حيفا تحتفي بالناقد د. نبيه القاسم

تاريخ النشر: 10/03/16 | 20:25

أقام نادي حيفا الثقافي برعاية المجلس الملي الأرثوذكسي الوطني في حيفا ندوة أدبية تكريما للأديب الناقد د. نبيه القاسم، في قاعة كنيسة ماريوحنا المعمدان الأرثوذكسية في حيفا، بتاريخ 3-3-2016، وسط حضور كبير من أقرباء وأصدقاء وأدباء، وقد تولى عرافة الأمسية السيد كميل مويس، وتحدث السيد شوقي ابو لطيف رئيس مجلس الرامة المحلي، والسيد يوسف خوري رئيس المجلس الملي الوطني الأرثوذكسيّ، وعضو الكنيست د. باسل غطاس، وكلّ من الأدباء محمّد علي طه، وفتحي فوراني، ود. راوية بربارة، ود. عصام عساقلة، وفي نهاية اللقاء كرّمَ مسؤولو نادي حيفا الثقافيّ المحتفى به نبيه القاسم، بعد أن شكرَ الحضور والمنظمين والمتحدثين والمضيفين، وتمّ التقاط الصور التذكاريّة!
مداخلة العريف كميل مويس: حضرة الأفاضل شوقي أبو لطيف رئيس مجلس الرامة المحلّيّ، والسيّد يوسف خوري رئيس المجلس المِليّ الوطنيّ الأرثوذكسيّ، والذي برعايتِهِ ودعمِهِ ومجلسِهِ المِليِّ الموقر استطاع نادي حيفا الثقافيّ للوصول إلى ما هو عليهِ اليوم. الأخواتُ والإخوة مع حفظ الألقاب، ضيوفنا الكرام، أسعد اللهُ مساءَكم، نحيّيكم بتحية من القلب يَطيبُ شذاها مِسكًا وريحانا، فنحن في قمّة السعادة بحضور هذهِ الكوكبة المتألقة من أدباء وشعراء وعشاق الأدب والكلمة. نادي حيفا الثقافيّ وخلالَ أربع سنواتٍ من الإعلان عن تأسيسِهِ أضحى صرحًا ثقافيّا، استضافَ الكثيرَ من الأدباء والشعراء، وتمّ من خلال أمسياتِهِ إشهارُ إصداراتٍ أدبيّةٍ وشعريّةٍ لأدباء وشعراء، وأصبحَ حضنًا دافئا لكلّ أصحاب الكلمة وعشاق اللغة العربيّة، فنادينا يدأب دومًا لاحتضان المسيرةِ الأدبيّةِ والثقافيّة، ويرى أنّهُ لا بدّ أن نحافظ على جوْدتِها ومستوها الرفيع.
يُسعدُنا ويُشرّفنا أن نستضيفَ في هذهِ الأمسيةِ التكريميّةِ الأديبَ والناقد د. نبيه القاسم ابنَ قرية الرامة الجليليّة، وإشهارُ إصدارِهِ الادبيِّ الجديد “في الإبداع المميّز”، فضيفنا يُتابعُ مِن خلال كتابهِ هذا مشروعَهُ النقديَّ، فالكتابُ يَتناولُ بالتحليل والنقد رواياتِ وسِيَرَ ذاتيّة للعديدِ مِن أدباء وشعراء من بلادنا والعالم، وأحتارٌ ماذا يمكنٌ أن يقالً عن هذهِ الشخصيّةِ الأدبيّةِ المميّزة، لذا اخترتُ أن أقتبسَ بعضَ الآراءِ حولَ أدب ضيفِنا، فشاعرُنا الطيّب الذكرُ سميح القاسم كتب: ” لقد استوعبَ نبيه القاسم التيّاراتِ النقديّة المختلفة والبلبلة في هذا المجال، ولم يقع في شِراكِها، ورغمَ ثقافتِهِ الأكاديميّةِ المعروفة ظلَّ وفيًّا لروح النقد الشامل الذي يُعنى بالشكل، لكن ليس على حساب المضمون، ويهتمّ بالمضمون لكن ليس على حساب الشكل”.
الكاتب محمّد علي طه قال: “نبيه القاسم هو الناقدُ الوحيدُ المُتابعُ لحركتِنا الأدبيّة، فهو ناقدٌ جادّ ومجتهدٌ لا يكلّ ولا يتعبُ ولا ييأسُ ولا يغضبُ، ولا يُجاملُ ولا يُحابي، بل يكتبُ ما يؤمنُ به ويفكّرُ به، وهو ناقدٌ احتلّ مكانتهُ الأصيلة المرموقة بجرأة”. وقال الشاعر عبد الناصر صالح عن ضيفِنا: “إنّ اهتمامَ نبيه القاسم برفع مستوى الحركةِ الأدبيّةِ في البلاد، جعلهُ يتبوّأ مكانة مرموقة بين كُتّاب شعبِنا وهيئاتِهِ ومؤسّساتِهِ الثقافيّةِ المختلفة، وينالُ إعجابَ كلّ دارس للأدب الفلسطينيِّ المُعاصِر، حيث إنّ مؤلفاتِهِ النقديّةِ تعتبرُ مِن المَراجع الضروريّةِ لدارسي الأدب في المعاهدِ والجامعاتِ الفلسطينيّة.
د. نبيه القاسم حاصلٌ على شهادة الدكتواره مِن جامعة تل أبيب، وأطروحتُهُ حول “الفنّ الروائيّ عند عبد الرحمن منيف”، وحصلَ على شهادة دكتوراه ثانية من جامعة سانت بتسبورج في روسيا، وأطروحتُهُ حول الحركةِ الشعريّة العربيّة في إسرائيل. يعملُ محاضرًا للأدب العربيّ في الكليّةِ الأكادميّةِ العربيّةِ للتربية في حيفا، ويَشغلُ منصبَ نائب مدير الكليّةِ وعميد الطلبة. عشقَ الكتابَ والقلم، ونشرَ الكثيرَ مِن المقالاتِ السياسيّةِ والأدبيّةِ منذ أواسط سنوات الستينات وحتى يومنا هذا. “ابتسمي يا قدس”، أوّلُ مجموعةٍ قصصيّةٍ أصدرَها عام 1978، تتضمّن 8 قصص. عام 1997 أصدرَ مجموعتَهُ القصصيّة الثانية باسم:”اه يا زمن” وهي أيضًا من 8 قصص قصيرة. عام 2013 صدر كتابة الدراسي عن الشاعر سميح القاسم بعنوان “سميح القاسم مبدع لا يستأذن أحدا”، وعام 2014 أصدرَ كتاب “إميل حبيبي المثقف الإشكاليّ”، و “ذلك الزمن الجميل”.
مداخلة محمّد علي طه: علاقتي بأبي فريد نبيه القاسم طويلة عريضة متينة، تغطّي خمسة عقودٍ من العمر الذي قدّمناهُ قرابينَ خضراء في معبدِ الكلمةِ وحرفِ الضّاد. جمعَتنا “عائشة التي ولدت طفلًا حيّا يقرأ ما تيسّر من سورة البقرة” على صفحات “الجديد”، طيّبة الذكر وأرضعَتْنا وفاءً وصِدقا وفكرًا ونهجًا وطنيّا. هذه علاقة لا أجد في مقلع الكلام كلمة واحدة تغطّيها أو تحويها. عجزت معاجمي عن ذلك. هذه العلاقة هي صداقة فيها وفاء وإخلاص ومحبّة. لم تخترقها نميمة حاسد إذا حسد، ولا نفثات ساحر في العقد. تمتّنت بنسغ سنديان جبل حيدر وتعطرت بزعتر ميعار. ما عكّرتها غبرة او قشّة في زمن العواصف السّياسيّة والفكريّة ومواقع القال والقيل الالكترونيّة وفي زمن الأزمات القوميّة والسّياسيّة. وهي علاقة النّاقد أيضا بنصّ المبدع،علاقة متحرّرة من قيود الصّداقة وخيطان العش والملح، وعين الرّضا الكليلة عن كل عيب، لا مجاملة فيها ولا مراءاة ولا مداهنة.
نبيه القاسم ناقد قدير جادّ رافق الإبداع القصصيّ والشعريّ والرّوائيّ والمسرحيّ الذّي نسج ثقافتنا في هذا الوطن الصّغير الجميل، وتعامل معه بجدّيّة وبمسؤوليّة وباحترام وبأخلاق سامية. منذ مقالاته النّقديّة الأولى وطيلة مسيرته النّقديّة حمل ترسانة المعرفة، وتقاطع نقده مع النّصّ الأدبيّ مُظهرا متعة النّصّ، لأن النّقد يكسب شرعيته حينما يكشف ما يكمن داخل النّصّ. قلت في إحدى النّدوات مداعبًا الأخوين النّاقدين المحترمين د.نبيه القاسم و د.رياض كامل ما قاله أحد الأدباء، بأنّ النّاقد والحلاق يعيشان من رؤوس الآخرين. قد يكون في هذا الكلام شيء من الحقيقة، ولكنّ النّقد هو عملية إبداع ويشترط ذائقة أدبيّة نقديّة تميّز بين ما هو حقيقيّ وما هو غير حقيقيّ، بين ما هو جميل وبين ما هو قبيح، وهذا هو نقد نبيه القاسم. د. نبيه القاسم لم يرهق القارئ أو المبدع بالنّظريّات النّقديّة، على الرّغم من أنّه درسها وتأثّر بعضها. قال الشاّعر والكاتب ت.س.اليوت: من لا أب له عليه أن يخترعه. ولنبيه القاسم آباء في نقده.
منذ أطلق النّاقد الأمريكيّ المصريّ الأصل إيهاب حسن مصطلح ما بعد الحداثة في العام 1971، ليؤكّد تداخل الحداثة وما بعدها والنّقّاد منشغلون بذلك. يقولون إنّ الحداثة تملك مفاتيح الحقيقة المطلقة وأنّ ما بعد الحداثة تمثل حركة التّحوّل من الحقيقة المطلقة إلى الحقيقة النّسبيّة. وقد فسّر هذا الكلام النّاقد السّوريّ خلدون الشّمعة بعد خمسة وأربعين عاما، بأنّ نزعة ما بعد الحداثة ليست ظاهرة أعقبت الحداثة كما يوحي المصطلح للوهلة الأولى، وإنّما هي متداخلة معها إلى الحدّ الذي يمكن معه القول، إنّ كتّابا حداثيّين مثل كافكا وجان جينيه وصموئيل بيكت وجيمس جويس أعاد بعضُ النّقاد تعريفهم مؤخّرا، وصاروا يوصفون باعتبارهم كتّاب نزعة ما بعد الحداثة.
لم يتعبنا نبيه القاسم بهذه النّظريّات فيما كتبه، ولكنّ نبيه ناقد يتعامل مع النّصّ بجدّيّة وبمسؤوليّة وبإخلاص وباحترام. هي جدّيّة النّاقّد المثقّف العارف القادر على الغربلة، هي جدّيّة الذائقة الأدبيّة التي تتمتّع باللغة وبالأسلوب وبالفنّ الإنسانيّ الرّاقي. يكتب عن النّصّ الذي يثيره وقد يكون هذا النّصّ شعرًا أو سردًا، وقد يكون فلسطينيّا أو عربيّا أو أجنبيّا. هو لا يتقيّد بزمان أو بمكان. وهو ناقد على خلق جميل لا ينتقم من أحد ولا يعادي أحدا. لا يقيّده فكر حزبيّ أو عقائديّ ولا يتقلّب في علاقاته الإنسانيّة. ولا ينشد جاهًا ولا إعلامًا ولا مالا. أكرمني أبو فريد وأكرم نتاجي الأدبيّ القصصيّ والرّوائيّ بكتاب كامل، اختار له اسمًا إبداعيّا “محمّد علي طه كاتب راود الكلمات وراودته”، وكتب عن جميع مجموعاتي القصصيّة وعن مسرحيّاتي وعن مقالاتي. احترمت وقدّرت ما كتبه، على الرّغم من أنّني لا أتّفق معه في كلّ ما كتبه، ولا أذيع سرّا إذا قلتُ بأنّه كان النّاقد القاسي على بعض نتاجي الأدبيّ. وعلى الرّغم من صداقتنا ولقاءاتنا الكثيرة ومهاتفاتنا الأسبوعيّة واليوميّة، لم يطلعني يوما ما على ما كتبه عنّي قبل نشره، بل كنت وما زلت ألتقي بمقالاته في الصّحيفة أو في المجلّة، وما كتبتُ جملة واحدة في صحيفة أردّ فيها على نقده اللهم سوى رسالة واحدة أرسلتها إليه ونشرها في كتابه.
في أواخر السّبعينات وبعد لقاء لي بالشّاعر الفلسطينيّ الحيفاويّ أحمد دحبور في هافانا عاصمة كوبا، كتبت قصّة اسمها “خارطة جديدة لوادي النّسناس” ونشرتها يومئذ في صحيفة “الاتّحاد”، ثمّ في مجموعتي “وردة لعينيّ حفيظة”، فكتب نبيه القاسم مقالا نقديّا سلّ القصّة من الفنّ القصصيّ كما تسلّ الشّعرة من العجين. وبعد سنوات زارني أخي نبيه برفقة الصّديق النّاقد بروفيسور محمود غنايم، وبعد أن شربنا القهوة وفي خلال حديثنا قال غنايم، إنّ قصّة “خارطة جديدة لوادي النّسناس” من أجمل القصص التي قرأها، وأعجبته وأثنى على أسلوبها وبنائها وعلى الرّؤيّة فيها وغير ذلك. كان غنايم يتحدّث وأنا أبتسم ونبيه يحدّق فيه، فلمّا انتهى من تقريظه للقصّة قلت: أشكرك يا أبا الطّيّب ولكن ما رأيك أن تقنع صاحبك أبا فريد بما قلته؟
رافقت أبا فريد إلى الأردن وإلى مصر وإلى تونس وإلى مدن وبلدات عديدة في بلادنا، وكان نعم الرّفيق المثقّف المحاضر الذي يترك أثرًا طيّبا حيثما حلّ. هذا الصّديق الكاتب النّاقد يحمل اسمًا مطابقا له. اسم على مسمّى. هو ناقد نبيه وصديق فريد وهو القاسم الذي يقول كلمة الحقّ لا يخشى لومة لائم، حتّى أنّه لا يخشى لوم سيّدة البيت الكاتبة اعتدال التّي أخذت تنافسه في الكتابة مؤخرّا. أعان الله أبا فريد على ما ينشر من كتب نثريّة وشعريّة فيها مجازر لغويّة ،ويحسب أصاحبها أنّهم بذّوا السّياب الذي لم يقرؤوه أصلا، وتفوّقوا على إدريس ومحفوظ اللذين لم يقرؤوا لهما، سوى ما ورد في كتاب النّصوص المدرسيّة، ويعاتبوه لأنّه لم يكتب عن نتاجهم. وأخيرًا أتمنّى أن يواصل نبيه مشواره ومسيرته النّقديّة، حاملا قلمه وغرباله وشجاعته متسلّحا بالمعرفة وبالأخلاق العاليّة.
مداخلة الأديب فتحي فوراني: أبدًا على هذا الطريق! تكونُ البداية في أواسطِ القرن الماضي. كانَ اللقاءُ الأوّلُ في مدينةِ البشارة الناصرة، وفي إحدى المناسباتِ الثقافيّةِ والسياسيّةِ التقيتُ صديقي نبيه القاسم، ومنذ اللقاءِ الأوّلِ عملت الكيمياءُ الفكريّة عملَها، وتَطابَقَ المُثلثانِ تطابقًا كادَ أن يكونَ تامًّا وكاملًا. تعاهدْنا على الولاءِ للسيرِ في طريق واحدٍ؛ أدبًا وفكرًا ونقدًا ونشاطاتٍ سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة. لقد بدأنا فكُنّا وما زلنا رفاقَ دربٍ، وبيننا عيشٌ وملحٌ فكريّ، نحنُ رفاقُ الخندقِ الواحدِ، لنا رؤيا واحدة، ونحملُ رسالة واحدة، وسنظلُّ أبدًا على هذا الطريق، ولن نُبدّلَ تبديلا.
مِن صرح على جبل حيْدر، لستُ أدري مِن أين أبدأ، ومِن أينَ أدخلُ في الصرح النقديِّ مُتعدّدِ الأبراج ودوائر الأرصادِ النقديّة. لقد وقفَ نبيه على أسوارِ صرْحِهِ ليُشرفَ على آفاق واسعة. وقفَ ليرصدَ أحوالَ الطقسِ الأدبيِّ في هذا الوطن الجارح، وراحَ يَحتضنُ الكلماتِ الأدبيّة الوافدة مِن غزّة هاشم وأختها رام الله، وصولًا إلى الأقصى المُباركِ وكنيسةِ المهدِ المُقدّسةِ في زهرةِ المدائن. زهرة المدائن عاصمة العواصم، وعاصمة الإباءِ والكبرياء، والعاصمة التي باركنا حولها. لقد بسَط الرجُلُ نفوذهُ النقديَّ على مساحاتٍ واسعةٍ مِن دنيا النقد والقصةِ والأبحاثِ والدراسات. كتبَ عن الإبداع الأدبيِّ والشعريِّ في هذا الوطن، وتدفقتْ مقالاتُهُ لتصبحَ عابرةً للحدود، وراحتْ تُغطي الرموزَ الثقافيّة في العديدِ من العواصم العربيّة.
مِن “بنات الرياض” إلى “شواطئ الترحال” في إبداعه المميّز، يبدأ رحلتَهُ النقديّة بالدخول إلى أدب المرأة، فتكونُ له لقاءاتٌ أدبيّة مع طبيبة الأسنان رجاء الصانع، تُعرّفُهُ على بناتِها “بنات الرياض”، وتكونُ جلسة أنس لها مذاقٌ مميّز، ثمّ يأخذ الطائرة ويطير إلى بلاد الأرز، فيلتقي صديقتها المبدعة حنان الشيخ، وتأبى حنان إلّا أنْ تنصبَ ديوانًا، فتحكي له “حكاية شرحها يطول”، وتكشفُ له الكثيرَ من الأسرار، والكثير من المفاجآت! مِن الثنائيّ رجاء وحنان يُواصلُ رحلتَهُ النقدية، تهبط الطائرة في دمشق الفيحاء؛ دمشق الإباء والكبرياء، فيحلّ ضيفًا عند طبيبة العيون هيفاء البيطار. يجلسان في مقهى ثقافيّ، يرتاحُ على قمّةِ قاسيون، تاج دمشق، وتميط هيفاء اللثام عن وجهها، فيكتشفُ فيها “امرأة من طابقين”، ويشاركُها أفراحًا صغيرة، بعيدًا بعيدًا عن “الجزيرة. ترافقه هيفاء الدمشقيّة إلى مطار دمشق الدولي، وتكون لحظة الوداع، فتسقط دمعتان، ويتعهّدُ المبدعان على لقاءٍ آخرَ بعدَ رحيل الغيوم “المارقة”! وفي خاتمةِ رحلتِهِ في دنيا المبدعاتِ يُلقي عصا الترحال على “شواطئ الترحال”، ويكونُ لقاؤهُ مع “بنت البلد” المبدعة راوية بربارة، فترفع الصواري وتنصب الأشرعة، فيبحران معًا وتكون سياحة ثقافيّة في جزر المرجان.
دردشات على “شرفة الهذيان” وشرفات أخرى من دولة المبدعات، ينتقلُ نبيه إلى دولة المبدعين، فيجلسُ مع إبراهيم نصر الله على “شرفة الهذيان”، يُدردشُ الرجلان معًا على كأس من عصير البرتقال القادم من بيّارات يافا، ثمّ ينتقلان إلى حنا أبو حنا، ويطيب الحديث مع أبي الأمين يكون نُقله “فستقًا أدبيًّا” تحت “ظل الغيمة”، ويشق طريقه إلى أيام الطفولة البعيدة والزمن الجميل. وفي نهاية المطاف ينصب نبيه خيمته النقديّة في رامة الجليل، ويكون شوقي قسيس ابن الرامة في انتظاره. ويكون الحديث عن حيفا التي تعتز بشموخ كرملها وزرقة بحرها، ويصدر عن اللقاء البيان النهائيّ متوّجًا بالعنوان: حيفا ليست قرطبة. وبعد ساعة من القيلولة تحت زيتونة راموية، ينهض سندباد ويتابع إبحاره النقديّ، فينزل في شواطئ عالمية، في البرازيل وكولومبيا والسعوديّة، ويلتقي الثلاثي عبد الرحمن منيف و”مدن الملح” وباولو كويلو، وصديقته “فرونيكا التي قرّرت أن تموت” وجبرئيل ماركيز و”غانياته الحزينات”. ثم ينتقلُ إلى سبنسر جونسون وفئرانه الأربعة، ويخترق الحدودَ إلى “محميّة” سامي ميخائيل في روايته (حَسوت). وهي رواية جميلة تدافع عن بقائها، وتقفُ صامدة أمام الاعتداء العدوانيّ الذي تشنه فئران آخر زمان!
أتاكَ الربيع الطلق يختالُ ضاحكًا من النثر، ينتقل نبيه إلى دنيا الشعر، ويكون اللقاء مع الشاعر الذي أطلعه تراب البروة محمود درويش، فمحمود يحبّ الوطن الذي سيحبّ ويحبّ النساء اللواتي يحبّ. ولا ينسى سندباد أن يدخل إلى بحيرة الشاعر إبراهيم نصرالله الذي يعرف كيف يعيد للشعر شبابه، فيأتينا ربيع الشعر أميرًا يمتطي حصانه الأخضر الجميل، فيستقبله البحتري منشدًا: أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكًا من الحسن حتى كاد أن يتكلما، فليت ربيعًا حقيقيًا يفاجئنا، فيطيح بليل الجاهليّة الحديثة وتنابل العواصم،ويطلع الفجر الطالع حتمًا!
هي تشرب من فنجانها، وهو يشرب الشعر من أجفانها، أمّا مسك الختام فيكون اللقاء في لندن في قاعة نادي الكوفة، مع الشاعرة السعودية هيلدا إسماعيل التي سحرته بعباءتها البدويّة ووجهها الحنطي الجميل. كانت تندف شعرًا، وتملأ المكان صخبًا وحيوية وسحرًا، يجلسان إلى طاولة، ويدعوها لشرب فنجان قهوة، هي تشرب من فنجانها، وهو يشرب الشعر من أجفانها، فيصيبه ما أصاب أبا نواس في خمريّته المشهورة: ما زلت أستلّ روح الدنّ في لُطُف/ وأستقي دمه من جوف مجروح/ حتى انثنيتُ ولي روحان في جسدي/ والدنّ منطرحٌ جسمًا بلا روح.
في حقيبةِ نبيه القاسم الفكريّةِ هُويّة “الناقد الملتزم”، بعدَ هذا المشوارِ البانوراميّ الذي يَزخرُ بالإبداع المميّز، ولا بدّ مِن الإشارةِ إلى أنّه غيضٌ مِن فيضِ البحارِ القاسميّة، التي تُرصّعُها خمسٌ وثلاثون جزيرة إبداعيّة، تحتضنُ حدائقَ أدبيّة ونقديّة واجتماعيّة وثقافيّة، ونظرة شاملة إلى إبداعاتِ نبيه تبيّنُ لنا أنّ حصّة الأسدِ فيها للنقد الأدبيّ، فالنقدُ يَقفُ في طليعةِ الجبهةِ الإبداعيّةِ، وإلى جانبهِ تصطفُّ القصّة القصيرة والدراساتُ والأبحاثُ التاريخيّة والأدبيّة، وفي جميع هذه العناوين نخلص إلى ما يلي:
1* إنّ نبيه القاسم صاحب مشروع نقديّ متكامل، يحمل الهمّ الإبداعيّ لمعظم النصوص الأدبيّة والشعريّة التي تشكّل المشهد الثقافيّ، وتعتبر إبداعاته مراجع لدراسة الحركة الأدبيّة في هذا الوطن وخارج الوطن. 2* لقد نجح نبيه أن يكون ناقدًا موضوعيًّا متزنًا، نأى بنفسه عن المجاملاتِ النقديّة التي اتّسمت بها بعض التيّارات في الحركة النقديّة الشعبويّة، فلم يكيّل بصاعات اللحى الممشّطة، وعرف كيف يقتحمُ ساحات الوغى الإشكاليّة، وكيف يشاكس المثقف الإشكاليّ إميل حبيبي.
3* إنّ نبيه القاسم وصحبة من النقاد الجادّين في هذا الوطن يُشكّلون كتيبة طليعيّة تحمل رسالة. فقد احتضنت هذه الكتيبة الفيضَ الإبداعيَّ الذي يطغى على المشهد الثقافيّ، وعرفت واجبَها، وأدركتْ أهمّيّة المسؤوليّة الملقاة على عاتقها: أن تأخذ دوْرها في حمل البوصلة، وتوجيه السفينة التي تمخر عباب البحار الهائجة، وتأخذ بيدها ملّاحيها إلى شواطئ الأمان.
4* لن أتورط في ذكر أسماء “المجاهدين” أفراد الكتيبة النقديّة، المُكوّنة من زملائنا الذين نحترمهم ونُقدّر عطاءهم، فأنا أخشى أن أقع في مطبّ السهو والنسيان، وأخشى ما أخشاه إن نسيت أحدًا سهوًا وبدون قصد، أن تكون علقتي سوداء، فيكون مصيري التعليق على صنوبر بيروت.
5* نحن في مواجهة مع الحساسيات والعُقد التي يبرع فيها بعض عباد الله من حملة الأقلام. فتكثر الشكوك ويكثر اللغط، ويكثر الغمز واللمز، وتكثر علامات التعجب والتساؤلات، لماذا لم يذكر اسمي؟ ولماذا وضع اسم “فلان” قبل اسمي؟ أما كان أولى أن يكون اسمي أولا؟ ولماذا اسمه بالفونط الكبير واسمي بالفونط الصغير؟ وتُبنى المواقف، وهات دبّرها يا مستر دلّ!
الكلمة كالرصاصة، إذا انطلقتْ لا ترجعُ، ويجبُ أن تُصيبَ هدفًا. في كتابِهِ “الأدبُ المُلتزمُ” يُشيرُ المُفكّرُ جان بول سارتر إلى الدّوْرِ الخطيرِ للكلمة، فيقولُ “للكلمة دوْرٌ ورسالة، فالكلمة كالرصاصة، إذا انطلقتْ فهي أوّلا لا ترجعُ، وثانيًا إذا انطلقتْ يجبُ أن تُصيبَ هدفًا. وإلّا فلمَن نكتبُ؟ ونبيه يحملُ في حقيبتِهِ الفكريّةِ هُويّة “الناقد المُلتزم”، وهذه شهادة الشرف التي يحملها الكُتّابُ اليساريّونَ، الذين يَحملونَ الرسالة مِن أجل الحياةِ الأشرف والأروع، مِن أجل عالم يَسودُهُ العدلُ والحرّيّة والكرامة، ونبيه في أدبهِ ونقدِهِ ودراساتِهِ واحدٌ مِن هؤلاء. عزيزنا أبا فريد، أعطيت الصحة والعافية والعمر المديد، لتُتحفَنا بخمس وثلاثين جزيرة إبداعيّة أخرى، دمتَ لنا ودامتْ فتوحاتُكَ الإبداعيّة!
مداخلة الأديبة راوية بربارة: مساؤكم كطعم الشبرق الذي يزهّر الآن على سفوح الكرمل، كعطر النقد الفائح البائح بجرأته، وإزهارِ الدراساتِ المتّكئةِ على المهنيّة والأكاديميّة، ولماذا في آذار نحتفي في “الإبداع المميَّز”؟ لأنّ الإبداعَ كآذار “الهدّار أبو الزلازل والأمطار”؛ مهما هدر لا بدّ أن يحملَ طيَّ أمطارِهِ ربيعًا؛ وما الإبداعُ إنْ لم يكن زلزلةً لمفاهيمَ وثوابتَ خفنا أن نهزّ عرشَها، أو تغاضيْنا عن رؤيتِها، أو صممْنا آذانَنا عن سماعِ بروقِها، حتّى أتى المبدعُ الحقُّ ليفضحَ واقعَنا، ويهدمَ مثاليّاتِنا، ويعرّي مجتمعَنا من ورقةِ التوتِ.. لتبدأَ خطيئةُ الكتابةِ، والكتابةُ عن الكتابةِ، ونقدُ الإبداع، وهذا كلّه آذاريٌّ بامتياز، لأنّه بقدْرِ هدرِهِ يصحبُ بعدَهُ الربيعَ، ربيعَ الكلمةِ الحرّة الّتي تغسل حروفَها بعصا الراعي وبشقائق النقدِ وبنباهةِ “نبيه”.
ولماذا في آذار نحتفي في “الإبداع المميَّز”؟ لأنّه شهر الإبداع والخلق، ألا يكفيه إبداعًا أنّه شهر المرأة والأمّ، والأنثى التي أبدعها الخالق تشبه فصولَ السنة كلَّها وتُزهر ربيعًا لمجتمعِها؟ والمحتفى به، د. نبيه القاسم، ربيعيٌّ بامتياز، فحبرُ المرأةِ المبدعةِ زرعُهُ وقطافُهُ، وقد أينعتِ الإبداعاتُ وأتى أُكُلُها، وها نحن نقطفها نقدًا حرًّا ودراساتٍ أكاديميّة في مجموعة مقالات جُمعَت في كتابٍ عُنوِنَ “في الإبداع المميَّز- دراساتٌ في الرواية والشّعر”.
ولماذا اختارَ نبيه القاسم الشّعر والرواية دون كلّ الفنون الأخرى؟ لأنّه، وفي رأيي، بعد أن كان الشّعرُ ديوانَ العرب؛ يجمعُ تراثَهم ويحكي لنا عن عاداتِهم وتقاليدِهم، ويؤرّخُ أيّامَهم وحروباتِهم، ويصمّمُ ملابسَهم ومأكلَهم ومشربَهم، ها هي الرواية تحثّ الخطى لتزاحم الشّعرَ النابضَ بالقافية والصورِ الشّعريّةِ والموسيقى، وتجلسَ هي في صدر الديوان، وتصبحَ الروايةُ ديوانَ العرب الجديد الذي يقصّ آلامَهم، وحياتَهم اليوميّة، ومعاناتَهم الاجتماعيّة والسياسيّة، لذلك اختار د. نبيه الديوانيْن: الروايةَ والشّعر معًا، ولكن ليس على حدٍّ سَواء، إذ أخذتِ الروايةُ حصّةَ الأسدِ في مقالاته، لأنّها باتت الناطقَ الرسميَّ باسمِ مجتمعاتِنا، تصوّر لنا واقعنا دون زخرفةٍ ولا مساحيقَ تجميلٍ، وتتوسّع قدرَ ما شاءَت، وتضيق وتكثّف أينما رغبتْ، دون قيدٍ لوزنٍ أو قافيةٍ أو صورةٍ مبتكرةٍ، على ما فيها من حداثةٍ سآتي عليها في حديثي.
وفي هذه الورقة المتعجّلة، المقدَّمَةِ إليكم في ندوةٍ أدبيّةٍ، سأتحدّث عن ثلاثة محاور تطرّق إليها في الرواية، ومحورَ الشّعرِ، بما يليق بالحضور المميَّز، وبالكاتب الناقد، على أن أوسّعها إلى مقالةٍ أكاديميّةٍ، كما يستحقّ د. نبيه أن تكون.
قبل البدء بالمحاور، لا بدّ من كلمةِ حقٍّ في حقِّ نبيه الإنسان، الذي كان من أوّل من شجّعني على متابعة مسيرتي الكتابيّة، وقد كنتُ غضّةَ الحبرِ، فأتاني هاتفه على عجلٍ ليقول لي: “راوية تابعي، فأنت قلمٌ واعد وكتاباتك مميّزة”، وهل يسعني إلّا أن أشكرَكَ وأذكرَكَ في كلِّ مرّةٍ على موقفك الداعم، تلك المرّة، وكلّ مرّةٍ أصدرتُ فيها نصًّا، وشهادتُكَ بالنسبة لي مهمّة لأنّك واسعُ الاطّلاعِ، ونتاجُكَ المنشور يشهد لك بذلك، وأظنّك من أكثر النقّاد قراءةً وعطاءً وبذلًا، فمن يقرأ ما كتبتَهُ وهو كثيرٌ يعرف أنّه لا أحدَ يستطيع أن يعيّرَنا بأنّا قليلٌ كثيرُنا، لأنّ الكرامَ قليلُ؛ فحينَ قرأتُ كلّ نتاجِكَ استزدتُ معرفةً، ونهلتُ من بحرِ كتاباتك ودراساتك ونقدِكَ فوجدتُكَ تعطي الكتابَ حقَّهُ وتتناولُهُ بعينِ الناقد الباحثِ عن جديد كلِّ إصدارٍ؛ ففي المحور الأوّلِ، محورِ روايات أدب المرأة عرّفْتَنا به كجانرٍ أدبيّ، ثمّ أوردتَ نماذجَ لكاتباتٍ عديداتٍ عربيّاتٍ مختلفاتِ الجنسيّةِ لتشرّعَ للروايةِ النسويّةِ التي تعيش ككاتبتِها في المجتمع البطريركيّ، أنْ تشرحَ نسويّتَها وما ترضخُ له من انكساراتٍ وانثناءاتٍ وتنازلاتٍ وتمرّدٍ يعطي تلك الرواياتِ نكهتَها الخاصّة، وميزاتِها الخاصّة، ولغتَها الخاصّة، لأنّها كتاباتٌ وُلِدَت من رحمِ المأساة، ونالت هجومًا ذكوريًّا لم يعتد جرأتَها، كما حدث مع ليلى بعلبكي، وأحلام مستغانمي ورجاء الصانع وغيرِهِنّ ممّن أثرن حفيظةَ الرجلِ الذي يشبه أهلَ القريةِ التي كفرتْ بأنعُمِ الله، فأذاقها اللهُ طعمَ الأدبِ النسويّ، الذي نشرَ المرار على الملأ، إلّا مَن مثلُكَ، أستاذي نبيه، لم يزعزعِ المرارُ النسويّ رجولةَ نقدِهِ، بل حافظَ على رباطةِ جأشِهِ، ونظرَ للأمورِ بعينٍ متقبّلةٍ للجديد، تعرفُ كيفَ تَقرأ حركةَ الحداثةِ التي لا تسير على قضبان مرسومةٍ، ولا تسيرُ باتّجاه عقاربِ السّاعةِ. وهكذا كانت قراءتُكَ متأنّيةً لا توزّع الأحكامَ جزافًا، بل تبحث عن الجديد الحداثيّ شكلًا ومضمونًا لتوصلَه إلى المهتمّين، بشكلٍ عرْضيٍّ لا استعراضيّ، ساعدَكَ على إيجاد القاسم المشترك لكلّ بطلات الروايات النسويّة ألا وهو الكبوةُ بعد التمرّدِ بضمنيّة اعترافِكَ بالمثل المشهور “يا مؤمّن الرجال يا مؤّمّن المي بالغربال”.
أمّا المحور الثاني فهو أدب السيرةِ الذاتيّة في “ظلّ الغيمة” و “حيفا التي لن تكون كقرطبة”، وقد نبّهتنا إلى الفروقاتِ في تناول السيرةِ الذاتيّة من حقبٍ عمريّةٍ مختلفةٍ، ما بين الطفولةِ كحنّا أبو حنّا، وما قبل الولادةِ كفدوى طوقان، وفترة الشباب وما تلاها، ويطرح لنا الدراسات التي تناولت هذا الفنّ، عارضًا الآراء المختلفة، فلا نقرأ عن الكتاب موضوعِ البحث والدراسةِ فحسب، إنّما نتوسّع لنعرف النظريّات الأساسيّة التي تساعدنا على فهم وجهات النظر المختلفة في الجانر الأدبيّ الواحد.
والمحور الثالث هو محور الروايات المترجَمةِ، وقد اتّخذ كويلو وماركيز نماذج لقراءاته المترجمةِ فأبهرَنا بحُسْنِ قراءتِه للسطور ولِما وراء السطور، ونبّهنا لجماليّات هذه النصوص ، ولم ينسَ أن يقرأ لنا نصًّا مترجَمًا من العبريّة لسامي ميخائيل ليسلّطَ الضوءَ على سلبيّة النظرة للعربيّ على امتداد الرواية، تاركًا لنا مجالًا للتفكير في كيفيّة إمكانيّة نقل الصورة الحقيقيّة عن الإنسان العربيّ للقارئ اليهوديّ، وهذه النصوص التي لا تتركك إلّا والأفكار تزاحمكَ هي نصوص أدّت مهمّتها كما يجب، لتتوالدَ منها أضواءٌ وأنوارُ.
أمّا في محور الشّعر فقد اختار لنا حقًّا ثلاث دراساتٍ مميّزة، أولاها حوار الذات في قصائد محمود درويش، فانتحى بذلك منحى المضمون تاركًا جماليّات الشعر للكثيرين ممّن تناولوا شعر محمود، وهذه إضافةٌ، أشار لها د. نبيه، ليقولَ لكلّ كاتبٍ ولكلِّ ناقدٍ، إذا لم تكن لديك قيمة مضافة تقدّمها لنا فاتركنا وشأنّنا، لأنّنا قرّاءٌ يميّزون بين الغثّ والسمين، ولأنّ النقد الجادَّ كنقدِكَ، يجب أن يبحث عن ضالّتهِ. ثمّ اختيارك لإبراهيم نصر الله ومقارنتك بين لغة القصّ والقصيدة والرواية عنده، وتعريفك الأكاديميّ للقصيدة الومضة، والقصيدة المقطعيّة، إنّما يدلّ هذا على سعة اطّلاعِكَ واعتبارِكَ النقدَ مساقًا آخر من مساقاتك التعليميّة، يتعلّم فيه متابعوكَ عن بُعدٍ، لا المادّة الأدبيّة والنقديّة فحسب، إنّما علاقتك المحترمة بالنصّ الذي اخترتَ أن توصلَه لنا. ولتغلقَ دائرةَ التعاطي النقديّ، عدتَ إلى هيلدا إسماعيل التي تندف شِعرًا أنثويًّا نسْويًّا، لترينا كيف ترجمت المرأة مشاعرها اتّجاه الرجل في مجتمعنا الشرقيّ، بصرخاتٍ شعريّةٍ اعتبرتها الشاعرة أيقوناتٍ. وأبيتَ أن تتركنا دون أن تأخذنا في رحلةٍ مع أدب الأطفال المترجم، في القصّة الشهيرة “من حرّك جِبنتي؟”، أو من سرق الجبنة؟ وأنتَ لا تدري كيف سرقتَنا من واقِعنا اللاهث لتقولَ لنا: الأدبُ منفدٌ سحريٌّ للخلاص. الأدبُ فعلُ تحرّرٍ وتمرّد. الكتابةُ فعلُ انتصارٍ على الذاتِ المقهورةِ.
أنتَ أكّدْتَ لنا أنّ المميّز في الإبداع هو هذا النقد المنوَّعُ الذي يترك فرقًأ بين إنسانٍ قارئ وإنسانٍ غيرِ قارئ، فإذا تساءَل أحدٌ كيف تسنّى لنبيه أن يُنتج هذا الكمّ الهائل من النقد الأكاديميّ، أقول له إنّ نهج الحياةِ الذي انتهجْتَهُ لم يسمحَ لك بالركون والركود فبتَ تجوب العالم وتعيش حيواتٍ ماضية وحاضرة، ومن يقرأْكَ يجُبْ شطآن الأدبِ في يختِ المتعةِ. دمتَ بحرًا زاخرًا تُغرقنا بدراساتكَ وقراءاتكَ وتغني مجتمعَنا، وتذيقنا طعم الزعتر والنعنع والشبرق الربيعيّ.
مداخلة د. عصام عساقلة: د. نبيه القاسم، في الإبداع المميَّز: دراسات في الرّواية والشّعر: بداية، نهنّئ ونبارك أستاذنا وزميلنا النّاقد د. نبيه القاسم على إصدار هذا الكتاب النّقديّ القيّم، ونأمُل أن يكون حلقة في سلسة كتب قيّمة ومفيدة أصدرها، وما زال يُصدرها النّاقد في مجال اللّغة العربيّة وآدابها. الكتاب يحوي دراسة حول ملامح أدب المرأة، وستّ عشرة دراسة حول روايات، سير ذاتيّة، ودواوين شعريّة مختلفة: منها عربيّة ومنها أجنبيّة مترجمة.
قراءة الكتاب بتعمّق وتأنٍّ تكشف عن وجود سمات وخصائص للكتاب والنّاقد، وسوف أشير في هذه المداخلة لثلاث سمات منها، متطرّقًا لطريقة النّاقد في معالجة النّصوص:
1. كثرة الأمثلة لدعم رأي النّاقد: عندما يطرح النّاقد فكرة أو رأيًا أو يتوصّل إلى خلاصة ما يدعم ذلك بعدّة أمثلة. على سبيل المثال، خلال دراسته حول ملامح أدب المرأة يشير النّاقد إلى أنّ “حرّيّة المرأة” هي من المواضيع الّتي تطرّقت لها المرأة العربيّة في كتاباتها.
لدعم رأيه يأتينا بالأمثلة التّالية:
-* تقول بطلة رواية “فوضى الحواس” لأحلام مستغانمي: أريد أن أستفيد من كلّ لحظة حرّيّة،
-* لينا فيّاض بطلة رواية “أنا أحيا” لليلى بعلبكيّ تخرج من بيتها مصرّة على امتلاك حرّيّتها،
-* وبطلة رواية “بيروت 75” لغادة السّمّان، تركت بلدتها في سوريا في طريقها إلى بيروت لتمارس حرّيّتها.
-* ومثلها كانت زهرة بطلة رواية حنان الشّيخ، عرفت كيف تعيش حياتها الخاصّة بعيدًا عن عيون الأهل.
-* والجسد كان وسيلة نازك بطلة رواية “امرأة من طابقين” لهيفاء بيطار، جسدها الّذي تمرّد على كلّ مفاهيم الأهل والنّاس والدّين.
-* ولم تختلف بطلات رواية “بنات الرياض” لرجاء الصّانع في انشغالهنّ بأجسادهنّ.
-* وتتحدّث بطلة رواية “صمت الفراشات” عن جسدها.
-* وكانت بطلة رواية “مرايا الروح” لبهيجة حسين جريئة في كشف مخابئ جسدها.
-* وتعلن بطلة رواية “برهان العسل” لسلوى النعيمي بكلّ جرأة: أنا أستحضر الأجساد.
-* نلاحظ كيف أكثر النّاقد من الأمثلة مع استعمال واو العطف بهدف ربط كلّ الأمثلة معًا خدمة لرأي النّاقد.
-* إيجابيّة الأمثلة: توضّح الصّورة، تدعم الفكرة ورأي النّاقد، وتكشف عن اطّلاع النّاقد على عدّة أعمال.
-* كنت أقترح أن يتطرّق النّاقد لدوافع وأسباب وظروف كلّ بطلة في الرّوايات المعالجة، نظرًا للاختلاف بينها. كلّ بطلة كانت تفتّش عن حرّيّتها انطلاقًا من دوافع وأسباب مختلفة، مع أنّ جميعهنّ يتّفقن في دافع واحد، ألا وهو محاربة المجتمع الشّرقيّ الذّكوريّ.
ب. ثانيًا، من نفس الدّراسة، ملمح آخر يشير إليه النّاقد هو: موقف المرأة النّاقد للرّجل: يقول النّاقد: تتّفق معظم الشّخصيّات الرّئيسيّة في موقفها النّاقد للرّجل.
لدعم رأيه يأتينا بالأمثلة التّالية:
-* نشوة بطلة رواية رجاء بكريّة تتساءل: لم أفهم تمامًا لماذا يستهوي الرّجال الجري خلف الأحذية؟
-* أمّا نازك بطلة هيفاء بيطار فتقول: معظم الرّجال هاجسهم الأوّل حالما يتعرّفون بامرأة متحرّرة، هو مضاجعتها.
-* وتفضح بطلة رواية “فوضى الحواس” لأحلام مستغانمي الرجلَ المعتدّ برجولته.
كثرة الأمثلة والشّواهد تدعم وتؤيّد رأي النّاقد.
2. عرض/ مسح مختصر وموجز للأعمال المعالَجة (إضاءات حول الرّواية):
سمة ثانية للنّاقد، خلال معالجته الأعمال الأدبيّة، هو تقديم مختصر للعمل الأدبيّ قبل البدء بالتّحليل والنّقد. النّاقد يعرض أمام القارئ، باختصار، أهمّ أحداث العمل، أفكاره المركزيّة، الشّخصيّات والرّاوي.
– مثال أ، رواية “بنات الرّياض” لرجاء الصّانع: يقوم النّاقد بعرض أحداث الرّواية مع التّطرّق لموضوعها الرّئيس ألا وهو القيود الّتي تكبّل الفتاة السّعوديّة وتمنعها من ممارسة حياتها الطّبيعيّة بحرّيّة. كما وتطرّق النّاقد إلى لغة الرّواية وأسلوب كتابتها.
– ما قام به النّاقد هو تعريفنا بالرّواية مع بعض الإضاءات على أحداثها بدون أن يبدي رأيه فيها بشكل موجز إلّا في ثلاثة مواضع: لغة الرّواية، علاقة السّنة بالشّيعة، والتّركيز على القضايا العاطفيّة.
– حسب رأيي كان من المفضّل لو تعمّق النّاقد في تحليله ومعالجته للرّواية، وكان أفضل لو دعم النّاقد آراءه بالرّواية بآراء نقّاد ودارسين آخرين، أو اعتمد على مذاهب ومدارس نقديّة أخرى.
– مثال ب، السيرة الذّاتيّة “حكايتي شرح يطول” لحنان الشّيخ: يقوم النّاقد بعرض أحداث السّيرة الذّاتيّة لكاملة والدة حنان، وهي، عمليًّا، تأريخ للأحداث الّتي عاشها لبنان منذ سنوات العشرينيّات حتّى السّبعينيّات من القرن العشرين.
– يعرض النّاقد أمامنا قصّة كاملة كما روتها لحنان: كاملة تثور في وجه القهر والخضوع والإذلال، تحب رجلًا غير زوجها، تطلب الطلاق، وتحتمل الضرب والإهانة والتّنكيل لتتزوّج بحبيبها، كاملة لا تطيق أعمال المنزل، تعشق السينما والأكل والثّرثرة والزّينة واللّهو والضّحك والتّدخين.
– أعتقد أنّ النّاقد كان موفّقًا في معالجة هذه السّيرة نظرًا لتحليله العميق للسّيرة عن طريق معالجتها من عدّة زوايا، إضافة إلى اعتماده على آراء نقّاد كبار، منهم: جيرار جينيت، فيليب لوجون، جورج ماي ويمنى العيد.
– النّاقد، أيضًا، أظهر نجاح الكاتبة في كتابة سيرة ذاتيّة تحقّق شرطين: وهما: الأوّل: التّطابق بين المؤلّف والسّارد والشّخصيّة، والثّاني: توفّر الأزمنة الأربعة.
– نظرًا لأهمّيّة السّيرة ومكانتها، كنت أفضّل لو توسّع النّاقد أكثر في التّحليل والمعالجة.
3. التّحلّي بسمات وخصائص الباحث العلميّ الجيّد:
نجد النّاقد في دراسات أخرى الشّخصَ الّذي توافرت فيه كلّ مقوّمات وكفاءات النّاقد العلميّ الجيّد، ذي الخبرة والدّراية الكافية، والثّقافة العالية.
مثال أ. دراسته حول رواية هيفاء بيطار “أفراح صغيرة أفراح أخيرة” ودراسته حول السّيرة الذّاتيّة “ظلّ الغيمة” لحنّا أبو حنّا
في هذه الدّراسات نجد النّاقد يتحلّى بالكفاءات التّالية:
أ. التّجرّد من الآراء الّتي لم يقم عليها دليل: يعطي الباحث رأيه في الرّواية ويعطينا دلائل واضحة قاطعة من الرّواية.
مثلًا: خلال دراسته حول رواية هيفاء بيطار “أفراح صغيرة أفراح أخيرة” يرى الناقد أنّ الأدب النّسويّ يعالج عدّة قضايا، منها: ثورة المرأة على عادات وتقاليد المجتمع.
يعطينا النّاقد عدّة دلائل قاطعة من مواضع مختلفة داخل الرّواية، منها:
– وثارت هيام على عادات الناس وتقاليدهم، ص 136.
– وسخرت هيام من كلّ المفاهيم الّتي اتّفق عليها النّاس، ص 188.
– وتشعر بالاختناق والموت وهي تشكو ثقل التّقاليد عليها، ص 189.

ب. الموضوعية: يتّسم الناقد في بحثه بالموضوعيّة ونراه متجردًا من آرائه الخاصة وليس متحيّزًا لآراء سابقة. كان هدف النّاقد من البحث هو التّوصّل إلى الحقيقة كما هي، مؤكّدة بالأدلة والشواهد، بعيدة عن المؤثّرات الشّخصيّة والخارجيّة.
مثلًا، دراسته حول رواية هيفاء بيطار “أفراح صغيرة أفراح أخيرة” يبدي النّاقد رأيه في صورة الطّالب الشّرقّي الّذي سافر لأوروبا طلبًا للعلم كما صوّرته روايات الرّوّاد: يَحيى حقي، توفيق الحكيم، سهيل إدريس والطّيب صالح. النّاقد هنا يسوق رأيه بشكل موضوعيّ بعد دراسة ومعالجة هذا الرّوايات، ويصل لخلاصة مفادها: أوّل ما يَبْهَر الطّالب في أوروبّا هو المرأة المتحرّرة، وسرعان ما يقع في حبّ أوّل فتاة تبتسم له.
ت. التّأنّي والابتعاد عن التّسرّع: لا يتسرع النّاقد في إصدار أحكامه. يعمل ويبحث في تأنٍّ وبطء وبُعد نظر، ومن ثمّ يصدر أحكامه.
مثلًا، بعد تحليل ومعالجة رواية هيفاء بيطار “أفراح صغيرة أفراح أخيرة” يصل النّاقد بالتّدرّج وبتأنٍّ وإعمال الفكر إلى عدّة نتائج، منها: يُؤخذ على الكاتبة تكرار المشاهد، وصف المشهد يتكرّر ويعود على نفسه، ولا يفاجئنا بأيّ حدث جديد، حتّى الكلام يكون نفسَه في بعضٍ منه، والمواضيع الذّاتيّة نفسها، فلا خيال، ولا تجديد، ولا إبهار.
ث. الأمانة والدّقة: يلاحظ النّاقد الظواهر ويصفها بدقّة، يلاحظ ويقيس ويسجّل نتائجه بشكل واضح.
مثلًا: خلال حديثه عن دقّة المصطلح “السّيرة الذّاتية”، يحاول النّاقد الإحاطة بالمصطلح من كلّ جوانبه مبديًا رأيه الموضوعيّ ومعتمدًا على آراء باحثين كبار في هذا المجال أمثال جورج ماي، عبد الله إبراهيم وفيليب لوجون.
ج. التّنظيم: لدى النّاقد القدرة على تنظيم المعلومات التي يريد نقلها إلى القارئ، تنظيمًا منطقيًّا له معناه ومدلولُه، مرتِّبًا أفكارَه ونتائجَه في أسلوب علميّ رصين.
مثلًا، دراسته حول السّيرة الذّاتيّة “ظلّ الغيمة” لحنّا أبو حنّا نجد النّاقد يرتّب دراسته كالتّالي:
-* مدخل أوّليّ. -* تعريف المصطلح معتمدًا على آراء نقّاد ودارسين. -*تأثّر كاتب السّيرة بجبرا إبراهيم جبرا ونجيب نصّار. -*جماليّات المبنى والأسلوب واللّغة في “ظلّ الغيمة”. -*مستويات السّرد. -*خلاصة.
ح. الشمولية: ينظر النّاقد إلى موضوعه نظرة شموليّة محيطًا بكلّ جوانبه.
خلاصة القول: لا يمكن وضع النّاقد د. نبيه القاسم ضمن مذهب أو تيّار نقديّ واضح، فهو يأخذ من المذاهب والمدارس الأدبيّة الكبرى، مثل المذهب الشّكلانيّ، البنيويّ، مدرسة النّقد الجديد، السّيميوطيقا، الوجوديّة، المذهب الواقعيّ، السُّرياليّ، الحداثة وغيرها، ومن ثمّ ينتهج نهجًا خاصًّا به. هذا المنهج يعتمد على معالجة النّصّ الأدبيّ كما هو، محاولًا بذلك استخلاص أفكاره ورسالة كاتبه. د. نبيه القاسم يحكم على النّصّ بموضوعيّة، يقدّر النّصّ تقديرًا صحيحًا، ويبيّن قيمته ودرجته الأدبيّة.
أخيرًا، نشكركم جميعًا جزيل الشّكر على حسن الإصغاء، ونشكر النّاقد د. نبيه القاسم على جهوده في إخراج هذا العمل للنّور خدمةً لمحبّي اللّغة العربيّة ودارسيها، ونتمنى له المزيدَ من الأعمال في قادم الأيّام.
مداخلة د. نبيه القاسم: الحضور الكرام مع حفظ الألقاب لكلّ عزيزة وعزيز بينكم، فرحتُ جدا بلقائكم في هذه الأمسية الثقافيّة، وأشكركم على تلبيتكم للدعوة وتخَطّي مَشاقِ المسافات ومخاطر الطرقات. وشكري الكبيرُ للقائمين على هذا الصّرح الثقافي الذي يُداومُ أسبوعيّا على رَفْد حركتنا الثقافية بكلّ جديد وبكلّ مبدع، ويحوّل كلّ أمسية إلى عرس ثقافيّ يحرّكُ الذهنَ ويدغدغُ المعرفة ويشدّ الهمّة لمزيدٍ من البحث والإبداع والتّلاقح الثقافي والمعرفي والإنسانيّ.
أنْ نلتقي الليلةَ لنحتفلَ بصدور كتاب يعني أننا نحتفلُ بأجمل ما وهبه الله للإنسان وهو الكلمة، الكلمة التي بها نقدّسُ الربّ ونحتفل بالحياة، ونستخرجُ كلّ مكنوناتِ الإنسان الرّائعة من أفكار ومشاعر ورغبات وآمال. وأنْ نلتقيَ بهؤلاء الأعزّاء الذين سبقوني وأشكرهم على كلماتِهم: الأخ شوقي أبو لطيف رئيس مجلس محلي الرامة، والصديقين محمد علي طه وفتحي فوراني اللذَين تشهد العقودُ الخمسة التي مرّت على مَتانة الصداقةِ والأُلفة والمحبة التي تجمعُنا معًا، وكذلك تشهدُ طرقُ العملِ الثقافيّ والسياسيّ والفكريّ التي خُضناها معا. والصديقة المبدعة الدكتورة راوية بربارة التي استطاعت خلال سنوات قليلة أن تُثبّت وجودها على ساحات الإبداع، وتستفيد من كلّ جديد وكل ملاحظة، وتعمل على تطوير أدواتها وفكرها وأسلوبها، وتصبح قامة مهمّة بين قامات ثقافتنا وأدبنا. والدكتور الصديق عصام عساقلة الذي يقف لأول مرّة ليتحدّث أمام جمهور مميّز، كما أشكر صديقي وعزيزي عضو الكنيست الدكتور باسل غطاس الذي قَدِم خصّيصا من تل أبيب، وأعادني بكلماته الحميميّة لتلك الأيّام النضاليّة البعيدة في سنوات السبعين من القرن الماضي، عندما كان باسل الطالب المجتهد الواعي الثائر، وأنا الأستاذ الجديد الذي يرى في التعليم رسالة لبناء جيل وطنيّ واع وشجاع. كما وأشكر كلّا من الأخ المحامي فؤاد نقارة على الجهد الكبير الذي بذل لنجاح هذه الأمسية، والعزيز الأستاذ يوسف خوري رئيس النادي المليّ الأرثوذكسيّ على كلمته الدافئة الراعية، ولحضوره المميّر وتقديمه الدّرع الذي أعتزّ به. كما وأشكر الصديق الرائع المحامي كميل مويس الذي سهر وتعب واجتهد لإنجاح هذا الحفل، وعلى كلمته الشاملة التي سكب فيها من عطر معرفته ووعيه وشموليّة نظرته الوطنيّة الرائعة.
أيّها الحضورُ الكرامُ، فرَضَ الواقعُ علينا في هذه البلاد أنْ نكونَ كلّنا في جبهةٍ واحدة، لمُواجهةِ كلّ الممارساتِ التي طبّقت ضدّ شعبنا منذ عام النكبة. وكان حمَلة القلم مِن كتّاب وشعراء وفنّانين الكتيبة المتقدّمة في التصدّي لهذه الممارسات والقوانين الجائرة، وقد كُتبَ على الناقد كما على باقي المبدعين، أن لا يَقبلَ بالبُرج العاجيّ والاكتفاء بتطبيق حرفي لمنهجيّة النظريّات النقديّة المختلفة، وإنما رأى في العمليّة النقديّة جبهة نضال أخرى، تعمل على إيقاظ وعي الناس وتنبيههم، ورعاية الإبداعات المختلفة التي تصدر ويقرؤُها الناس. وأقول عن نفسي إنّني رفضت التقيّد بنظريّةٍ نقديّة محدّدةٍ، حيث وجدت في كلّ نظريّة ما يُستفادُ منه وما يُطبّق على النّصّ، ولهذا اخترت منهجًا شموليّا يأخذ من كلّ منهج ما يراه، لكنّني بقيت مُخلصًا ومفضّلا لمنهج الواقعيّة الاشتراكيّة، وأميلُ للوجوديّة ومنهج التحليل النفسيّ. وحتى لا أنساق في الكلام أقول موضّحًا طريقي النقديّ: تنوّعت المناهجُ النقديّةُ وتبدّلت واختلف أصحابُها، وفاجأ البعضُ بما طرحَهُ مِن فِكر ونظريّات أثارت دهشةَ الغير، وجذبَت الكثيرين من ذوي الإبداع والفكر لاتّباعها كالنّظرية البنيويّة والنّظريّة التّفكيكيّة وغيرهما. وبالغ البعضُ من أصحاب هذه النّظريّات بدَعوتهم إلى الاستغناء عن المؤلّف صاحب النّص، وقالوا إنّ النصّ وحدَه الذي يجبُ أنْ يُشغلَ النّاقدَ ويصُبَّ اهتمامَه في دراسته. وهذه الدّعوةُ استدعتْ فيما بعد الدّعوةَ للاستغناء عن النّاقد لأنّ وسائلَ الاتّصال أغنَتْ عنه بتَمْكينها وصولِ النصّ لكلّ قارئ وجعلِه ناقدا ومُقَيّما لهذا النصّ. ونشهدُ أخيرا تَراجعا في انتشار وتأثير هذه النظريّات، والعودةَ إلى نظريّات أكثرَ إنسانيّةٍ واجتماعيّة ونَفعيّة مثل “الواقعية الاشتراكية الجديدة” و “الوجوديّة” ساهمت في دفع الوَعْي الفَرديّ والجماعيّ عند الإنسان، وجعلته يقومُ لينهضَ بمجتمعه وشعبه، ويدفعَ به نحو التّقدّم والتطوّرِ وتَرْكِ الاتكاليّة واللامبالاة، ممّا دفع بالشعوبِ في القرن الماضي، خاصّة في الغرب، إلى حمْل لواء التطوّر والتقدّم والوصول بالعلم إلى مراحلَ لا نهاية لها كما أظن.
والنّقدُ، كما أعتقدُ، خاصّة في وضعنا كشعب له قضاياه التي لم تجد الحلولَ لها خاصّة السياسيّة والاجتماعيّة، حتى يكونَ ذا قيمة، يجبُ أنْ يكونَ الإنسانُ مركزَه وهدفَه، لأنّ دورَ النّقد في حالتنا لا يقتصرُ على تَقييم وتناول جماليّاتِ النصّ الفنيّة ومَزاياها وتجديداته وتفرّده ، وإنما النّقد له دورُ التّوعية والتّثقيفِ والتّثوير وتنبيه النّاس إلى ما يجري وما يجبُ أنْ يقوموا به ليُغيّروا واقعَهم، ويبنوا حياةً أكثر جمالا وأمْنا وراحة. والنّصُّ الذي لا يكونُ الإنسانُ جوهرَه لا قيمة له. ولهذا لا فاصلَ بين المؤلف والنصّ، ولا استقلالَ للنصّ عن صاحبه، والنظريّات الجامدة اللاإنسانيّة التي تُبعدُ الإنسانَ، بكلّ ما فيه من فكر ومَشاعرَ ودوافع ورغَبات وآمال، عن كامل النصّ الأدبي بادّعائها أنّ لا علاقة للنّص الأدبي بصاحبه، حتى ذهب البعضُ إلى المناداة بموت المؤلف، وبعد ذلك القول إنّ لا حاجة للنّاقد بسبب انتشار وسائل الاتصال العصريّة حيث أصبح كلُّ قارئ للنصّ ناقدا له ومُقَيّما. هذه النظريّات مرفوضةٌ لأنّها تهدفُ إلى مَحْو الإنسان الخالق بكلّ ما يتميّزُ به من مشاعرَ وعواطفَ وأحاسيسَ وأفكار وآمال وأحلام.
وأرى أنّه كما لا وجودَ لكلام بغير إنسان ينطقُ به أو يكتبه أو يرسمه إلخ، هكذا لا وجودَ لنصّ بدون إنسان كان مُبدعا له. وطالما أنّ الإنسانَ المبدعَ هو سببُ وجود النصّ المخلوق وعلّته، فلا بدّ للمخلوق أنْ يكونَ الثّمرةَ التي تحملُ خواصَّ خالقِها ومميّزاته. وإذا عزلنا النصَّ عن صاحبه، وتَغنّينا مُباهين بموت االمؤلف الخالق، وانصبّ اهتمامُنا في النصّ المخلوقِ المفصولِ عن مُبدعه خالقِه، نكون كمَن يريدُ بعثَ الحياةِ في الموات، وتزيينَ الدّميةِ بأجملَ ما يمكننا لنُخفي عجْزَنا عن تحريك أحاسيسِها الميّتةِ وإطلاقِ إشعاعاتها المنطفئة، بإقناع أنفسِنا أنّنا نكتفي بها دميةً جميلةً رغم أنّه لا رجاءَ لنا فيها لتجميلِ حياتنا وبعثِ آمالنا وتحليقِ خيالنا لمستقبل نحلمُ به. وعليه فلا قيمة لنصّ، مهما تميّز وتفرّد وتألّق إذا افتقد للأفكار والمشاعر والطموحات التي حملها صاحبُه ساعة أبدعَه وقدّمَه وأصبح مُلكا لنا. وحتى لا يطول الكلام الذي لا نهاية له أقول شكرا لكم جميعا على حضوركم المميّز. وشكرا للقائمين على هذا الصرح الثقافيّ الرائع.

آمال عوّاد رضوان

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة