دراسة لقصة “إحذر يا جدي” للأديب سهيل عيساوي
تاريخ النشر: 22/04/14 | 7:56بقلم: حاتم جوعية
مقدِّمة:
الأستاذ ُ الأديبُ والشَّاعرُ والمُؤَرِّخُ “سهيل إبراهيم عيساوي” من سكان قرية “كفر كنا” -الجليل- أصدرَ العديدَ من الكتبِ الأدبيَّة والدواوين الشعريَّة والدراساتِ التاريخيَّة، وفي السنواتِ الأخيرةِ بدأ يُرَكِّزُ ويُكثِّفُ كتاباتهُ في مجال أدبِ الأطفال، صدرَ لهُ عدَّةُ مجموعاتٍ قصصيَّة للأطفال لاقت رواجًا وشهرة ً واسعة ً محليًّا وخارجَ البلاد وَرُكِّزت عليها الأضواءُ من قبل معظم وسائل الإعلام.. والبعضُ من هذه القصص أدخِلت ضمنَ المناهج الدراسيَّة وكتبَ عنها العديدُ من النقاد محليًّا وخارج البلاد، ومن أبرزهم الكاتب والناقد “محمد داني” من المغرب…
ومحليُّأ: حاتم جوعيه وصالح أحمد.
والآن يُطلُّ علينا سهيل عيساوي بعد غياب بضعةِ أشهر عن الكتابةِ والنشر ويتحفنا بإبداعين جديدين في مجال أدبِ الأطفال، وهما: قصَّة “إخذر يا جدِّي” وقصَّة “طاهر يتعثَّرُ بالشَّبكةِ العنكبوتيَّة”. وسأتناولُ هاتين القصتين وسَأرَكّزُ على جميع النقاطِ الهامَّةِ فيهما من خلال الإستعراض والتحليل…
وسأبتدِىءُ بقصَّة: “إحذر يا جدِّي”.
هذه القصَّة “إحذر يا جدِّي” تقعُ في (26 صفحة) من الحجم الكبير تحلِّيها رسوماتٌ جميلة ٌومعبِّرةٌ على الغلاف من الناحيتين وفي الصَّفحاتِ الدَّاخليَّة، وهذه الرُّسومات تتحدَّثُ وتعكسُ وتجسِّدُ أحداثَ ومشاهد مواضيع القصَّة. وقد صَمَّمَ لوحة َ الغلاف على الوجهين الفنانة “فينا تنئيل”… وأمَّا الرسومات الداخليَّة فبريشةِ الفنانة التشكيليَّة “أروى أيوب”، وراجعَ الكتاب مع التدقيق اللغوي الأستاذ “أحمد شدافنه”.
تتحدَّثُ القصَّة ُ عن الطفل “تامر” ابن الثلاثة أعوام ويصفهُ الكاتبُ انهُ طفلٌ مشاكسٌ شقيٌّ وكثيرُ الحركةِ فهو يُمارسُ فعاليَّات وهوايات كثيرة مثل: القفز والإختباء في زوايا البيبت أو تحت الطاولة والزوايا المهجورة.. ويتذوَّقُ أصنافَ الأغذية أو يسكبُ الزيتَ أو يعيثُ بمحتوياتِ الثلاجةِ ويُخربشُ على جدران الغرف. وأحيانا يُحاولُ أن يتقمَّصَ ويُقلِّدَ شخصيَّة َوالدِهِ فينتعلُ حذاءَهُ الكبير وأحيانا يُحاولُ أن يتفحَّصَ الزوَّارَ ويكيلُ لهم الكثيرَ من الأسئلةِ البريئة… وحسب ما يصفهُ الكاتبُ سهيل بأنهُ لا يتركُ شاردة ً ولا واردة ويقلبُ الأشياءَ رأسا على عقب. ومع كلِّ شقاوةِ وشيطنةِ هذا الطفل فالجميعُ يُحبُّونهُ (الأهل والجيران والأقارب والمعارف) ويحاولُ الجميعُ انتزاع قبلة ً منهُ حتى عنوة ً لفرط ِ محبَّتهِم لهُ. وعلى حدِّ قول ِ الكاتب سهيل عيساوي: “صارَ خدُّهُ مسرحًا لقبل متشابكة (جملة شاعريَّة) وأنَّ ضحكاتهُ البريئة تملؤُ الفضاءَ والكلمات تخرجُ من فمِهِ حلوة ً جميلة ً (كحلاوة شرقيَّة) وأمَّا وقعُ خطاهُ على الأرض فكالموسيقى يستفيقُ الجميعُ على نشوتِهَا. وكانَ الطفلُ تامرُ دائمًا يلعبُ مع أترابهِ (الأطفال الذين في جيله) بالكرةِ المُلوَّنةِ بفرح في ساحةِ بيتهم ويقلِّدُ لاعبَ كرةٍ مشهور، وكان أيضًا يمارسُ مع أصدقائِهِ لعبة الإختفاءِ بين اللصوص ورجال الشرطة.. حيثُ يختبئون تحت شجرة الزيتون وحاويات القمامة وبين الورود.. حتى يَتِمَّ القبضُ عليهم.
هذه نبذة ٌ مختصرةٌ من مقدِّمَةِ القصَّةِ ومن خلالها يُعَرِّفُ الكاتبُ القُرَّاءَ على بطلها الطفل “تامر”… وينتقلُ الكاتبُ بشكل مباشر بعد المقدِّمَّةِ إلى فصلٍ ومشهدٍ جديد فيه يتحدَّثُ جدُّ “تامر” تلفونيًّا مع معلم السواقة الذي بشَّرَهُ بأنه اجتازَ الإمتحان العملي، فيفرحُ الجدُّ ابنُ السِّتين كثيرا ويخاطبُ نفسَهُ بتعجُّبٍ: “نجحتُ وأنا ابنُ الستين! لقد تحقَّقَ حلمي وحلم زوجتي.
وبعد أسبوع من نجاحِهِ في الإمتحان يشتري الجدُّ سيَّارة ً ذهبيَّة اللون (يصفها الكاتبُ أن لونها ذهبي ربما للفتِ أنظار الأطفال الذين يقرؤُون القصَّة لأنَّ القليل جدًّا من السَّيَّاراتِ تكون بهذا اللون). ويوقفها أمامَ عتبةِ البيت – المكان الذي يلعبُ فيه تامر مع أصدقائِهِ الأطفال…ويتذكَّرُ الجدُّ محطات عديدة في حياتِهِ…منذ الطفولةِ إلى الكهولةِ والإقتراب من الشَّيخوخةِ.. وكيف كان يسييرُ على قدميهِ في أيام الصبا حتى يصل إلى شفاعمرو وحيفا وعكا (يذكر إسم مدن هامَّه في بلادنا). وعندما اشترى لهُ المرحوم والدُهُ حمارًا لينقلَ على ظهرهِ القمحَ والطحين، وعندما تزوَّجَ زُفَّ على صهوةِ حصانٍ… وينتقلُ الكاتبُ بشكل مبائر وبدون مقدماتٍ إلى مشهدٍ آخر من القصَّة… فيعرضُ ويصفُ فرحَ جميع أفرادِ العائلةِ بشراء السَّيَّارَة..إلا أنَّ الطفل تامر لم يفرح لأنَّ سيَّارة َ جدِّهِ أخذت مكانا في الساحةِ واستحوذت على ملعبهِ وجدُّهُ بالطبع يخافُ أن تخدشَ سيَّارته من أيَّةِ ضربة صغيرةٍ، ولهذا والدهُ (والد تامر) نهَاهُ عن اللعب بجانبها، فانقطعَ تامر وأصدقاؤُهُ (أترابهُ) من اللعبِ وإحداثِ الضَّجيج في ساحةِ البيِت حيث تقفُ سيارة ُ جدِّهِ.
وينتقلُ الكاتبُ “سهيل” إلى مشهدٍ آخر في القصَّةِ حيث الجد يقودُّ سيارته إلى ساحةِ الدار فيهرولُ سامر ببراءَتِهِ وحسِّهِ الطفولي ويفتحُ ذراعيهِ لاحتضان السّيَّارة فيوقفُ الجدُّ سيارتهُ ويتَّجهُ إلى تامر ويحتضنهُ بحبٍّ وشغفٍ ويطبعُ على خدَّيهِ ثلاث قبلات حارَّة (على خدِّهِ الأيمن والأيسر وعلى جبينه الغض – وهذه ترمزُ إلى المحبَّة والإحترام) ويمضي معهُ في سفرةٍ قصيرةٍ.
وبعد ذلك ينتقلُ الكاتب سهيل لمشهدٍ آخر حيث كانت أم ُّالطفل تامر في إحدى الأيَّام واقفة ً قربَ شرفة البيتِ فلمحت الجدَّ عائدًا بسيارتهِ ويحاول إيقافها بجانِب مدخل البيت كالعادةِ وتصرخُ الأم بأعلى صوتها: تامر خلف سيارتك.. تامر خلف سيَّارتك إنتبه (يظهر هنا عنصر المفاجأة والرَّهبة وترديد نفس الجملة الموجَّه للجد- تامر خلف سيَّارتك إنتبه). وكانَ الجدُّ غيرَ منتبهٍ ومركزا تفكيره في أغنيةٍ تراثيَّة يسمعُها ونوافذ سيارته كانت مغلقة وسمعة أيضا كانَ ضعيفا (بسبب السن)، ولكنهُ بحدسهِ وبحسِّهِ وبشعورهِ الداخلي وفطنتهِ (يستعمل الكاتبُ هنا كلمة حدس الفصحى التي لا يعرف كُنهَ معناها الطفلُ الصغير وحتى بعض الكبار في السِّن)… شعرَ أنَّ شيئا ما يحدث فضغط َ بسرعةٍ على فرامل السيَّارة وفتح البابَ وخرج وسمعَ عندهَا الأمَّ وهي تصرخُ: صدمتَ تامرًا دَهَستَ تامرًا، تامر حبيب قلبي يا روحي… أمَّا الجدُّ فلمَّا رأى هذا المشهدَ كادَ قلبُهُ أن يسقط َ من شِدَّةِ الخوف واصفرَّ وجهُهُ من شدَّةِ الإرتباك وسقطت نظارتهُ السَّميكة (لا يرى جيَّدا بدونها)… وإنهُ لتشبيهٌ وتصويرٌ جيد من الكاتبِ لهولِ الموقف ولشِدَّةِ الصَّمةِ وتأثُّر الجد بهذا المشهد المخيف) وأصابهُ الدُّوار وأحسَّ كأنّ الدُّنيا تموجُ بهِ (من هول الصَّدمة) فالتقطَ نظارتهُ بسرعةٍ وأخذ َ حفيدَهُ للطبيب وكانَ الطفلُ “تامر” مُمَدَّدًا وغائبًا عن الوعي وكانت الأمُّ تهزُّ جسَدَهُ الغضَّ ليتحَرَّكَ ويصحو دونَ جدوى. وأمَّا الجد فدخلَ في حالةِ شبهِ غيبوبةٍ وبدأت الأفكارُ السلبيَّة العديدة تتلاعبُ وتتضاربُ في رأسهِ المُشوَّش والحائر، فيتساءَلُ: هل سيستعيدُ تامر عافيتهُ من جديد.. ويسألُ نفسَهُ وَيُجيبُ: نعم سيعودُ تامر معافا سليمًا. ويسألُ أيضًا: هل أستطيعُ مسامحَة َ نقسي إذا أصابَهُ مَكرُوهٌ لا سمحَ الله؟!..سأسْجَنُ بالتأكيد.. وهل يَسْمَحُ لي بتقبيلهِ؟ ونعودُ أصدقاء كما كنا؟؟.. ماذا سيقولُ عنِّي الجيران لا أجيدُ السِّياقة َ! من أوَّل غزواته كسرَ عصاته! (مثل شعبي دارج ويستعمل كثيرًا)… وهل ستقومُ الشُّرطة بسحب رخصة السَّيَّارة؟وأحجمُ عن السياقة قطعيًّا؟ (احجم كلمة فصحى ثقيلة قد لا يفهمُ معناهَا حتى الكبير).. ولم يصدَّ ويوقفْ هذه الأسئلة التي تتراكمُ وتنهالُ على مخيِّلتِهِ بإنسيابٍ وبشكل تلقائيٍّ سوى بكاءِ الطفل تامر وصراخه المفاجىء: ماما ماما ماما… بعدَ صحوتِهِ، فعندها تنفسَّ الجدُّ الصُّعَداءَ وانفرجَت أساريرُهُ. وفي العيادةِ ضَمَّدَت الممرِّضة ُ الخدوشَ الطفيفة في يدهِ اليُسرى، وقالَ طبيبُ الأطفال: إنَّ الإصابة َ طفيفة إنَّ اللهَ لطفَ. وأمَّا أنتَ يا تامر فسوفَ أمنحكَ إجازة ً للرَّاحةِ لمدَّة ثلاثة أيَّام، أنتَ ممنوعٌ فيها من اللعبِ والشَّقاوة، وضحكَ الجميعُ بصوتٍ عال ٍ من قول الطبيب وكأنَّ لسانَ حالِهم يقول: ربّنا كبير، الحمد لله…. وتنتهي القصَّة نهاية ً سعيدة.
ويلاحظ ُ كلُّ قارىءٍ في نهايةِ الفصل الأخير من القصَّةِ أنَّ الكاتبَ يعرضُ عدَّة َ صور ومشاهد وينتقلُ من مشهد لآخر بشكل مفاجىء دون أيِّ ترابط وتواصل وبغموض نوعا ما في صدَدِ مجرى الأحداثِ وبشكل فنيٍّ وبلباقةٍ، رُبَّما ليُدخِلَ عنصرَ المفاجأةِ للجميع ولكي لا يعرف القارىءُ (الكبير في السنِّ أو الطفل) ماذا سيكون في نهايةِ القصَّة…والكثيرون قد يتوقَّعُون أن نهايتها ستكونُ تراجيديَّة مأساويَّة ً يموتُ فيها الطفلُ..ولكن الكلّ يتفاجأ بسلامتِهِ وبالنهايةِ السَّعيدة والمفرحة للقصَّةِ.
تحليلُ القصَّة:
تُعتبرُ هذه القصَّة قصيرة ًمن ناحيةِ الحجم والكم، ولكنها عريضة وواسعة ٌ جدًّا من ناحيةِ الكيف والمضمون والمواضيع العديدة المطروحة فيها بشكل تلقائيٍّ وانسيابيٍّ وبعفويَّة، ومفادُ وفحوى هذه القصَّة (إحذر يا جَدِّي): هو تعليم وتثقيف الأطفال (لجميع الأجيال وخاصَّة جيل الطفولة المبكِّر من سِنِّ سنتين إلى عشر سنوات تقريبا) واطلاعهم على جميع الأشياء والأمور الحياتيَّة اليوميَّة الهامّة، مثل: الحذر على الطرق والإنتباه أثناء اللعب والإنضباط، عدم التَّهَوُّر والتسرع، الرزانة والتعقل.. وتعلِّمُ المَحبَّة َ، حب الأهل لأولادِهم وحرصهم على سلامتهم ومستقبلهم.. إلخ.
كتبت هذه القصَّة بلغةٍ فصحى جميلة وجزلةٍ وسلسةٍ وباسلوبٍ أدبيٍّ منمَّق، ويُكثرُ الأستاذ “سهيل” من إستعمال التوظيفاتِ والإستعاراتِ البلاغيَّةِ الحلوةِ والعميقةِ ومن الكلماتِ الفصحى والصَّعبةِ أحيانا والتي لا يفهمُهَا ويعرفُ معانيها حتى الكبار في السن، مثل كلمات: “إستحوذت”(صفحة 12)، و ” بحدسِهِ “(صفحة 16)، وكلمة “أحجم ” (صفحة 20)، و “تتنفسُ الصعداء ” (صفحة 12)… إلخ.
وأما التعابير والتَّوظيفات والتشبيهات البلاغيَّة، مثل: (تخرجُ الكلمات من ثغرهِ كحلاوة ً شرقيَّة، و(وقع خطواتهِ على الأرض موسيقى يستفيق الجميعُ عليها بنشوةٍ – صفحة 4)، (ويمطرُهم بالأسئلةِ البريئة، أو يعبث بمحتويات الثلاجة. صفحة 2). ومن الكلمات والجمل الفصحى المستعملة أيضًا: (حاوية القمامة صفحة 6). و(يلعب تامر وأترابُهُ – واستعملَ كلمة أتراب أكثر من مرَّة في القصَّة) والأتراب معناها الأصدقاء المشابهين ومن نفس الجيل. وهذه الكلمات الفصحى قد نجدُ بعضَ الكبار في السنِّ لا يعرفون معانيها.
من الناحيةِ الشَّكليَّةِ هذه القصة صفحاتها ومشاهِدُهَا مكوَّنة ٌ من جمل ٍ طويلةٍ ويتخللها الكثيرُ من الفواصل للتخفيفِ وللإستراحةِ، وهنالك جملٌ عديدة ٌ تأخذ صفحة كاملة وفي نهايتها يضعُ الكاتبُ نقطة ً، فمثلا: (صفحة 10) مكوَّنة من 6 أسطر وكلها جملة واحدة وفيها 7 فواصل. و(صفحة 6) مكونة من 5 أسطر وكلها جملة ٌ واحدة تنتهي بنقطة وتتخلَّلها 6 فواصل. و(صفحة 2) مكوَّنة من 8 أسطر تنتهي بنقطة وتتخللها 15 فاصلة وكلها جملة واحدة. و(صفحة 4) مثلا كلها جملة واحدة أيضا مُكوَّنة من أربعة أسطر ونصف وتنتهي بنقطة وتتخلَّلُ هذه الجملة والصورة أو المشهد – حسب التسمية – 5 فواصل.
وأهمُّ ما يُمَيِّزُ هذه القصَّة هو: السَّلاسة وعنصر الترغيب والتشويق حيث يقرأها أيُّ إنسان طفلا كان أو كبيرا بشغفٍ وبمحبَّةٍ وباستمراريَّةٍ حتى النهاية.. وقد نستخلصُ منها الكثيرَ من الدروس والعبر، فالقصَّة ُغيرُ مُمِلّةٍ وغير متعبة لقارئِهَا، وخاصَّة ً للطفل الصَّغير فبإمكانهِِ استيعاب كل فقرة وكل مشهد وكل جملةٍ منها ورشف وهضم كل معنى وكل هدف وتقبُّله وأخذه كدرس وكنموذج يُحتذىِ ويقتدِي به في حياتهِ وسلوكه اليومي… فالقصَّة إذا تعليميَّة، تثقيفيَّة، تهذيبيَّة للسلوكِ والتصرُّفاتِ والاعمال من الدرجة الأولى.
وفي وصفِ الكاتبِ “سهيل عيساوي” للطفلَ (تامر)، من خلال مشاهد وأحداثِ القصَّةِ ومن خلال عرض شخصيَّتِهِ، يُريد أن يقول لنا: إنَّ الأطفالَ معظمهم مثل الطفل تامر يُحِبُّون اللعَب واللهوَ والشَّقاوةَ وكثرةَ الحركة… ولكنَّ الأهلَ دائما حريصون على سلامةِ أطفالهم، ومن واجبهم أن يُراقبوا تصرُّفاتهم ويعرفوا أين يلعبون وإلى أينَ يذهبون، وخاصَّة ً إذا كانَ هنالك ما يُشكِّلُ خطرًا على سلامتهم وحياتهم، مثل الشِّوارع وأماكن المرور وإياقف السّيَّارات (كما جاء في هذه القصَّة). ويذكرُ الكاتبُ نقطة ًهامَّة أيضًا وهي: إنَّ الكثيرَ من الاطفال يُحِبُّونَ أنى يتقمَّصُوا شخصيَّة َ آبائِهم أو من يكبرُهم سنًّا من ناحيةِ اللباس والمشي وطريقة الكلام.. إلخ… وهذه الصفة ُ موجودة ٌ في معظم الأطفال. والأستاذ “سهيل عيساوي” هو معلِّم ومُرَبِّي أجيال وقريبٌ جدًّا إلى عالم وجوِّ وفكر وحياةِ الأطفال باحتِكاكِهِ اليومي بهم فيعرفُ بالضَّبطِ كلَّ ما يدورُ ويختلجُ في وجدان وعقول الأطفال الصِّغار من أحاسيس ومشاعر وأفكار أو رغباتٍ وأحلام وطموحاٍت بريئةٍ.. وهو أيضًا أبٌ وربُّ عائلة ٍويعرفُ جيِّدًا كلَّ احتياجاتِ أطفاله. فعندما يكتبُ للأطفال يعرف لماذا يكتب وعن ماذا يكتب وما هو مَفادُ وجدوى ومغزى الكتابة والهدف والرِّسالة التي يصبو إليها ويريدُ أن يوصلها من خلال الكتابة… لأنَّ هنالك العديد ممَّن يكتبون قصَصًا للأطفال (محليًّا) هم بعيدون كلَّ البُعدِ عن عالم الطفل وأحلامِهِ وأفكارهِ وأجوائِهِ وحياتِهِ… ولهذا لا ينجحون بل يخفقون ويفشلون في هذا المجال من الناحيةِ الفنيَّةِ والأدبيَّةِ ومن النواحي التعليميَّةِ والتثقيفيَّة وفي كيفيَّةِ إيصال رسالةٍ واضحةٍ شاملةٍ بجميع أبعادها للطفل. وأمَّا الأستاذ سهيل فنجدُهُ في هذه القصَّةِ وغيرها من القصص العديدةِ التي كتبها للأطفال ونشرهَا يتطرَّقُ وَيُشيرُ إلى كلِّ كبيرةٍ وصغيرةٍ تعني وتهمُّ الطفل فكأنَّهُ يتجَسَّدُ ويتقمَّصُ فكرَ وقلبَ وضميرَ وهواجسَ وخيالَ الأطفال الشفَّاف والبريىء وينطقُ ويتكلَّم من خلال ِ عالمِهم فيرخي لنفسهِ ولقلمهِ ولإبداعهِ العنانَ والإنسيابَ والإسهابَ من هذا المنطلق.
يصفُ الأستاذ ُ سهيل بطل القصَّة (الطفل تامر) كيف يلهو ويلعب.. وكيف يتذوَّقُ كلَّ أصناف الطعام التي تقعُ أمامَهُ حُبًّا في الإكتشاف والتذوُّق وكيفَ يسكبُ الزيتَ ويعبثُ بمحتوياتِ الثلاجةِ ويخربشُ على جدران الغرف.. أو يتقمَّصُ شخصيَّة َ والدِهِ فيلبسُ حذاءَهُ الكبير، وكيفَ يُكثرُ منَ الأسئلةِ للزُّوَّارِ وكلها بريئة.. وكيفَ يلعبُ ويختبىءُ في زوايا البيت أو يقفُ فوق الطاولة… وهذا للطفلُ يذكِّرنا نحن الكبار بطفولتِنا..عندما كنا صغارًا نلهو ونلعبُ… وكيفَ أنَّ الأطفالَ مع كلِّ شقاوتِهم وكثرةِ حركتِهم وشيطنتِهم (كما نقول باللهجة العامِّيَّة)هم محبوبون لبراءتِهم. وهذا الطفل ” تامر ” يُحاولُ الجميعُ تقبيلهُ بمحبَّةٍ. ويصفُ الكاتب، في القصَّة، كيف يلعبُ تامر بالكرةِ الملوَّنة مع أترابهِ في ساحةِ البيت ويلعبون أيضا ألعابًا أخرى، مثل: لعبة الصوص ورجال الشُّرطة والأختباء بين الأشجار وحاوية القمامة وبين الورود… إلخ. وهذه الألعاب كنَّا نلعبُها ونحن صغار. فاللعبُ بالنسبةِ للطفل شيىءٌ مقدَّسٌ ومسرحُ ومكان اللَّعب لهُ دورٌ ومكانة ٌ ومنزلة هامَّة في وجدان وخيال الطفل فإذا تغيَّرَ مكانُ ومسرحُ اللعبِ لأسبابٍ طارئة وبشكل فجائي فتكونُ طامَّة وكارثة للطفل، كما حدثَ مع الطفل تامر عندما اشترى جدُّهُ سيَّارة ً ووضعها أمامَ عتبةِ البيت وسدَّت قسمًا من السَّاحةِ فاضطرَّ هو واصدقاؤُهُ أن يلعبُوا في أماكن أخرى غير ملائمة مثل ساحةِ بيتهم. ويذكرُ الكاتبُ كيفَ أنَّ الجدَّ (جد تامر) يحصلُ على رخصةِ سياقة في جيل ستين (60) سنة وهو شيىءٌ صعب بسبب كبر السِّن وكيفَ كانَ هذا الجد وهو صغير يقطعُ المسافات الطويلة مشيًا على القدم من شفاعمرو وحيفا والناصرة وبعدها اشترى لهُ والدُهُ حمارا لينقل على ظهرهِ القمحَ والطحين، وعندما تزوَّجَ الجدُّ زُفَّ على صهوةِ الحصان ِ ولم يكن يومها سيَّارات في القريةِ. وبشراء الجد للسيَّارة توقَّفَ تامر عن اللعب في ساحةِ المنزل – كما ذكرَ أعلاه – وكانَ والدُهُ يمنعُهُ خوفا أن تخدش السَّيَّارة ولمنع إحداثِ الضَّجيج والإزعاج (يُعطينا الكاتب صورة ً للمرح واللعب الطفولي). ويحدثُ أن الجدَّ أثناءَ إيقافِ سيَّارتِهِ يصطدمُ بتامر دون أن ينتبهَ فيتوقَّفُ ويأخذهُ للعيادةِ فيعالجونهُ هناك وتكون إصابته طفيفة وسليمة.. فيُريدُ الكاتبُ من خلال هذا المشهد (أصابة تامر) أن يقولَ للأطفال: عليكم أن تنتبهوا أثناء َ اللعب من السيَّارات….وفي نهايةِ القصَّةِ ينعكسُ للقرَّاء، وخاصَّة للأطفال الجوُّ الأسري والعائلي الطبيعي والسَّليم،ويظهرُ بوضوح شغفُ وحبُّ الأهل والجميع للطفل تامر واهتمامُهم الكبير بهِ وسرُورهُم وفرحهم بسلامتِهِ.
أمَّا الجوانب والمواضيع الهامَّة التي يُركِّزُ عليها الأستاذ سهيل عيساوي في القصَّة فهي:
1) الجانب الترفيهي والمسلِّي
2) الجانب الإجتماعي والأسري – عرض وسرد واسع لجوِّ الأسرة
والطفل داخل البيت وخارجه وأثناء اللعب واللهو مع الأطفال.. في السَّاحة والشَّارع وخارج البيت.
3) عالم الطفل:- أفكارُهُ، أحلامُهُ، طموحاتهُ، رغباتهُ، ما يُحبُّ وما يكرهُ.. وما الذي يُريدُهُ من الحياة… وماذ يُريدُ أن يتعلَّم َ ويعرفَ كلَّ يوم جديد.
4) محَبَّة ُ الأهل (الأب والأم لأولادهم)، ومحبَّة الجد أيضًا لأحفادِهِ التي تضاهي محبَّة َ الأب والأم.
5) معلومات وشذرات عن جيل الكهولة والشَّيخوخةِ للطفل وكيف الإنسان عندما يكبرُ ويمتدُّ به العُمرُ يثقل سمعُهُ وأيضًا قد يخفُّ ويضعفُ نظرهُ، ولهذا كانَ الجدُّ يلبسُ نطاراته السَّميكة وقد سقطت منهُ أرضًا بعد أن صدمَت سيَّارتهُ تامرًا ورآهُ ملقى على الارض.
6) إعطاء صورة ً تراثيَّة وتاريخيَّة وواقع حياتنا قبل أكثرمن 80 سنة وإلى الآن وكيف كانَ الناسُ يستعملونَ الحميرَ والدَّواب قبل السَّيَّارات، والكثيرون كانوا يسيرون مشيا على الأقدام من مكان لمكان ومن قرية لقرية ومدينة.
7) يذكرُ أسماء بعض المدن (تعريف للأطفال على معالم ومواقع ومدن هامَّة في بلادنا)، مثل: مدينة الناصرة (عروس الجليل)، شفاعمرو، وحيفا.
8) إستعمال تعابير وأمثال شعبيَّة، مثل:(من أول غزواته كسرعصاته).
9) يُوضِّحُ الكاتب للطفل ولكلِّ شخص انَّ من يرتكب مخالفات في السير مثل: دهس شخص والتسَّبُّب لهُ بإعاقةٍ دائمةٍ أو التسبُّب بموتِهِ… أو غيرها من مخالفات السير الكبيرة تسحب منه رخصة السِّياقة (وذلك عندما كان الجدُّ يتخيَّلُ ويتحدَّثُ مع نفسهِ وماذا سيحدثُ لهُ لو أصابَ الطفل تامر مكروهٌ فعندها ستسحبُ منه رخصة قيادة السَّيَّارة بالتأكيد).
10) الطابعُ المرحي والمزاح، حيث في نهاية القصَّة يتحدَّثُ الكاتبُ على لسان الطبيب الذي سيمنحُ تامر إجازة لمدَّة ثلاثة أيَّام، فيقولُ لهُ: أنتَ ممنوعٌ من اللعب والشَّقاوة. وتنتهي القصَّة بالضَّحك (بصوت عال ضحكَ الجميع).
10) عنصر الإيمان وأنَّ كل شيىء بقضاء وقدر، والكلُّ يشكرُ اللهَ على سلامة الطفل.
خاتمة:
هذه القصَّة ناجة من جميع النواحي: الفنيَّة والشكليَّة والذوقيَّة والمضمون والأهداف والمواضيع.. وربَّما قد يرفضُ ويعترضُ البعضُ لإدخال كلماتٍ فصحى فيها يصعُبُ على الطفل فهمُهَا، ولكنني أقولُ: إنهُ من خلال مجرى أحداثِ القصَّةِ وتسلسل الكلماتِ في الجمل يستطيع الطفلُ وحتى أيُّ شخص ٍ سطحيٍّ وعسير الفهم أو غير متعلم ومُلمٍّ باللغةِ العربيَّةِ أن يدركَ ويعرفَ معنى هذه الكلمة الصعبة أو غيرها وفحوى الجملة كاملة. فاللغة ُ العربيَّة ُ لغة ُ يُسر وليست لغة َ عُسرٍ، وكلُّ كلمةٍ عربيَّة مهما كانت صعبة ً فمن خلال ِ موقعِها ومكانها في الجملة وحسب إدراجها يُفهَمُ معناها تلقائيًّا… وهذا ممَّا يُميِّزُ اللغة العربية
عن غيرها من اللغاتِ الأخرى رغم اتساعها… هذا بالإضافةِ إلى جمال هذه اللغةِ (لغة القرآن الكريم كتاب الله العزيز) وعذوبتها وجزالتها وبيانها وسحرها وروعتها.
وأخيرًا:
أهنِّىءُ الصَّديق الكاتب والشَّاعر والمُؤَرِّخ الأستاذ سهيل إبراهيم عيساوي على هذا الإصدار الجديد الإبداعي الرَّائع.. فمبروك وإلى الأمام دائما في مجال التأليف والإبداع – الأدبي والفكري – على مختلف أنواعهِ وألوانِهِ.