قراءة نقدية في المجموعة القصصية (بين قوسين ونجمة) للأديبة الفلسطينية (يُسرا الخطيب)

تاريخ النشر: 22/03/21 | 9:15

أ. ولاء نافذ شحادة
غـــــزة- فلسطين
لا يمكن للأدب أن ينسلخ عن الواقع، فلغة النصوص الأدبية على اختلاف أجناسها تُعنى برصده، والوقوف على تحدياته وآماله وتطلعاته السياسية، والفكرية، والاجتماعية، والثقافية، والنفسية، والدينية، وإعادة صياغتها وإنتاجها وفق منظومة بنائية علائقية، بتقنيات ومصطلحات سردية حداثية، لها القدرة على الوصف، والتجسيد، والتشخيص، والترميز، والتخييل، وكسر أفق التوقع لدى القرّاء، وإدخال النصوص السابقة في اللاحقة، وخلق سطور لا متناهية من التأويل والتحليل والتفسير، في إطار فكري وجمالي يمتلك قوة التأثير والإقناع على المتلقي.
بين قوسين ونجمة، مجموعة ذات قصص قصيرة جدًا، وتضم هذه المجموعة (105) قصة قصيرة جدًا موزعة في ثلاثة أبواب لعناوين مختلفة، فالباب الأول: أبجديات خرساء، ويضم (42) قصة، والباب الثاني: أبجديات مرتبكة، ويضم (47) قصة، والباب الثالث: أبجديات عنكبوتية، ويضم (16) قصة.
والقصة القصيرة جدًا في أبسط تعريفاتها:” سرد قصصي ذو خصوصية، مردها حبكة القاص الموهوب، وطريقة إيرادته لها، وشكل اللغة التعبيرية التي استخدمها، على نحو من الانزياح اللغوي والدلالي” ، وما نجده عند الأدبية الفلسطينية (يسرا الخطيب)، في مجموعتها القصصية القصيرة جدًا، أنها أحسنت حبكة بنائها القصصي، فقامت بإدخال الأحداث المسرودة في دائرة النمو المتصاعد، وحررتها من قيود الواقع، وأعطتها سمة الإنسانية، والتحليق في فضاء الدلالة، وهدفت من خلال لغتها المختزلة والمكثفة والمفارِقة، إلى كشف الواقع وتعريته من ثوب الادعاء والمثالية، وإعادة تشكيله من جديد في بوتقة تعيد له مساره الصحيح، وتدخله حيز المثل والقيم والمبادئ الحرة والنزيهة.
إن ما يحدد مسار القراءة والتأويل لأي عمل أدبي هو العنوان، فهو البنية اللغوية الحاملة للدلالات المتتابعة، ذات الأوجه المختلفة تبعًا لقدرات القرّاء والمحللين، وهو أداة المبدع التي تحقق الوظيفة القصدية والجمالية، تلك التي تُنشئ قناة الاتصال بين المبدع والمتلقي والنص، في بوتقة تحافظ على السلم التأويلي والنسيج التركيبي.
في المجموعة القصصية التي بين أيدينا ( بين قوسين ونجمة)، نجد أن العنوان جملة خبرية بدأت بشبه الجملة الظرفية (بين قوسين ونجمة)، فالمبتدأ محذوف، وقد حدث هذا التحول من حالة الابتداء باسم مفرد وقد يكون هذا المفرد نكرة أو معرفة كأن نقول (عالقون بين قوسين ونجمة)، أو (الحياة بين قوسين ونجمة)، وغيرها من التأويلات، إلى حالة الابتداء بشبه جملة ظرفية؛ ليخدم فكرة الإيجاز والاختزال والتكثيف، التي تناسب جنس العمل الأدبي، وهو القصة القصيرة جدا، إضافة إلى رؤية نقدية أخرى، وهي أن الحذف فيه فصاحة وبلاغة أمتع من الذكر، وله قوة في شد ذهن القارئ وإعمال فكره؛ لفك دائرة الغلق والإبهام التي قد تصيب القارئ وقتها، فالغرض في العنوان ليس المبتدأ بعينه، إنما الخبر لارتباطه بشكل أعمق في النصوص الداخلية، ونجد الظرف المكاني (بين) دلّ على انحصار البينة، وانحصار البنية هو اتساع للقراءة والدلالة، فالأقواس تدل على الانحصار، والنجمة تدل على القفز والعلو، والجمع بينهما كمتناقضين بحرف العطف (الواو)، جاء لحصر المضمون النصي في واقع حسي معيش، وعالم افتراضي تعتريه حالة الفوضى والارتباك، فمن الواقع الحقيقي المكاني الضيق إلى النجمة ذات الأفق الممتد في الرحب الافتراضي التكنولوجي.
ولو نظرنا إلى العناوين الفرعية داخل المجموعة القصيصة القصيرة جدا، نجدها دلت على مضامين القصص القصيرة جدًا التي تناولتها، فالعنوان الأول (أبجديات خرساء) انبثقت من واقع فلسطيني أخرس عقيم، تعجه المفارقات والتضاربات السياسية والوطنية التي تشظت ما بين حلم وواقع، ونفوس سئمت الانكسار وباتت تحلم بالانتصار، ومصائر مؤجلة وقضايا معلّقة، وعزائم تفتر واقعا وتقوى حلمًا، ودعائم تطاول عناء السماء مرة وأخرى تعانق جذور الأرض، وفي أبجديات خرساء نجد براعة الأديبة التي تناولت المجتمع بجميع فئاته العمرية، وظروفهم الاجتماعية، فبرزت صورة الأجداد بالتجذر بالأرض والتعلق بها رغم كل محاولات الطمس والتهويد من قبل المحتل، وفقدان المقومات الحياتية في صورة الإصرار والتحدي، وأكدت على ذاكرتهم الصلبة التي تشبه شجرة السنديان، وبقاء روحهم المعلقة بلقاء الأحبة والغياب، وأن الأرض الفلسطينية تستمد نضارتها وحيويتها من آثارهم، فيقول الحفيد بعد تمعن وتتبع لسر اخضرار شجرة جدته الدائم “يراقبها وهي تلملم بياض شعرها المتساقط بحجرها، تدفئه بالقرب منها، فصرح لي مبتسما: أدركت لم شجرة جدتي دائمة الاخضرار” ، وبرزت صورة الأطفال في أقسى درجات انتهاك طفولتها، تلك التي باتت تسيطر عليها مشاهد الدمار والخراب التي لا تغيبها محاولات الترفيه التي قد تكون عبثية في شكل معقول، فباتت الحروب مكون أساس في شخصية الأطفال، كجزء كامن يسقط في كل محاولة ترفيهية، ففي قصة (الأحمر) ” في إحدى المخيمات الصيفية، وزعت الألوان على التلاميذ؛ ليرسموا ما شاهدوه بعد الحرب الأخيرة على غزة، بقيت الألوان على حالها ونفد اللون الأحمر” ، فلم نجد تلميذا واحد غير اللون الأحمر إلى الوردي أو الأصفر.
وفي قصة (أمنية مستحيلة)، والتي أُخذت من مجموعة (أبجديات خرساء)، جاءت في بناء دارمي قائم على حوار خارجي بين أم وولدها، فكرته أن يعكس الواقع الفلسطيني المؤلم، ومرارة الفقد المأساوية، وحرارة الشوق الملتهبة، والذي تُرجم عبر أسرة صغيرة انعدمت أدنى حقوقها داخل وطنها، فالأب أسير، والأخ جريح حرب، والأخ الآخر يغط في غيبوبته لا يعي ما يدور حوله، أما عن الأم فنستشف منها حالة الضعف والفتور والحيرة التي تستوطنها، فبعد أن استمعت لأمنيات ابنها والتي وصفت بالمستحيلة كشفت عن أمنيتها له في قولها مخاطبة إياه “أن أراك معافى” ، تُرى ممَّ تريد الأم أن يشفى صغيرها؟ من كابوس الأحلام والأمنيات المستحيلة؟ أم من الواقع المتهالك؟ أم لحقت به إحدى المصائب وفضلت الأم السكوت وعدم الإفصاح عنها لتساويه مع الذكر، فكلاهما لا حل له إثر واقع مجحف كهذا.
وتزداد الأحداث المسرودة واقعيةً، فقصة (خَيار) والتي صُبت في موقف تصويري مفارِق ذي مشهد ثنائي ضدي، فقدمت لنا القصة حالة الابن المقاوم الذي يصرُّ على نيل الشهادة ودخول الجنة، فدعوته عند كل صلاة: ” اللهم ارزقني الشهادة وأدخلني جنتك” ، وحالة الأب الحنون الذي لم يقف في طريق ابنه النضالي، محاولا إرضاء ضميره الديني والوطني، مستنجدا بالدعاء في كل صلاة ” اللهم ارجعه لي سالما” ، فالصلاة واحدة، والدعوات مختلفة، ولله خيار الإجابة والتلبية.
وفي مجموعة القصص التي جاءت بعنوان فرعي ثانٍ (أبجديات مرتبكة)، نجدها انبثقت من الواقع الاجتماعي والثقافي، وما يشوبه من هفوات وسقطات متوالية، وعرضت بعض القصص للعلاقة بين الرجل والمرأة، كقصة (غباء)، و( عزلة)، و(خيانة)، و(انسحاب)، و(جبن) في نسق ذكوري يجتاحه الغموض والاضطراب وعدم الاتزان، والجفاء والتسلط. ومن خلال قصة (متمردة)، هدفت الأديبة إلى إعادة تشكيل الوعي لدى المرأة وكسر صورة النمطية والاستلاب، تلك التي تقبل بالذل والإهانة من قبل الرجل تحت مسمى التضحية والصبر، إلى صورة متعددة أكثر وعيا وعدالة مثلتها عبر صورة الأم وابنتها في زمنين مختلفين، ” شبت صغيرتها عن الطوق. حادت بإصرار عن انكسارات أمها وضعفها؛ حظيت الأم بصورة لا تشبهها” ، فالأم والابنة رسالة تلميحية توعوية لكل امرأة معنّفة أو مقموعة أو منتهكة. وفي قصة (سُبات) عرضت لحالة الوعي المفاجأة التي تنوب المرأة بعد فوات الأوان مما شكل لديها أزمة زمانية فارقة، وفي قصة (صفر) حملت معاناة المرأة، وكشفت بلغة صارخة عن انهيار وانهدام العلاقات الأسرية وقصور السلم الأخلاقي لبعض الرجال، وسيطرة نزعة الأنا عليهم.
وفي قصة (تمنٍ)، نجد أنها رقت إلى مستوى الومضة؛ لشدة اختزالها، وحصرها مكانا وزمانا، فعبرت لنا الومضة عن فكرة فوات الأوان بأسلوب أحادي دارج الشيوع، “هو: ليتنا تقابلنا قبل عشرين عامًا. هي: ما كنا سنلتقي: حينئذٍ سنكون سوانا” ، فهو يرى أن الزمان الآن لم يعد كافيا أو متسعا لحالة الانجذاب التي اجتاحته نحوها، أما هي ترى أن الزمان لو عاد إلى الوراء والتقيا فلا حصول أو سعة للانجذاب الكائن بينمها الآن، فالقصة محاولة تعميق وتأصيل لحالة التغيير التي تضرب قاع الإنسان من أفكار ومبادئ وتصورات، تصلح لزمن وتفشل في الآخر، وهذا ما نطلق عليه انقلاب الحدث لنقيضه بفعل مرور الزمان.
وفي العنوان الفرعي الثالث والأخير من هذه المجموعة القصصية، جاء بعنوان (أبجديات عنكبوتية)، والذي انبثقت قصصه من العالم الافتراضي الذي تعتريه العلاقات الهشة، والمتشابكة، والذي تسيطر عليه حالة الزيف والهبوط والانحراف عن المسارات المستقيمة والصائبة، فنجد قصة (عالم افتراضي) تصف بدقة حالة الانفصام النفسي الذي تعيشه الشخصية، ففضاؤه الواقعي معتم ومظلم وكسيح، وفضاؤه الأزرق حر وطليق، وتبقى الشخصية في حالة صراع ونزاع بين الفضاءين، فالعالم الأزرق أصبح بمثابة هروب من مر الواقع، وكأنه فسحة أمل نحو التحرر والخلاص، إلا أن الشخصية لم يكتمل هروبها لأنها تبقى أسيرة التيار الكهربائي “يعود مهزوما من صولاته وجولاته لمجرد انقطاع التيار” ، وفي قصة (جشع) تعرض لنا الأدبية نفس الرجل الشهوانية التي تتصف بالدناءة وربما النرجسية، وتبقى في دائرة لا متناهية من البحث عن قضاء رغباتها واحتياجاتها مهما كلفها الأمر، متغاضية عمن حولها في سبيل مصلحة نفسها، فتصفه القصة ” يمتلك من النساء ما أحله الشرع وما حرمه، رُزق منهن بالبنين والبنات. يتجول عبر صفحات التواصل الاجتماعي باحثًا عن امرأة مختلفة، لديها قدرة غير مسبوقة على امتصاص وجعه وتنسيه تلكم البطون الخاوية” ، فحملت القصة رسالة تربوية وأخلاقية مفادها أن القناعة كنز لا يفنى.
وبهذا نجد أن الأديبة الفلسطينية (يسرا الخطيب) قد وفقت في بناء القصة القصيرة جدا، فتوافرت عناصر هذا البناء بشكل جميل ولطيف من استهلال وخاتمة، فــ” المستهل يمثل المدخل الأول للنص، فإن لم يوفق في شد ذهن المتلقي وحفزه على الدخول إلى عالم النص فإنه قد يكون مدعاة للتنفير” ، فغاب النفورعن قصص المجموعة وبرزت الدهشة والإمتاع، ولجأت لاستخدام الفراغ النقطي في بعض القصص؛ ليقوم القارئ الماهر بسد تلك الفراغات بما يخدم النص، وأما عن القصص التي انعدمت بها الفراغات النقطية لوحظ بشكل عام أنها وجهت إلى جميع القراء على اختلاف مستوياتهم العقلية، وجاءت اللغة بأسلوب رمزي وإيجازي مكثف يحيلنا إلى دلالات وإشارات عميقة مختلفة، صيغت بعبارات إيقاعية متناغمة ومترابطة الأفكار والمعاني والحس الشعوري، فمن يقرأ هذه المجموعة يشعر بأنها عقد لا يمكن الاستغناء عن إحدى حلقاته.

المصادر والمراجع/
المصادر:
1- الخطيب، يسرا، بين قوسين ونجمة، قصص قصيرة جدا، مكتبة سمير منشور للطباعة والنشر، غزة، فلسطين، طـ1، 2017م.
المراجع:
1- البطاينة، جودي فارس، القصة القصيرة جدا (قراءة نقدية)، مجلة التربية والعلم، مجلد 18، العدد 13، جامعة جرش الأهلية، الأردن، 2011.
2- هويدي، صالح، السرد الوامض (مقاربة في نقد النقد)، دار الثقافة، الشارقة، 2017م.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة