اِصبر، اِجلس وأًنصتْ قليلًا لِلُّغَهْ

تاريخ النشر: 14/05/20 | 1:06

دعاني صديقي الشاعر السخنينيّ الراحل صلاح عبد الحميد لحضور الصالون الأدبي الأخير لمنتدى القلم يوم الجمعة 21.02.2020 في مركز شرنقة – عرابة، لفتت انتباهي قصيدة بعنوان: “أَنْصِتْ قَليلًا لِلُّغَه” للشاعر محمود مرعي(من إصداراته: حروف جامحة، نثير النور، فيض الخليل، جنّة الأرض أنت وغيرها)، على الرغم من مشاركتي في عشرات الأمسيات الشعريّة، وجدتني، وللمرّة الأولى!، أطلبها منه بنسخة ورقيّة حين انتهى من إلقائها.

أعترف بأننّي ممّن يفضّلون سماع الشعر بدلًا من قراءته، فالصوت والكلمات أسرع وصولًا إلى قلبي، حين سماعي للقصيدة أشعر بما يجول في خاطر صاحبها، لغة جسده وصوته لها أهميّة كبرى في تلقّيها وتذويتها وتزيدها رونقًا وجماليّة، ومع ذلك فقراءتها تساعدني على الغوص في دلالاتها وأبعادها وأحيانًا أجدني أُعيد قراءتها مثنى وثلاثً علّني أفكّ حرفها وأكتشف مكنوناتها وصاحبها. فالشعر المسموع هو الأصل عند غالبيّة الشعوب، وكلّنا نعرف أنّ الشعر العربي نُقِل شفويًا ودُوِّن بعد مئات السنين من ولادته.

عَنون الشاعر فصول قصيدته الإثني عشر: “اِصْبِرْ قليلًا لِلُّغَه، اِجْلِسْ قليلًا لِلُّغَه، دَرويشُ همزَةُ وَصلِنا لِوُصولِنا بابَ اللُّغَهْ، أَنصِتْ قليلًا لِلُّغَه، اِشرَبْ صُداعَكَ واللُّغَهْ، فآمْلَاْ مواقيتَ اللُّغَهْ، شَكِّلْ حُضورَكَ في اللُّغَهْ، لِعَلامَةِ التَّرْقيمَ عُمْرٌ في اللُّغَهْ، في هَمزَةِ القَطْعِ احتِضارُكَ فالقِها تَحْيَ اللُّغَهْ، خُذْ مِنكَ بَعضَكَ لِلْوُفودِ عَلى اللُّغَهْ، لَلْفيجَنِ الجَبَلِيِّ حقُّ في اللُّغَهْ، و” وَلِسورَةِ الإسراءِ ضَوْءٌ في اللُّغَهْ”. ونلاحظ من النظرة الأولى أنّ صاحبها عاشق للّغة وضادها ولديه الكثير ما يقوله بشأنها.

الشاعر نصير اللغة العربيّة، على أصولها، فينادي كلّ من اغترب دينيًّا أو فكريًّا أو عقائديًّا أن يصبر قليلًا ويبتعد عن التهجين و”الاستغراب”، على أنواعه، فكلّه موسميّ عابر:

“قُمْ واغتَسِل مَنْ إثمِ وعْيِكَ بالصَّباحِ وبالورودِ وبالطُّيور العائداتِ
مِنَ الرّحيلِ إلى الرّحيلِ بهِمَّةِ القَروِيِّ باغَتَهُ الحَصادُ”

للعرب تاريخ مجيد، من حطّين إلى الأندلس، ومَن له تاريخ يتوجّب أن يفخر به ولا يخجل منه، يحتفظ به ويحترمه ليسمو ويعلو، من أجل ذلك يناديه بأن ينصت للغته العربيّة:

“حافظ على لُغتي وباميَةٍ مُعَلَّقةٍ عُقودًا فوق حيطان القُرى…
وجدائلِ الثَّومِ المُعلَّق في مُعرّشِ داليَهْ..
….
وازرَع خُصوبتكَ الفريدةَ في اللُّغَهْ…”

لمحمود درويش حضور في أشعار مرعي؛ يقولها بصريح العبارة “دَرويشُ همزَةُ وَصلِنا لِوُصولِنا بابَ اللُّغَهْ”، منفى الخيام ومحطَّات الحمام.

لفلسطينيّته حضور طاغٍ على طول القصيدة وعرضها؛ يتغنّى بنباتاتها وخضارها، عقود البامية وجدائل الثوم وعرائش الدوالي، سنبلات القمح، الزعتر البريّ، المُرّار، الجَعساس، الزوفا مع الطَّيُّون… والفيجن الجبليّ، وكذلك بمكانها: سِفرِ الجليل وصفحة النَّقَب، ينادي بالحفاظ على (كوشان) الإرث في اللُّغة…فالحفاظ على اللغة حفاظ على الأرض والبقاء…فهي المبتدأ والخبر.

“لمْ تَمشِ مُذ حمَلَت لَغيركَ…
أنتَ فارسُها المُعَدُّ لِلَيلِها وَنِكاحِها…
بعدَ الوِلادةِ…
أنتَ تعلَمُ أنَّها حملَت مَن أبيك ولم تَخُنهُ ولَو بِرَفّةِ جَفنها…
لم ترضَ غيركَ وارثًا…
لم ترضَ غيركَ ناكِحًا…
وتنقّلت حتّى أتتكَ بغيرِ إكراهِ اللُّغات…”

يستعين بالدين، وبالتراث وبالأساطير ببنيويّة مدروسة دون ابتذال، فجاءت متناسقة مع النص، أصيلة وليست بدخيلة، فينادي الفتى ليودّع هُرَيرته، رغم ثمود وعاد المنتشرة بالبلد، تاركًا عُنيزة وقوافلها بأمان، متجاهلًا عَزّةَ والرَّباب.

يحزّ في نفس الشاعر ما يجري في العالم العربي وتهافته على الغرب متناسيًا هموم شعبه وقضاياه الملحّة:

“لِكثرة الآباء في لَيلاتِ خمرَتها…
فَقَد باعتكَ بالكأْس الأخيرةِ في مواخير احتراف الجِنسِ
يورِثُ مُتعةً لا حَملَ يَعقُبُها حلالًا أو سِفاحًا…”

يمقت الشاعر ظواهر التهجين، والرياء والزيف المجتمعيّ والتقليد الأعمى للغرب:

“ضَع ما يُناسبُ وجهكَ العربيّ قبل عصور تقييد الكلام
تعهّرًا ومذلَّةً بمعاجم المَلِكات
في الرَّقصات إذ سبّحْنَ باسم العلج
قبْلَ الله حُبًّا بالهداية والتُّقى العصريّ،
في فتوى جوازِ تبادُلِ الرُّؤَساءِ للزَّوجات
في حَلَقات ذِكرِ المال أو فِقه الإشاعةِ
حين يُطلقها فقيهٌ خارجٌ
مزَجَ المذاهبَ بالمذاهبِ…”

الشاعر حريص على العربيّة الأصيلة وينادي باحترامها كلّ الوقت لقدسيّتها:

“في حضرة اللُّغة الجليلة
لا تُعاقر غيرَ خَمرتها العتيقةِ،
صٌبَّ أنتَ وآخركْ”

يصل إلى قناعة تامّة أنّ للُّغة حقًّا علينا وعلى وجودنا:

“والحقُّ باللُّغة استراح لأهلِهِ…
للتِّين لِلزيتونِ للنَّخلِ المحلِّقِ فوقنا
كَي يَحضُنَ الدُّورِيَّ في أعشاشِهِ
وحمامةً رُقطِيَّةً تصحو على وقتِ الأذان
صلاتُها عزفٌ على ناي الصَّباح”

أنهى قصيدته بفصل “وَلِسورَةِ الإسراءِ ضَوْءٌ في اللُّغَهْ” وليس بصدفة، وكأنّي به يقول إنّه شاعر قبل أن يقول القصيدة، ولو لم يكن شاعرًا لما قالها، فلهُ بصماته على المشهد الثقافي، حارس وحريص على اللّغة وأصولها ويحزّ في نفسه التجنّي عليها، هو نصير الحداثة والتجديد، لكن على أصولها وليس بعشوائيّة مفرطة فيقول:

“رَتِّل حداثةَ وعينا بالمفردات الطّالعات من العصور
مُجرّدًا عنها عَباءَتها القديمة من قِراءة سورة الإسراء
تُمَّ اقطعْ لِسان القائلين بنورِها الآتي حياةً
وانبعاثًا مِن مقابرنا القديمة
….
ناثرًا ما قد تكوّمَ من رماد الموت
في جسدِ اللُّغهْ…”

في زمن الفيس بوك والسرقات الأدبيّة المتفشّية في يومنا هذا وانتحال شخصيّة الغير وكتاباته أبدع شاعرنا حين “شفّر” قصيدته منعًا للالتباس ومفتاحها في البيت الشعريً: “مَسْرِحْ حَنينَكَ مُقْصِيًا وَجْهًا دَخيلًا، مَدَّ ريحَ عُبورِهِ يَوْمًا”.

وأخيرًا، في زمن انتشار “صفّ الحكي” حاصد (اللايكات) على صفحات التواصل الاجتماعي على أشكالها، وجدت شعرًا أصيلًا مغايرًا، يُقرأ مرّات عديدة دون كلل أو ملل.

وتبقى لذّة الشعر موجودة في سماعه وقراءته، كلّ وليلاه!

حسن عبادي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة