قلايد ونعلقهن. ص 24-25.

وفي وصف الرواية للمكان في قرية كفر قاسم، نستدل على طبيعة القرية، وعمل سكانها والعلاقات الاجتماعيّة بينهم كما نرى في الاقتباس التالي:” كانت كفر قاسم موسومة بطابع الحقبة الزمنية التي تعيشها، خلو المساحات حول القرية، وتمركز السكان في بقعة واحدة، في بيوت متقاربة يتوسّطها مسجد صغير. على أطراف القرية خاصة من جهة الغرب يمتدّ سهل من الأراضي الزراعيّة الخصبة، يملكها معظم أهالي القرية والقرى المجاورة، يفلحونها ويعتاشون من خيراتها. وصباح كل يوم صيف شتاء ، كانوا مع بعض دوابهم، يتتبّعون خطوات الفجر إلى حقولهم.”.ص 52.

وفي وصف الساردة لقرية برطعة التي عّين أبو فارس ليعلّم فيها، نقف على ظروف التعليم الصعبة وسياسة الدولة في تقسيم برطعة الى قسم اسرائيلي وآخر أردني :” بدأ أبو فارس عمله كمعلّم مبتدئ عام 1954 في قرية برطعة وسط فوضى عارمة وضياع يحتاج إلى الكثير من التضحية والصبر. الكتب المدرسيّة شحيحة وكتب المطالعة نادرة الوجود ووسائل الايضاح المطلوبة لدعم الطلاب والمعلّم غير متوفرة. يمشي التلاميذ مسافات طويلة للوصول إلى المدرسة، ملابسهم رثّة كثيرة الرّقع. معظم أهاليهم فقراء يعملون في البناء يبنون بيوتا للقادمين الجدد، بينما هم يعيشون في ظروف أقرب إلى القرن الماضي”. ص 59-60.

لقد اصطبغ مكان المجزرة بدماء الشهداء وجاء المكان هنا ليجمع الألم والحزن والقهر والنواح وليعكس مأساة قرية بأكملها :” لكن كومة الجثث ببشاعة منظرها أصبحت ماثلة أمامهم في ساحة القرية. الشهداء غرقى بدمائهم ، ونصبت النسوة حلقات النواح والندب والتصفيق للعرسان الذين ترجّلوا عن خيولهم قبل انتهاء مراسيم الزواج:” سبّل عيونه ومد ايده يحنونو” “خصره رفيّع وبالمنديل يضمونه”. ص 140.

اللغة في الرواية:

هي القالب الذي يصّب فيه الروائيّ أفكاره، ويجسّد رؤيته في صورة مادّيّة محسوسة، وينقل من خلاله رؤيته إلى الناس والأشياء من حوله( تاورتة، 2004، ص. 52. ). فباللغة تنطلق الشخصيّات، وتتكشّف الأحداث، وتتّضح البيئة، ويتعرّف القارئ إلى طبيعة التجربة التي يعبّر عنها الكاتب( عسيلي، 2012، ص. 287. ). هكذا فإنّه بواسطة اللغة يتعرّف المتلقّي، مثلًا، إلى أعماق الشخصيّة الروائيّة التي تحمل الأفكار والرؤى التي يهدف الكاتب إلى طرحها، ويتعرّف القارئ، قبل ذلك، إلى الصورة الخارجيّة لهذه الشخصيّة، وإلى مكانتها الاجتماعيّة ومواقفها من الأحداث والناس، وبالتالي إلى مدى إيجابيّة الشخصيّة أو سلبيّتها. كما يتعرّف القارئ، بواسطة اللغة أيضًا، إلى البيئة، وإلى الجوّ العامّ الذي يطرح من خلاله الموضوع في الرواية، أو في أيّ عمل أدبيّ يكتبه كاتب أو قارئ أو متلقٍّ.( تاورتة، 2004، ص. 52. ).

تنوعت مستويات اللغة في رواية طيور المساء، فقد جاءت باللغة الفصحى خلال السرد وباللغة المحكية خلال الحوارات بين الشخصيّات. كما عكست اللغة الجوانب الثقافيّة والاجتماعيّة والتراثيّة لسكّان القرية. فنجد الكثير من الأمثال الشعبيّة والاغاني منها أغاني الاعراس، الطهور وغيرها من الامثال الشعبيّة:” الدار دار أبونا وأجو الغرب طحونا” ص 74.:” شو اللي رماك على المرّ اللي أمرّ منه”. ص 94. . من أغاني الطهور:” يا مطهّر الصبيان يا قاعد ع السنسول لا توجّع فارس محبّة بالرسول “. ص 83. ومن الأغاني الشعبية:” جفرا ويا هالربع بين البصل الاخضر مكتوب ع جبينها كعكبان وسكر

هي يا راعي الجفرا والجفرا راعيها ومطرح ما كان الوعد وحياتك لاقيها”. ص 96.

بالرغم من الواقعية التي أضفتها اللغة المحكيّة في الرواية إلا أنها جاءت أكثر مما ينبغي مما قد يشكل ذلك خطرا على لغتنا الفصحى.

إجمال:

طيور المساء رواية الألم الفلسطيني، لمجزة نفّذت في مجموعة من العمال والعاملات، بدون ذنب اقترفوه، وبدون وازع من ضمير وإنسانيّة بمن نفّذ هذا العمل الاجرامي.

هي رواية تنزف ألما وتقطر حسرة على أرواح بريئة أُزهقت، وأرض اغتصبت، وحق طوي في صفحات التاريخ، لكنّ الذاكرة تأبى النسيان، فتستعيد المأساة وتتذكر المجزرة بتفاصيلها الدقيقة، لتبقى هذه الذكرى الأليمة خالدة في نفوس سكان كفر قاسم وكافة شرائح الشعب الفلسطيني، ولتبقى الطيور تحلّق في الآفاق باحثة عن أمل ونور يبدّد وحشة المساء.

المراجع:

تاورتة، 2004 تاورتة، محمّد العيد (2004)، “تقنيّات اللغة في مجال الرواية الأدبيّة”، مجلّة العلوم الإنسانيّة، الجزائر: جامعة منتوري، ع. 21، حزيران.

الطويسي، 2004 الطويسي، محمود (2004)، “الفضاء الروائيّ عند غالب هلسا رواية (سلطانة)”، وعي الكتابة والحياة: قراءات في أعمال غالب هلسا، مجموعة كتّاب، عمّان: دار أزمنة للنشر والتوزيع، ص. 166-195.

عسيلي، 2012 عسيلي، ثريا (2012)، أدب عبد الرحمن الشرقاوي، القاهرة: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب.

قاسم، 1984 قاسم، سيزا (1984)، بناء الرواية: دراسة مقارنة لثلاثيّة نجيب محفوظ، القاهرة: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب.

وكتب عبدالمجيد جابر:

أ.نوع الرواية

من أنواع الروايات بشكل عام:

روايات تاريخية. ب. روايات سياسية. ج. روايات وطنية. د. روايات اجتماعية.. وغيرها.

لكن الرواية التي بين أيدينا جمعت ما بين التاريخ والسياسة والوطن والاجتماع.

ب. قيمتها: تعتبر هذه الرواية سجلا تاريخيا توثيقا لأحداث جرت خلال النكبة وما بعدها، وخاصة مذبحة كفر قاسم، وتلقي الضوء على مأساة وطن ذبيح، صودرت أرضه، وشتت أهله، وتعرض لهول مجازر لا شبيه لها في التاريخ غير ما تعرض له الهنود الحمر… لكن الهنود الحمر أبيدوا أو ذاب من بقي من شتاته، بينما الفلسطيني صامد كالطود الشامخ… لقد فشل المحتل كما تصوره الرواية في مذبحته، حيث تعلَّم الناس في كفر قاسم معنى التشبث بالأرض، فلم يفارق الوطن، وكرَّم ويكرم من استشهدوا بإقامة نصب تذكارية وإقامة احتفالات وأعراس تخليدا لذكراهم كما صوّرتها عدسة الرواية.

ج.افتتاحية الرواية:

ففي روايتنا هذه نرى أن الشخصيات الرئيسة كالحاجة هنا وصويحباتها في العمل، وفارس وعائلته، وحورية وعائلتها، وليسوا هؤلاء فقط بل شعب بأكمله تحالفت كل قوى الشر في الأرض عليه، وأغلب الشخوص كلهم قد خرجوا وهاجروا من وطن مسلوب، والقليل منهم من عاد لمرابعه، وتشبث بتراب وطنه، ولاقى ويلاقي الظلم والعسف والتهميش والذبح والتعذيب، والوحدة الوظيفيّة في المقدمة دليل على جودة افتتاحيّة الرواية وتماسكها. فالوحدة الوظيفيّة، مهما يكن شكلها، قادرة على تحديد مسار الرواية، د.وطبيعة السرد فيها، فضلاً عن إثارتها شغف القارئ، وحفزه إلى القراءة، والتمهيد لبناء الشخصيات واختراق الأمكنة الروائيّة.

د. توظيف الكاتبة للتراث

وظّفت القاصة في نصِّها الأمثال الشعبية والألعاب والغناء التراثي بشكل لافت، فهو نبض الأمة.

هـ. امتهان كرامة العربي واستغلال العمال

تسلِّط القاصة الضوء على استغلال المحتل للعامل العربي بعدما نهب أرضه واستباح دمه .

و. هذه الرواية تصنَّف من ضمن الروايات الملتزمة.

فكاتبتنا شاركت الناس همومهم الاجتماعية والسياسية ومواقفهم الوطنية، والوقوف بحزم لمواجهة ما يتطلّبه ذلك، إلى حدّ إنكار الذات في سبيل ما التزم به الشاعر أو الأديب، ويقوم الالتزام في الدرجة الأولى على الموقف الذي يتّخذه الأديب فيها. وهذا الموقف الملتزم في الرواية جاء صريحاً واضحاً مخلصاً صادقاً واستعدادا من الكاتبة لأن تحافظ على التزامهاً وتتحمّل كامل التبعة التي يترتّب على هذا الالتزام، فالروائية أسمهان الخلايلة ملتزمة في روايتها هذه.

ز. توظيف خاصية المفارقة

وهنا المفارقة بين غريب همجي ماكر خبيث احتل وشرّد وذبح وتملَّك ما لا يستحق ملكيته، ويشعر بسيادته وينمّر، وبين وطن أهله كرماء طيبون إنسانيون شُرِّدوا وذبحوا، والقليل منهم من تشبث بوطنه ويُعامل كالعبد.

والمفارقات كثيرة، منها: بين ليلة فيها الطرب وفرحة الناس في كفر قاسم وتسلية أبي نجم لهم في الليلة التي سبقت مجزرة كفر قاسم، وبين الليلة التالية فيها الأسى والحزن والتقتيل، وكذلك المفارقة بين حال الناس قبل النكبة وهم يملكون أرضهم أحراراً، وما بعد النكبة، حيث استولى اليهود على أراضيهم وأصبحوا كالعبيد فيها، أو مطرودين منها ومن وطنهم.

فإنّ “أهميّة المفارقة في الأدب مسألة لا تحتمل الجدل، إنّ الأدب الجيّد يجب أن يتّصف بالمفارقة. وما على المرء إلا أن يسرد أسماء مشاهير الكتّاب الذين تتميّز أعمالهم بوجود المفارقة فيها، مثل: هوميروس، وآيسخيلوس، ويوريبيديس..إلخ” والمفارقة هنا تجسِّم هول المأساة والظلم الذي حاق بالفلسطينيين.

ما سبق يعتبر من مزايا الرواية.

أما هفواتها فسأذكر قسما منها، والغرض ليس التجريح وإنما لتتدارك الراوية تلك الأخطاء في طباعتها في المرة القادمة، ومن هذه:

ا.لعبة الرقلة

ا.لم تحسن القاصة وصفها الصحيح والدقيق، وهي عندنا تسمى بلعبة القال ص 37.

ب.الأخطاء

في الرواية أخطاء نحويّة ولغويّة، وعدم استعمال صحيح لعلامات التّرقيم.

وكتبت هدى عثمان أبو غوش:

“طيور المساء”عنوان لافت للقارىء،فالطيور عادة لا تحلّق في المساء بسبب عدم رؤيتها بالّليل، إلا أنّ طيور الأديبة أسمهان تحلّق في المساء الحزين بلا رحمة،”طيور المساء”هو عنوان مجازي يقصد به الشّهداء ال49 من قرية كفر قاسم الفلسطينية، من رجال ونساء وأطفال، الذين ذبحوا برصاص حرس الحدود المحتل في 29 اكتوبر 1956أثناء العدوان الثلاثي على مصر،وذلك من خلال فرض حظر تجوال في المساء.

الحاجة هنا في”طيور المساء”هي الشاهدة والناجية تروي لحفيدها فارس تفاصيل المذبحة من خلال شريط تسجيلي؛ ليقوم فيما بعد بكتابة رواية عن المذبحة، وتعتبر الرّواية تسجيلية واقعية،حملت بين أوراقها أسماء المجرمين والشهداء،هي رواية توثق حقيقة المجزرة لمنع محاولة تزويرها من قبل المحتلّ.

نجحت الأديبة أسمهان في تصوير الوجع والقهر والجراح التي أصابت كفر قاسم، فرسمت بقلمها الثائر صورالإعدام للعاملين والعاملات، الذين رجعوا إلى بلدتهم في المساء من خلال الوصف التصويري الدقيق المفعم بالأحاسيس والصور البشعة، صورت الصدمة عند الناس وصور النواح والأسى وصور العاطفة الحزينة، وصورالانتظاروالقلق والخوف والتوتر حول سرّ حظر التجوال وأثنائه” ولا شيء يضغط غير الوقت وصعوبة التّوقع والانتظار”صفحة117.استعانت بأحاديث الجرحى الناجين حول مشاهداتهم للمجزرة، نقلت لنا الكلمات التي رددها حرس الحدود حين أجمعوا على التخطيط للمذبحة التي تصور عدم الرحمة وعدم التردد في القتل”الله يرحمه” “احصدوهم”، “هذه الحبلى إياكم أن تتركوها، لا أُريدها أن تتنفس.اقتلوهن جميعا، أبيدوهنّ” صفحة 119. استعانت بالأغاني التراثية التي عبرت عن الجراح، وبالأمثال الشعبية التي ساهمت في تصوير الحالة الاجتماعية والنفسية والسياسية.

في هذه الرّواية تصور الأديبة خلايلة ظروف الحياة السياسية في كفر قاسم التي وقعت تحت الحكم العسكري حينها، وتبرز أثر الحكم العسكري على الحياة الاقتصادية والمناهج في المدارس، ومحاولة طمس ومحو الهوية الفلسطينية.

في”طيور المساء”طغت اللهجة العامية الفلسطينية في الرّواية على حساب الفصحى خاصة في الفصول الأولى للرّواية، وذلك من خلال الإسهاب في الحوار بين الشخصيات، ممّا يخلق عدم فهم لبعض المفردات عند بعض القرّاء، ولذا حبذا لو فسرت بعض المفردات من خلال فهرس خاص. يقول الكاتب الفلسطيني صبحي فحماوي: أن اللهجة المحكية هي أكثر صدقا وواقعيا من اللغة العربية الفصحى، وهي عاجزة عن الانتشار لأنها مرتبطة بالمكان ولا تغادره ولا نستطيع تصديرها إلى خارج منطقتها، ويرى الكاتب إلياس فركوح “بالنسبة للعامية نجاحها في بسط رؤية الكاتب في كيفية إنطاق شخصياته بحسب تكوينها وحدود معارفها”،.والجدير بالذكر أن اللهجة العامية في الرواية ساهمت كثيرا في تقريب نقل الأحاسيس والصور والحركات المختلفة للشخصيات، ونقل صدق الحوار وحرارته ممّا جعلتنا نتفاعل مع الشخصيات والحدث.وليس مجرد صدفة أن نجد الحيرة عند فارس في كيفية كتابة شكل الرّواية بالعامية أو الفصحى، وهذا يعيدنا إلى الحوار الذي جرى بين الحاجة هنا وحفيدها فارس،في حيرة فارس هل يكتب الرّواية بالعامية أو بالفصحى” كتبت كل ما قلتيه،الآلة تسجّل وأنا أكتب ما تسردين، لكن أحاول بالفصحى، لأنني ما زلت في حيرة يا حجّة،هل أكتب القصّة بالفصحى أم بالعامية”، تلك الحيرة تؤكد على أن الأديبة ساورها القلق أثناء الكتابة في حرصها على نقل تفاصيل المذبحة بأفضل صورة واضحة. إن اختيار الأديبة خلايلة لجعل ذكرى مجزرة كفر قاسم هو يوم فرح يتم فيه الاحتفال بتزويج ٤٩ من العرسان من البلدة ومن بلدات مجاورة ما هو إلا محاولة لانتصار التمسك بالحياة أو كما يقول درويش”ونحن نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلا.”

لكنني أجد أنه من الناحية النفسية والعاطفية الاكتفاء بذكرى المجزرة كما هي، وعدم خلط المراسيم التي اقترحتها الأديبة، فكما للحزن ذاكرة فإن للفرح ذاكرة خاصة أيضا.

جاءت النهاية كحشد زائد،حيث أدخلت القارىء وهو في لحظات الحزن ومشاعر الغضب إلىالخطابات السياسية،وإلى التعايش العربي اليهودي، العرس في ذكرى المجزرة،رأيت النهاية في صورة الأمل عند مروان وهو يحمل صورة ابنه فارس ويردد أنا متفائل،لكن الأديبة اختارت أن تمنحنا كل التفاصيل قبل ولحظة المذبحة وما بعد ثلاثين عاما.

وقالت رفيقة عثمان:

طغى على ألوان الغلاف اللّون البنّي، الّذي يرمز إلى لون التّراب والأرض، واللّون البرتقالي يملأ الفضاء، بلون الغسق؛ ظهرت رسمة لضريح وعليه شاهدان، تنبت عليه شجرة متفرّعة الأغصان، كذلك تنبت نباتات حول الضّريح؛ وأمام الضّريح تقف امرأة مسنّة بزيِّ فلسطيني، ذات الثّوب المُطرّز بالتّطريز الفلّاحي، وغطاء الرّأس الأبيض، تحمل عصًا في يدها اليُسرى، ومفتاحًا كبيرًا معلّقًا بيدها اليُمنى.

دارت أحداث الرّواية حول “مذبحة كفر قاسم” في التاسع والعشرين من تشرين الثّاني لعام 1956، وذلك تزامنًا مع العدوان الثّلاثي على مصر؛ حيث تمّ إعدام تسعة وأربعين شخصًا (رجالًا ونساءًا) من أبناء القرية بدمِ بارد، عند عودتهم من العمل في المساء، وارتقوا إلى السّماء.

اختارت الكاتبة، عنوان “طيور المساء” عنوانًا مجازيًّا، فالطّيور ترمز للشّهداء الّذين ارتقوا بالمساء وزُهقت أرواحهم، وصعدت إلى السّماء.

ساهمت لغة الكاتبة الجميلة والسّهلة، في السّرد الجميل وإضافة عنصر التّشويق لهذه الرّواية؛ على الرّغم من المبالغة في استخدام اللّهجة العاميّة، والّتي حضرت؛ للتّعبير عن المواقف المختلفة للمُتحدّثين، مثل الجنود اليهود عندما استخدموا كلمات عربيّة مكسّرة مثل: روخ بيت وإلى آخره، بالإضافة للّهجة المحكيّة لأهالي كفر قاسم، والّتي تُميّز لهجتهم العاميّة بالذّات.

برأيي الخاص، أفضّل استخدام اللّغة الفُصحى في أغلبيّة الرّواية؛ ليفهمها القارئ من خارج فلسطين خاصّةً من الدّول العربيّة المختلفة، ومن المهم نشر هذه الرّواية وتعميمها على العالم بأسره.

أبدعت الكاتبة في وصف المأساة والمذبحة، ومعاناة الأهل جرّاء ارتكاب هذه الجريمة البشعة، كذلك أبدعت في وصف ردود فعل الجنود بعد تنفيذ عمليّتهم النّكراء؛ بالتّعبير عن فرحهم وضحكاتهم، والتّنكيل بالجُثث تنكيلًا مقزّزًا تقشعر لها الأبدان.

برزت الفكرة الرّئيسيّة للرّواية، وهو خلق حدث مُفرح في ذكرى المذبحة؛ باقتراح أبي فارس، بإقامة أفراح جماعيّة في ذكرى خلود شهداء المذبحة، في ساحة القرية وأمام النّصب التّذكاري لهم. هذه الذّكرى تُخلّد أسماءَهم، وبنفس الوقت تغرس الفرح في قلوب الأبناء والأحفاد، وهذه رسالة لهم بأنّ الحياة والفرح مستمرّان رغم الألم والفُقدان. كما ورد صفحة 147 “بعد اليوم، لن نحيي ذكرى المجزرة بالبكاء والرّثاء، ولن نتذكّر شهداءَنا بالدّموع فقط، بل سنمضي قدمًا في طريق الحياة، فها هم أولاد الشّهداء وأحفادهم يحملون أسماءهم ويسيرون على دربهم؛ وهم شباب وعرسان يستحقّون أن نزفّهم ونفرح بهم”.

ظهرت العاطفة بالرّواية، مشبّعة بالحزن والألم والفُقدان، عاطفة مشحونة بالخوف والتّرقّب؛ عاطفة الانتماء للأرض والتّمسّك بها، مهما كانت محاولات الإبعاد والتنكيل. برزت عاطفة الفرح الممزوجة بالحزن معًا، كما بدت عندما أقيمت الأفراح الجماعيّة تزامنًا مع ذكرى المجزرة. لم تخلُ الرّواية من عاطفة الحب والعشق المُتبادل بين الجنسين.

اختارت الكاتبة عددًا محدودًا من الشّخصيّات مثل: فارس الباحث – السيّدة المُسنّة هناء – والد فارس السيّد مروان المُعلّم ورئيس نقابة المُعلّمين – أم فارس مريم. هذه الشّخصيّات حرّكتها الكاتبة خلايلة؛ بهدف تحريك أحداث الرّواية، من خلال الحوار العادي والحوار الذّاتي.

كانت بطلة الرّواية السيّدة هناء؛ الّتي سردت أحداث الجريمة على لسانها كراوية للاحداث بدقّة؛ وكشاهدة عيان للمجزرة؛ لنجاتها من بين الضّحايا المتراكمة جثثهم فوق بعضها البعض.

من المُمكن تصنيف هذه الرّواية كرواية واقعيّة – تأريخيّة، أو تحت مُسمّى السّيرة الذّاتيّة والسّيرة الغيريّة.

استعرضت الكاتبة أسمهان، عددًا لا يُستهان به من الأغاني الشّعبيّة المُستخدمة في الأفراح، والأحزان، والطّهور؛ ممّا أضفت تشويقًا ومتعةً مُميّزة، أثرت متن الرّواية بمصداقيّتها. مثل: “طالع من الحمّام وعيونه مكحولة – غسّلوا الغالي بالرواق العالي – عدّولو إمّو وتصيح يا ناري – الدّار داري والعلالي قبالي”. صفحة 8؛ كذلك ” جفرا ويا هالرّبع ريتك تقبريني – وتدعسي على قبري ويطلع ميرميّة” ص56. ” عالطّريق يا زارعات النّعنع ع الطّريق عبدالناصر يا زعيم وبحق وحقيق” ص 73. كما ذكرت الكاتبة بعض الأهازيج الشعبيّة الفلسطينيّة الّتي تردّدها النّساء أثناء طهور الأبناء كما ورد صفحة 83 ” يا مطهّر الصّبيان يا قاعد ع السّنسول لا توجع فارس محبّة الرّسول – خالتي يا اخت امّي خبّيني بالخزانة وإن سأل المطهّر قوليلو في الدّيوانة – خالتي يا اخت امّي خبّيني في العليّة – وإن سألك المطهّر قوليلو بالمُقريّة ( مكان قراءة القرآن).

وردت أيضًا أمثال شعبيّة فلسطينيّة أيضًا مثل: “هربنا من تحت الدّلفة لتحت المزراب” صفحة 71، “الدّار دار ابونا وأجو الغرب طحونا” صفحة 75 ” شو اللي رماك عالمر؟ إلّي أمر منه” صفحة 94. ووردت أمثال عديدة أخرى بالرّواية.

برأيي اكتملت أحداث الرّواية لغاية صفحة 152 ، عندما انتهى الغناء والرّقص أثناء تخليد ذكرى المجزرة؛ إلّا أن الكاتبة أضافت حدثين إضافيين؛ لم يضيفا قيمةً أدبيّة هامّة للرّواية، بل على العكس خفّفت من وطأة الأحداث السّابقة والمشحونة باشعور بالوطنيّة والألم. الإضافة الأولى الّتي سردتها الكاتبة: عندما اعتلى المنصّة أحد أصدقاء أبي فراس – السيّد مروان؛ قائلًا في خطابه: ” نعم للتّعايش العربي اليهودي، نعم للعيش بأمان دون كراهية وعنف، نعم لنبذ العنصريّة، لقد جاءت قوى السّلام للتّضان معنا، وتشاركنا فرحة أبنائنا”.

بينما الإضافة الثّانية: كانت عندما ذكر السيّد مروان بخطابه مرحّبًا برافضي الخدمة العسكريّة، كما ورد صفحة 145 “ولا يسعني الآن، إلّا أن أرحّب بإخوتنا رافضي الخدمة العسكريّة في الأراضي المُحتلّة. قد رفضوا الذّهاب إلى حرب لا يعرفون لها سببًا سوى حب الجنرالات للبطش والقمع، الجنرالات الّذين يدارون ذلّهم، بإذلال شّعب تجذّر في أرض آبائه وأجداده”.

برأي الشّخصي، حبّذا لو توقّفت الكاتبة عند سردها لأحداث مجزرة كفر قاسم، وأنهت روايتها دون الإضافتين المذكورتين أعلاه.

ظهر في متن الرّواية بعض – موتيفات – مثل: “أي ذنب كبير عند الله اقترفناه؛ ليحدث لنا كل هذا؟؟” ص 138كذلك كما ورد ص 122 ” ما الّذي اقترفناه بحقّهم؟ يقتلون النّاس، النّساء والرّجال. الّذين يكدحون من الفجر حتّى غروب الشّمس في مستوطناتهم”. هذه الموتيفات تدل على أهميّة تكرارها؛ نظرًا لأهميّتها ووقعها في نفس الكاتبة، وتقديرًا لهول المشاعر الأليمة بالظّلم والقهر.

لغة الرّواية سهلة وسلسة، وتعتبر الرّواية توثيقًا غنيًّا للتراث الفلسطيني الشّعبي في الغناء والأهازيج والأمثال الفلسطينيّة القديمة.

اختارت الكاتبة بأن يكون إحياء ذكرى مجزرة كفر قاسم، بإقامة أفراح جماعيّة لأبناء القرية؛ برأيي من الصّعب دمج مشاعر الفرح مع مشاعر الحزن في آن، والأفضل منح كل مناسبة بما يليق بها من مشاعر خاصّة، والتّمييز بين المشاعر، وإعطاء كل مناسبة حقّها من المشاعر. الفرح لماسبات الفرح، والحزن لمناسبات الحزن. إنّ خيال الإنسان وتفكيره كفيلان باختيار الفعاليات المناسبة؛ لإحياء الذكرى المأساويّة لمجزرة كفر قاسم؛ تمجيدًا وتخليدًا للشّهداء الضحايا.

خلاصة القول: رواية “طيور السّماء” تعتبر رواية تأريخيّة واقعيّة، لمجزرة، تعرّضت لها مجموعة كبيرة من الأشخاص في كفر قاسم؛ ومن الجدير توثيقها وأرشفتها؛ لتنتقل للأبناء والأجيال القادمة؛ مع مراعاة التعديلات اللّازمة والمذكورة سالفًا.

وقال عبدالله دعيس:

تتناول الكاتبة في هذه الرّواية واحدة من المجازر الكثيرة التي نفّذها الصّهاينة بأبناء الشّعب الفلسطينيّ، وهذا ديدنهم منذ أن وطأت أقدامهم هذه الأرض المباركة، وكأنّ الدم الفلسطينيّ رحيق الحياة الذي يمتصّونه؛ ليبقوا متربّعين على تراب هذه البلاد، التي ترفضهم وتلفظهم كلّما هبّت نسمة من بحرها أو برّها. يزرعون الحقد ويسقونه دماء طاهرة؛ ليقضوا على الرّوح الحرّة للشعب الفلسطينيّ؛ فتنمو أشجار وارفة تفوح أزهارها برائحة الشّهادة، وتكون ثمارها مزيدا من المقاومة والرّفض لذلّ العيش في كنف احتلال غاشم ظالم. ورواية “طيور المساء” تؤرّخ لمجزرة كفر قاسم التي حدثت عام 1956 وقتل الصهاينة فيها تسعة وأربعين من أبناء البلدة وهم عائدون من أعمالهم في عتمة المساء.

وقد وفّقت الكاتبة باختيار عنوان الرّواية “طيور المساء” حيث شبّهت أبناء كفر قاسم بالطيور التي تسعى لرزقها نهارا، ثمّ تؤوب إلى أعشاشها لتنعم بأمان الليل وهدوءه، لتجد صيّادا حاقدا يخترق عليها هدوءها ويحطّم أمنها ويقتلها دون شفقة أو رحمة.

وتجمع الكاتبة بين دفتي كتابها لحظات من الفرح ومشاعر الحزن الذي خيّم على القرية المنكوبة لعقود طويلة، حيث يتمّ عقد زفاف تسعة وأربعين شابّا وتسع وأربعين شابّة، بعدد شهداء المجزرة، وفي مكان حدوثها، لتكون هذه رسالة واضحة أنّ المحبة تنتصر على الحقد، وأنّ إرادة الحياة تنتصر على الموت، وأنّ هذا الشعب لا تزيده المجازر إلا إصرارا على الحياة بحريّة وعزّة وكرامة، وأنّ كل مجزرة يقوم بها الأعداء إنّما تقصّر من عمر إقامتهم في وطن لا يمتّون له بصلة، ويرفض أن تتغبّر أقدامهم الآثمة بأديمه الطّاهر.

استخدمت الكاتبة أسلوب الحكاية على لسان إحدى النّاجيات من المذبحة، لتسترجع ما دار في تلك الليلة البعيدة التي لا تنسى أحداثها، وكذلك شخصيّة فارس الذي يكتب رواية عن المجزرة ويسترجع ذكريات أبيه مروان؛ ليلقي الضوء على الحالة السّياسيّة التي كانت سائدة في العقد السادس من القرن الماضي. وقد استطاعت الكاتبة أن تنقل أحداث المجزرة ومشاعر من عايشها، وأضافت لبنة مهمّة في سبيل توثيق ما جرى للشعب الفلسطينيّ.

تسرد الكاتبة أحداث الرّواية بشكل أساسيّ عن طريق محاورة الحاجة هنا، التي أصيبت في المجزرة ونجت منها، وتستخدم الكاتبة اللهجة العاميّة الدارجة لكتابة الحوار؛ ربما لتكون أقرب إلى الواقع، ولتنقل مشاعر النّاجين بلغتهم وتعبيراتهم ذاتها. لكن، طريقة كتابتها للغة الدارجة تجعل من الصعب قراءتها وفهمها، خاصة للقراء العرب من خارج فلسطين، أما اللهجة التي تسختدمها الكتابة لإجراء الحوار، فهي مختلفة قليلا عن لهجة قرية كفر قاسم ومنطقة المثلث، فهي تستعمل الكثير من التعبيرات غير المستخدمة في تلك المنطقة.

ويلحظ القارئ أن الكاتبة على لسان شخصياتها تفرّق بين محتلّ ومحتلّ آخر، وكأنّ منهم العساكر والجنرالات المجرمين، وبينهم حمائم السلام! وتدعو إلى التعايش المشترك! (ص 152) فما أن يبدأ القارئ بالتعاطف مع مروان كضحيّة من ضحايا المجزرة، حتّى يراه يزور “صديقه” الصّهيونيّ عزرا ليحتفل بعيد ميلاده. وهل يمكن أن يكون المحتلّ الذي يستوطن بلادنا ويعيش على أرض منهوبة وفي بيت مسلوب صديقا! إن كان كذلك، فلينصرف إلى بلاده التي أتى منها، ولينكر على الاحتلال، أمّا أن يكون جزءا منه ويدّعي رفضه، فهذا ممّا لا يستقيم عند عاقل، كما لا يستقيم أن يكون شخص ضحيّة مجزرة مروّعة، كمجزرة كفر قاسم، ويهادن ويصادق أرباب المجزرة وصنّاعها. أرى أنّ دعوة التّعايش هذه ممجوجة خاصّة في ظلّ الحديث عن مجزرة مروّعة.

وتستخدم الكاتبة مقولة “حقّ الشّعب الفلسطينيّ في قيام دولته المستقلة إلى جانب “إسرائيل”” (صفحة 68) مردّدة كلام بعض السّياسيّين. إن كان هذا قول السّياسيّين فلا ينبغي أن يكون قول الأدباء الذين تنبض أقلامهم بضمير أمتهم، ويتمسّكون بحقّها، أليس في ذلك إقرار بحقّ الصّهاينة بالوجود في فلسطين أيضا؟ وكيف يقرّ أحد بهذا وهو يتحدّث عن مجزرة؟ أرى أنّ الآراء السيّاسيّة التي كانت في الرّواية، والتي لا يتفق عليها الشعب الفلسطينيّ، مع إغفال ما يشعر به الفلسطينيّون حقيقة وما يريدونه، أضعف الرّواية وأبعدها عن الموضوعيّة.

رواية موفّقة، وعمل طيّب، أما مجزرة كفر قاسم وغيرها من المجازر، فمهما كتب عنها، فلن يكون بمستوى الجريمة البشعة، لكنّه شعلة أخرى تنير درب السّاعين إلى الحريّة وتذكّرهم أنّ هناك جرحا غائرا لا زال ينزف.

وقالت نزهة أبو غوش:

حملت الكاتبة أسمهان خلايلة ريشتها؛ فقط من أجل أن تبدع، وأيّ ابداع صنعته في نسيج درامي تراجيدي ليس له مثيل. خيوط الرّواية وتشعباتها وأهدافها، شخصيّاتها، وأسرارها، وحبكتها، ونهايتها؛ كلّها حاضرة. المكان، قرية كفر قاسم، الزّمان: عام 1956. العنوان الرّئيسي: مجزرة كفر قاسم. مصمّمو الرواية: القائمون على تنفيذ للمشروع الصهيوني على أرض فلسطين منذ 1948.

لا أحد يستطيع أن يكذّب التّاريخ، هكذا أثبتت لنا الرّاوية خلايلة في روايتها؛ لأنّها استخدمت وبذكاء تقنيّة اللقاء مع شخصيّة الرّاوي، فهي امرأة قويّة الشّخصيّة والذّاكرة، وحدها الّتي نجت من المجزرة ممرّغة بدمها وبالدّماء الّتي سالت من صديقاتها ال 13 العاملات العائدات من المستوطنة الّتي تبعد مدّة ساعتين عن بلدتهن كفر قاسم.

أرادت الكاتبة أن توثّق هذا اليوم الأليم، فجاءت الكلمات بسيطة وتلقائيّة دون تكلّف لغويّ؛ وقد عزّزت واقعيّتها وصدقها، الأمثال الشعبيّة الّتي يتداولها النّاس في القرية، والقرى الأخرى، كذلك الأغاني والأهازيج في أفراحهم المختطفة من براثن الظّلم والتّسلّط من قبل الاحتلال الجائر.

“بدنا يبرم هالدولاب بلكي تحوّل زمانو.يا ربّ يعودوا الغُيّاب.كل واحد ع أوطانو”

ومثال على تأثير المصيبة على أصحابها على لسان الرّاوية العجوز، هناء”: اللي بيوكل العصي، مش زي اللي بعدْها”.

تنوّع رتم الرّواية لعدّة أجزاء، ففي البداية كان الإيقاع السّردي بطيئا، تحدّثت فيه الرّاوية بهدوء دون توتّر، أو انفعال؛ حتّى أنها عقدت صداقة ما بينها وبين الشّاب فارس الّذي عمل على تسجيل صوتها. من خلال هذا السّرد، عرّفتنا الكاتبة أسمهان على حياة القرية في تلك الفترة الزّمنيّة 1956. تعرّفنا على العادات والتّقاليد الّتي لا تختلف كثيرا عن باقي قرى المثلّث، شمال فلسطين: الزّراعة للحبوب والخضار، ومساعدة المرأة لزوجها في الحقل دون كلل أو ملل. لعب الأطفال ومرحهم وشهوتهم للكعكبان، مشيهم حفاة في الحارات، ولعب الصّبيان بالكرة المصنوعة من القماش، سعادتهم رغم تلطّخهم بالطّين، رغم المطر والحر وقسوة الحياة. يقشّرون نبات القرّيص ويأكلونه بشهيّة، البنات يدهن شعورهنّ بسائل أغصان العنب. اللعب فوق لوح الدرّاس وقت الحصيدة. صناعة النّساء لأقراص (الجلّة) من روث الحيوانات وتجفيفها؛ لتدفئة الطّابون شتاء وغيرها وغيرها. الأهازيج والسهرات والمزاح والضّحك مع المهرّج أبو نجم وغيرها

وفي إيقاع أكثر سرعة أظهرت الكاتبة في روايتها الظّروف السّياسيّة الّتي كان تمرّ بها القرى العربيّة في كفر قاسم، وكفر برا وبرطعة؛ حيث تقسيمها وشرذمتها ما بين الأردن واسرائيل – حسب اتّفاقيّة سايس بيكو- التفرقة العنصريّة في المجالات المختلفة، خاصّة الوضع التعليمي، والفجوة الشاسعة ما بين اليهود والعرب، خاصّة في رداءة الصّفوف وقلّتها، ونقص الأدوات فيها، كما بيّنت ظاهرة الشّيوعيّة الّتي لجأ اليها معظم الشّباب العرب؛ فهي القشّة الّتي كانوا يتعلّقون بها هروبا من احتلال لا يرحمهم، معاداة الدّولة لهذه الفئة بشدّة وحزم، نحو اجراء التحقيقات المتتالية مع المعلّم مروان، وابعاده في منطقة نائية، ومراقبته. محاولة البعض لصنع شيء اسمه التّعايش غير الموفّق ما بين اليهود والعرب. تسلّط المقاولين اليهود على العمّال والعاملات العرب، حتّى بلغ حدّ محاولة الاغتصاب، الّذي هو أصعب من أيّة جريمة أخرى في مجتمع تعلّم”لاإِنّ شرف البنت مثل عود الكبريت، إِذا ولّعته انطفأ”

ظهر في الرّواية لغة الانتماء، ولغة الأمل بالقائد جمال عبد النّاصر، خاصّة وقد تزامن وقت الاعتداء الثّلاثي على مصر عام 1956م . الأغنية على لسان، أمّ العبد:

“عَ الطريق يا زارعات النعنع ع الطريق

عبد الناصر يا زعيم وبحقّ وحقيق.”

لقد علت لغة السّرد واشتدّت وتيرتها، حين دخلت الرّاوية في سرد أحداث المجزرة الّتي عاشتها وصوّرتها بعقلها وقلبها وأعصابها وكلّ مشاعرها. كثرت الأفعال، وقلّت الاستراحات اللغويّة:

” كان صوته يُشبه نهيق الحمار

أطلقوا النار ودقّت طبول جنائزية عالية الأصوات في قلوب الفتيات، بكين وانتحبن بأصوات مخنوقة، استغثن. امتدّ قرع الطبول في آذانهن وقلوبهن كأنّه صلاة الجنازة الجماعيّة على أرواحهنّ، احتمين ببعضهنّ البعض. الموت في حضن دافئ أسهل. ما أصعب أن تموت وحيدا! التصقت أجسادهن ببعضها ولسان حالهنّ يقول: “لا تمتن وحيدات، هيّا التصقن بعضكنّ ببعضكنّ”. ولعلع الرصاص. اهتزّت الأرض كأنّها تنوح تحت أقدامهنّ، وخيوط دمائهنّ القانية، تنساب لتروي عطشها.

هذه الحبلى إياكم أن تتركوها، لا أريدها أن تتنفس. اقتلوهن جميعا، أبيدوهن

صرخ الوحش وعاد الغراب ينعق:

أطلق النار.” ص174

لقت أبدعت الكاتبة خلايلة في وصف رقصة الموت الجماعي للفتيات العائدات من العمل وإِعدامهنّ بحجّة اختراقهنّ أوامر منع التّجوّل.

كذلك أبدعت خلايلة في وصف غليان البلدة بأكملها وذهولها، ورعبها، وخوفها على رجالها ونسائها الّذين يعملون خارجها ولا يعلمون بمنع التّجوّل. صورة المختار الّذي راح يدور كالثور في السّاقية، يصرخ وينادي: الحقوا أخبروهم أن يعودوا بسرعة، قبل بداية المنع؛ رغم أنّه أبلغ الضابط بغياب العمال خارج البلدة، فوعده بأن يتفهّم الوضع ويسمح لهم بدخول القرية.

لقد صوّرت الراوية لوحة الحزن الرّهيب لبلدة بأكملها، فكان حزنا يخترق حدّ السّماء؛ وينفذ إِلى أعماق سبع طبقات في الأرض ويخترق القلوب فيصهرها. هكذا إِذن أيّتها الكاتبة أسمهان، هذه هي طيورك العائدة مساء، والّتي ارتقت أرواحها هناك حيث بارئها عزّ وجلّ. طيورك أيّتها الكاتبة هم طيورنا جميعا، هي طيور الوطن الكبير بأسره، هي أغلى وأعزّ من فقدنا؛ سوف تظلّ ذكراهم عالقة في قلوبنا وعقولنا، وسيظلّون الشّهداء، أمام الله على الظّلم المسلّط على الشّعب الفلسطيني.

لقد هدأت وتيرة الخطاب عند نهاية الرّواية؛ فكانت نهاية موفّقة، صنعت فيها الكاتبة الفرحة مكان الحزن والألم، فكانت فكرة رائعة أن يحتفل أهل البلد.

ومن لبنان كتب عفيف قاووق:

طيور المساء للكاتبة الفلسطينية أسمهان خلايلة والصادرة عن دار الهدى للطباعة والنشر في كفر قرع عام 2021. جاءت لتوثق حقبة زمنية وتاريخية من تاريخ الشعب الفلسطيني ومعاناته مع الإحتلال وتحديدا ما جرى عليه من ارتكابات كان من جملتها مجزرة كفرقاسم التي حدثت في 29 اكتوبر العام 1956، هذه المجزرة التي اعتمدتها الكاتبة؛ لتكون مدخلا لروايتها، دون أن تغفل عن ذكر بعض العادات والتقاليد، وطرق العيش وشظفه للشعب الفلسطيني إبان الإحتلال، فجاءت هذه الرواية تحمل في طيّاتها ولو بشكل بسيط إشارات ومدلولات ذات أبعاد سياسيّة ووطنيّة واجتماعيّة عن تلك الحقبة الزمنية التي تتناولها الرواية.

وبلغة بسيطة زاوجت بين الفصحى واللهجة المحكيّة وبلسان الحاجّة هنا، وهي شاهد عيان استطاعت الكاتبة أن تقدم لنا رواية أشبة بالوثيقة التاريخية لتلك الفترة الزمنية، وجهدت للإحاطة بكامل تفاصيل الحياة اليومية آنذاك، وكيف أن المرأة الفلسطينية تعمل كتفا إلى كتف بجانب الرجل في سبيل تأمين لقمة العيش الكريم.

أبرزت الكاتبة الظلم والقهر الذي لحق بالشعب الفلسطيني جرّاء الإحتلال، والذي من تداعياته مصادرة الأراضي بحيث أصبح المواطن الفلسطيني أجيراً في أرضه عند المغتصب الصهيوني. كما أشارت إلى التمييز في الحقوق وأفضلية التوظيف بين المواطن العربي والمهاجر المستوطن، وهذا ما صرح به فارس عندما قال للحاجّة هناء أنّ فرص العمل متاحة للجميع، ولكن أسماء المهاجرين الروس والذين قدموا من أوروبا للإستيطان تكون في أوّل اللائحة، أمّا الشاب العربي فيدرج اسمه في آخرها. كذلك فقد أشارت الكاتبة إلى محاولة العدوّ طمس التاريخ العربي لفلسطين، من خلال تغيير المناهج التعليمية في المدارس، وهذا ما حاول المُعلّم مروان والد فارس التصدّي له بعد أن لاحظ أن الكتب المعتمدة للتدريس قلّما تتحدث عن العرب وتاريخهم وأدبهم، بل كلها تتضمن الحديث عن أدباء يهود وتاريخ الدولة العبرية والبطولات الوهميّة لليهود، وأمام هذا التشويه ومحاولة طمس التاريخ العربي قرر مروان ان يعلم تلامذته ما يتيسر له من تاريخ فلسطين أرض آباءهم وأجدادهم، سيّما وأنّ هؤلاء التلاميذ لم يشاهدوا أيّ معلم من معالمها. وفي سياق متصل أبرزت الكاتبة مظهرا من مظاهر التخاذل والخنوع الذي امتاز به بعض المستفيدين والملتحقين بالعدوّ، ومن هؤلاء مختار قرية برطعة الذي حاول ثني مروان عن المضيّ في مهمّته التوعويّة، متهما إياه بالكفر والإلحاد، كونه ينتسب الى الحزب الشيوعي، وطالبه بالتراجع عمّا يقوم به حتى “لا تجبلنا البلا ووجع الراس، وإذا بدّك خلّي وجع الراس إلك لحالك، أرجوك لا تلعب بالنار، ما بدّنا ندرّس ولادنا عن الشيوعية، ونعلّمهم الكفر والإلحاد، يا أستاذ اللّي بوكل من خبز السلطان بدّو يضرب بسيفه.ص88.

وفي موضع آخر تشير الرواية الى الشرذمة وتقطيع أوصال الوطن الفلسطيني من خلال ما ذكرته حول ما تعرّضت له قرية برطعة، وشطرها إلى قسمين يسكنهما إخوة وأولاد عمومة من عائلة واحدة، أحدهما تحت الحكم الأردني والآخر تحت الحكم الإسرائيلي.

أيضا أشارت الرواية الى العنفوان والحميّة التي يمتاز بها الشباب الفلسطيني من خلال ما أوردته حول ما تعرضت له حوريّة من محاولة تحرّش واعتداء من قبل المستوطن ديفيد، وكيف انتصر لها فارس مدافعا عن شرفها في مواجهة المعتدي.

كما أسهبت الكاتبة في ضخ العديد من الأمثال والأهازيح الشعبية التراثية التي تساهم في تسليط الضوء على التراث الفلسطيني، وأيضا لناحية طرق العيش للسكان، ومن هذه الأمثال والأهازيج مثلا:

“بدنا يبرم الدولاب، بلكي تحول زمانو، يا ربّ يعودوا الغيّاب، كل واحد ع أوطانو” في إشارة الى التشرد والشتات الذي طال الشعب الفلسطيني. وأيضا للدلالة على أحقية الفلسطيني بأرضه، شاع المثل القائل “الدار دار أبونا وأجو الغُرُب طحونا”.إلى جانب ذلك أشارت الكاتبة إلى البُعد القومي والعربي لدى الشعب الفلسطيني من خلال تعليق الآمال على الزعيم المصري جمال عبد الناصر، لدرجة ان الكثيرمن المواليد أطلق عليهم إسم جمال أو ناصر، كما حدث مع أمّ العبد ألتي أسمت وليدها جمال رغم أستنكار موظفة المستشفى التي قالت لها:” روخي من هون، روخي سميه هناك عند ناسر”.

أيضا لحظت الرواية وصفا دقيقا للمجتمع الفلسطيني فأشارت مثلا إلى سهرات السمر على البيدر في موسم الحصيدة والدراس، وكيف كان الاولاد يتجمّعون ويقفون بالدور؛ ليركبوا على النورج. كما تطرقت إلى مواسم الزرع وتجهيز المونة وتعبئتها بالجرار وغيرها.

وبالعودة إلى مجزرة كفرقاسم التي جاء ذكرها في الربع الأخيرمن الرواية، فقد أبدعت الكاتبة في توصيف المأساة والمذبحة، ومعاناة الأهل جرّاء ارتكاب هذه الجريمة البشعة، كذلك في وصف ممارسات الجنود وتصرفاتهم بعد ارتكابهم لهذه المجزرة وما رافقها من أعمال التّنكيل بالجُثث بشكل مقزز، يظهر مدى الوحشية وانعدام الحسّ الإنساني لدى هؤلاء الجنود. لقد حدثت “مذبحة كفر قاسم” في التاسع والعشرين من تشرين الثّاني من عام 1956، وذلك تزامنًا مع العدوان الثّلاثي على مصر، اعتقادا من العدو بأنّ العالم ستتوجه أنظاره ناحية مصر وتداعيات العدوان الثلاثي عليها، ولا يلتفت إلى ما سيجري في كفرقاسم من إنتهاكات، حيث تمّ إعدام تسعة وأربعين شخصًا من الرجال والنساء والأطفال من أبناء القرية بدم بارد، عند عودتهم من العمل وارتقوا شهداء إلى السّماء واستحقوا بجدارة لقب طيور المساء. وعاشت القرية في مأتم كبير تساوى الجميع في المصاب والحزن، إلاّ أنّ هذا لم يمنع من انتصار ثقافة الحياة على ثقافة الموت، فالفلسطيني يؤمن بثقافة الحياة وأن الشهداء هم أحياء عند ربهم، على عكس الإسرائيلي الذي يعتنق ثقافة الموت والقتل، وكما قال مروان ” بعد اليوم لن نحيي ذكرى المجزرة بالبكاء والرثاء، ولن نتذكّر شهداءنا بالدموع فقط، بل سنمضي قدما في طريق الحياة، فأولاد الشهداء وأحفادهم هم اليوم عرسان يستحقّون أن نزفّهم بفرح، لذا كان الاقتراح بتنظيم عرس جماعيّ لتسعة وأربعين عريسا على تسع وأربعين عروس، بعدد شهداء المجزرة تأكيدا على أن الشهيد هو أيضا عريس في الجنّة، فالشهيد هو عريس الأرض التي رواها بدمه بل هو زين العرسان وأوّلهم.

ختاما لا بد من الإشارة إلى بعض الملاحظات على هامش الرواية والتي أراها تشكل قضايا إشكاليّة وجدليّة وهي ما قد يُفهم منها وكأنها إقرار بشرعية الوجود الإسرائيلي من خلال الدعوة للتعايش بين الشعبين في دولة واحدة، هذه الدعوة ظهرت في كلمة عريف الحفل التي جاء فيها ” نعم للتعايش العربي اليهودي، نعم للعيش بأمان دون كراهية وعنف ولقد جاءت قوى السلام اليهودية لتتضامن معنا، وإن كانت دعوتهم بصفتهم أعضاء في حركة يهودية تؤمن بالتعايش وتدين الحكومة وتصرفاتها العنصرية، أيضا كانت لافتة تلك الصداقة التي نشأت بين مروان وصديقه اليهودي عزرا، هذه الأمور وإن كانت صحيحة وقائمة إلا أنّه كان من المُستحسن عدم الإتيان على ذكرها للإبقاء على المعاناة والمظلومية الفلسطينية راسخة في الأذهان، دون ان نشتتها في دعوات أثبتت عقمها لناحية إمكانية التعايش والإنصهار في دولة واحدة مع شعب محتل وغاصب.

أخيرا رواية طيور المساء لما تحمله من حقائق تاريخية توثيقية جديرة بأن تحفظ في كل مكتبة ليتسنى للأجيال معرفة ولو النزر اليسير من تاريخ بلادهم.

وكتبت خالدية أبو جبل:

قراءتي لرواية” طيور المساء”

تبدأ أسمهان روايتها من لوحة الغلاف والتي قام بتصميمها الفنان الطمراوي مبدا

ياسين لتقص علينا. اللوحة حكاية طيور اقتُحمت أعشاشها واُسْتُبيحت أرواحها فسكنت أجسادها ترابَ الشجرة التي امتدت وتكاثرت جذورها لتخترق جدار القبر

” حبوب سنبلة تموت ستملأ الوادي سنابل”وحاجز الصمت، ليورق الأمل على أغصان الشجرة التي صارت أوراقها تحمل شكل مفتاح الأمل بالعودة… وعلى الجانب الآخر تقف إمرأة شاهدة على مجزرة الاصطياد وحُرمتِه، انحفرت تفاصيله في أخاديد وجهها ووعيها ولا وعيها، لم ينحن لها عود ولا انكسرت صلابة إرادتها،

تدق الأرض بعكاز السنين وتتحدى الأيام بمفتاح العودة والأمل.

منذ البداية تحاول أسمهان أن تُحمّل أعباء سرد الرواية لشخص لا زلنا نجهله ولكنّا

علمنا أنّ الساردة هي الحاجة هَنَا،وقد حددت الحاجة هنا مكان وزمان هذه الرواية

كفر قاسم 1956، زمكان أُغلِقَ على أبشع الجرائم دموية، ارتكبها الاحتلال ضد أبرياء عزّل.

ملمح التاريخ هذا الذي رافق البداية ساهم في فتح جرح المتلقي وحجرات ذاكرته المُشبعة بتراكم قضايا وطنية وقومية حساسة مرتبطة بوعي يحمل آثار سنوات

الخمسينات وما سبقها من عقود، والذي لم يستطع التخلص منها ومن ظلالها خاصة أن القضايا لا زالت مفتوحه على صراعات دامية وتحولات فادحة.

لكن أسمهان تنتقل بنا إلى بداية حوارية هي أقرب إلى مشهد مسرحي، وكأن ما قيل

سابقا كان تهيئة للجمهور لما يليه من مشاهد… فحيث بتبادر لذهن المتلقي انه سيكون الان وجها لوجه أمام مجزرة أبكت الصخر والشجر.

تأخذه الحاجة هنا لزغاريد ومهاهاة أمّ لطفلها ساعة حمامه وكأنها تُعدُه عريسًا لليلة زفافه- عادة الأم الفلسطينية.-

حوارية انصهرت في قناةٍ حكائيةٍ شكلت تمهيد يهيء المتلقي للرواية ويعطيه

انطباعا عن أشياء كثيرة قبْلّية حتى تتسّع رؤيته لاستقبال الآتي، تثير فيه الفضول

والاندهاش. لم يطُل بالمتلقي سؤاله عمّن ينقل له ما تسرده الحاجه هنا، فقد كشفت له المؤلفة في الفصل الثاني للرواية عن شخص فارس الشاب الجامعي، والمولود في يوم الأرض الأول، والذي عزم على كتابة رواية يوثق بها وقائع المجزرة التي ارتكبها الكيان الصهيوني.

وهنا يلمس المتلقي حميمية هذا اللقاء بين من وُلد يوم معركة الارض- حفاظا على

هويّتها- كيف أنّها (اي معركة الارض) صارت جزءا من الزمكان في ذاته الشّاب

فارس، وبين الحاجة هَنا التي عاشت ويلات المجزرة التي اختصرت سمّات

مجموعة اجتماعية، فجاء صوتها وقد مرت عبره كلّ الاصوات، حافلٌ بالتوتر والغضب والتمزّق والألم ، حافلٌ بالإصرار والعزيمة والأمل.

وقد منح فارس هذا الصوت المساحة الواسعة، ليبوح بكل ما في صدر صاحبته ال

الذي سئم الصمت على تاريخ يجب ان تعرف سماته كلّ الأجيال القادمة. وما كان

اإلا أن جادت نفس هَنَا المجروحة بكل مكنوناتها، وبدات تسترجع الحكاية من أولها، وتنتشلها من بئر الذكريات، حيث بقيت ذاكرتها قادرة على التقاط أصوات الطبيعة

والانسجام مع حركتها وايقاعها، فسردت الحاجة هَنَا تفاصيل حياة قرية تقع تحت

نيّر الاحتلال، فكان المشهد الاول وإن بدأ بأغنية فرح وطرفة صبايا وضحكة، إلا

أنه حمل معه ضنك العيش والفقر والعوز، الذي يضطر الفتاة القاصر للعمل جنبا الى جنب مع المراة الحامل في شهرها التاسع الى جانب المرأة العجوز والصبية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة