ورحل الشاعر االفلسطيني خليل توما ( بيت جالا 1945- القدس 2019)

تاريخ النشر: 13/02/19 | 10:01

مقالة عنه نشرتها في كتابي “الرؤيا والإشعاع”- ص 97- 104- إصدار خاص- 1984.
والفكرة النقدية هنا ضمن مونولوج:
صوت يتحدث عنه وصوت آخر يرد عليه
…..
أغنيات و (نجمة) [1] خليل توما

– أحسبه وصف نفسه ” برعمة الرعد وبذر الزلزلة ” [2] .
– نعم. وثانية يقول : ” أنا الكابوس والزلزال” [3]، فهو من حيث المضمون شاعر (البروليتاريا)، يحلم بالفجر الذي يحمل للعمال عزًا وسنابل، ملتزم يكشف عن وعي طبقي:
ستصير كل وسائل الإنتاج في يدنا
وبوعينا الطبقي والأممي ننتصر [4] – إذن من هذه الإشارة الواضحة اعتبره أحد الكتاب” شاعر الوعي الطبقي ” [5] ، وكما أرى فهو ينتمي بأسلوب مجرد ضجيج وجهارة صريحة هي شعاره ودثاره:
احمل شاكوشك والمنجل
فلنا الحاضر والمستقبل [6] بالإضافة إلى أنه يعالج القضايا العالمية بنفس المنطلق ونفس الرؤية . [7] – وما الجديد؟ إنه ليس الشاعر الوحيد في الحلبة.
– بعض شعرائنا من الملتزمين بالماركسية خفتت أصواتهم كزياد وجبران، بيد أن سميح القاسم يتجدد ويحرك ذرات الأسلوب ليقيم أنسجة جديدة، وأنت ما زلت تذكر ما ذهب إليه عبد اللطيف عقل: ” فسميح القاسم يحتويه ديالكتيك دائم العنف يجعله في قفز مستمر” . [8] أما شاعرنا توما فسكوني شكلاً برغم ما يتأجج فيه من ثورة مضمونًا، ولعل بضع قصائد تغني قراءتها عن كل ما كتب أو لأقل بأقل حدة- تعكس ما كتب. اللهم إلا أبياتًا متناثرة يبقى لها شعاعها وصفاؤها. فشاعرنا يغنّي على مسار واحد:
شعبي آلاف ألفلاحين العمال المسحوقين الفقراء [9] غير أن تميزًا يتبدى لنا من خلال مراقبة أشعاره – هو تلك الكثرة الكاثرة من أسماء الشهداء.
– الأحياء- الذين ذكراهم تعيش في أحداقه ، وهم أقمار تضيء في صحرائه ، وأذرعتهم أوسمة. [10] – يكاد مظفر النواب يتسرب لكل شاعر في هذا الجيل. فهل ثمة معالم له عند توما؟
– عندي أن مظفرًا يحمل هموم شعبه على كتفيه ، وهو شاعر الفقراء حقًا ، وهو يعي – في تقديري- الشمول الجدلي لحركة التاريخ [11] برغم الهنات التي يمكن أن تناقش:
هذه الأمة لا بد لها أن تأخذ درسا في التخريب [12] هو لا يريد التخريب حقًا ، وإنما استنفار الهمم الخاملة الخامدة. وكذلك هذا شأن توما إذ يقول:
إن الأرض ستبقى ماخورا
ما لم ينسفها البركان [13] فهل حقًا يعني خليل ما يقول؟
والقدس” عروس عروبتنا” [14] يطور توما صورتها ، ويحمل المسؤولية لجياد العرب التي مرت ذات يوم فوق أشلاء الجريمة. [15] ولكن مظفرًا له جانبان في العمل الأدبي:جانب صوفي غامض ، وجانب مفتوح حاد.
أما توما فقارئه لا يجهد نفسه في تصوير صورة أو استخلاص عبارة:
” لولا غباوتنا لما انتصروا ” [16] ” لنغلق كل أبواب رياح الغرب تأتيها ” [17] فالشعر الشعر في رأيي هو الذي ينقل التجربة في شيء من الغموض- غير مبهم- ويشف عن المعنى، يتجدد هذا المعنى حتى عند القارئ ذاته ، وكأنّ له إكسيرًا وكيمياء.
والشاعر الشاعر في رأيي هو الذي يرصد العالم، يحدثنا عما فيه، ينفعل ويغضب ويتفاءل على أن تكون ثمة صور مكثفة ، ورؤيا ذات إشعاع.
– ألا ترى أن وضوح الرؤيا هنا هو وعي للواقع، أتراك تنحيه منحى التشويش وتحطيم بنية اللغة وعلائقها مطعمة بالقرف الجنسي واللاوعي وغير ذلك من إفرازات ” الحضارة ” المقرفة.
– لا شك أنه بابتعاده عن هذه الإفرازات يبقى لنا معبّرًا عن نفسه وعنا، ذاته تبصر وتحدق في جرحه وجرحنا، ولكن ما أشرت إليه من بعد للشعر لا يعني بالضرورة أن يساق الى ما نتحرج منه.
– كنت قد قلت في ثنايا حوارنا أن له أبياتًا فيها شعاعها وصفاؤها ، وهذه لا بد إلا أن تكون رومانسية الطابع.
– لو صح لي أن أنحت لفظة لأخرجت تعبير(الواقنسية) من لفظتي الواقعية والرومانسية:
افتحي الكوة زال الليل زال
وابصريني قادمًا تخضر من حولي الرمال
وارفعي جيدك
إني ابتعت بالغربة عقدا
من نجوم وهلال. [18] فالشاعر يستلهم من الخيال والعاطفة وصفًا للواقع الذي يعبئ طاقاته لتغييره – هذا الواقع في حالة مخاض، ولا بد أن يتمخض عن مخلص يكنس لحية الدرويش عن الوطن، وينسف مسرح الأوهام:
رؤى عينيك أقمار
مصفدة بميعاد
وكل مواجع العتمات
مخاض قبل ميلاد [19] فاللقطات الواقنسية [20] تشفع له أن يكون شاعرًا أكثر من شهادة المضمون الذي في ثوبه.
– بينما كنت تقرأ كنت أحس نشازًا في هيكله الشعري !
– حقا. فالوزن كسر أكثر من مرة ، كما عدم في أكثر من قصيدة….[21] ومنه ما كان مزجًا بين بحر الكامل وبحر الرجز.
من أين دربك بيت لحم
أمن هنا بين المقابر
أمن هناك
وفوهات بنادق وصدى مجازر [22] بالإضافة إلى أخطائه في اللغة: ” رأيتهم في الضباب قادمون”، [23] ” أحرقت وجهي سنون الانتظار” [24] ، وكذلك يكتب الشاعر (أو يكتب الخطاط الفنان):
(سأم الجهادا) [25]، (سنكسوا) [26] فمثل هذه الأخطاء تفتح بابًا للذين يقفون من الشعر الجديد موقف العداء ، ويعتبرونه مجرد نقاط وعلامات استفهام وعجز عن إدراك الفحول…. ناسين ما قاله ناقدنا القديم:
” ولم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن ، ولا خص به قومًا دون قوم ، بل جعل ذلك مشتركًا مقسومًا بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثًا في عصره…”.[27] فلنتقن لغتنا أولا…. ولا نقبل كلامًا من هذا القبيل:
“معلمي البار الذي طحاني
في البار عند المنحنى
عيناه في القناني”. [28] فالكلمات العامية قد تستملح في مواضعها ، وتقبل في الأدب الشعبي ، ولا ننكر أن فيها شحنات وطاقات قد لا تفجرها الكلمة الفصيحة.
– كأني بك تحرص على قضية الشعر الجديد. ألا ترى أن الشعر القديم لغته أجزل ومعناه أعمق.
– أولاً علينا ألا نعمم، وما دمت تستخلص صورة إجمالية فاللغة أمكن حقًا، ولكن معاني الشعر الجديد أنفذ وأعمق [29]، فصفي الدين الحلي له قصيدة على أسلوب الحكيم اقتطفت منها:
قالت (تشاغلت عن محبتنا)
قلت (بفرط البكاء والحزن)
قالت(تناسيت) قلت (عافيتي)
قالت(تناءيت) قلت(عن وطني)
قالت (تسليت بعد فرقتنا)
فقلت(عن مسكني وعن سكني) [30] فلغة الحكي محكمة ، وتزداد روعتها الغنائية كلما استلهمنا أداءها الغنائي.
أما توما فله حوار متمرد رافض:
قال لي: كافر
قلت: بالجوع…. وفي الأرض ينابيع ذهب
قال لي: ساقط
قلت: كالسيف على رأس سلاطين العرب.
قال لي: حاقد
قلت:في صدري لهيب وغضب [31] فرغم اختلاف المضمون عند كليهما إلا أن الشاعر هنا هو أثرى تجربة ، وأبعد إنسانية حتى لو خلا شعره من الموسيقية التي ألفتها آذاننا، فهو يستعمل أسلوب الحكيم هنا بصورة جديدة مستوفزة ومشحونة.
– دعني ألخص وأجمل:
إن توما شاعر بروليتاري تنقصه بعض مقومات الأداة الشعرية، لا يعدم الصور الواقنسية وهي تشفع له أن يرصد العالم بمنظور صادق و ” برعمة الرعد وبذر الزلزلة” لا بد لهما أن ينضجا.
________________________________________
[1] – خليل توما شاعر مقدسي أودع السجن شرفًا ، وقد أصدر ديوانين : أغنيات الليالي الأخيرة- منشورات صلاح الدين، القدس – 1975 ، نجمة فوق بيت لحم- منشورات صلاح الدين، القدس- 1977.
[2] – نجمة ، ص 7.
[3] – أغنيات ص 48.
[4] – أاغنيات ص 83.

[5] – مقال لإبراهيم العلم في مجلة البيادر، أيار 1977 ص 52.
59
[6] – نجمة ، ص 41 ، ونموذج آخر لإعلانه عن مبدئه أغنيات ، ص 36 .
[7] – نماذج : نجمــة ، 20 ، 66 ، 72 ، 78 ، 104 ، و أغنيات 39 ، 78 .
[8] – مجلة الجديد ، تموز ، 1975 ، ص 18 .
[9] – : نجمــة ، ص 18 .
[10] – في الديوان الثاني ترد أسماء العشرات الذين يهدي لهم القصائد : : نجمــة ، 19 ، 22 ، 24 ، 39 ، 154 ، 155 ، 169 ، 183 ، 191 …
[11] – لعلي الخليلي مقال يعاكس هذه النظرة ، ونشر في صحيفة الفجــر ، 19 / 5 / 1978 .
[12] – النواب وتريــات ليليـــة ، ص 59 .
[13] – نجمــة ، ص 25 .
[14] – وتريات ليليــة ، ص 51 .
[15] – نجمــة ، ص 66 .
[16] – أغنيات ، ص 52 .
[17] – ن . م ، ص 11 .
[18] – نجمــة ، ص 122 .
[19] – أغنيــات ، ص 8 ، ويرد استعمال المخاض كحركة ملازمة : أغنيات ، 17 ، 30 ، وغيرهما .
[20] – نماذج لهذا المزج : نجمــة ، ص 27 ، 163 ، 169 ، 197 ، 198 .
[21] – نما ذج من أغنيات ، ص 26 ، 32 ، 42 .
[22] -نجمــة ، ص 52 ، وكسر آخر في القصيدة نفسها ص 54 .
[23] – نجمــة ، ص 60 .
[24] – نجمــة ، ص 78 .
[25] – أغنيات 97
[26] : نجمـــة ، ص 82 .
[27] – – ابن قتيبة ، الشعر والشعراء ـ ج 1 ، ص 63
[28] – نجمة ، ص 40 .
[29] – ومن هو بحاجة إلى استيعاء ذلك واستيعابه أنصحه بقراءة كتاب النويهي : قضيــة الشعر الجديــد ، وهو شاهد على إبداع القديم ، ومن أعمق من سبر أغواره في كتابه في الشعر الجاهلي بجزأيه ـ فالنويهي عاشق القديم دأب أن يحبب لنا الجديد بأدواته العلمية والنقدية والجمالية .
[30] – ديوان صفي الدين الحلي ، ص 409 .
[31] – أغنيات ، ص 70 ، ونلاحظ في استعماله ( كافر بالجوع 9 أنه أفاد من النواب في قوله : لا تلم الكافر في هذا الزمن الكافر
فالجوع أبو الكفار
وتريات ليليـــة

ب. فاروق مواسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة