قراءة أسلوبية في قصيدة “أَنيخي رِكاب الهجرِ” للشاعر الفلسطيني سامي مهنا

تاريخ النشر: 12/04/20 | 9:15

أ‌. ولاء نافذ شحادة
إذا كان الأسلوب طريقة المبدع في التعبير عن أفكاره وأحاسيسه وانفعالاته (صياغة لغوية)؛ فإن الأسلوبية طريقة المتلقي في قراءة النصوص وتأويلها (الكشف عن الخصائص الفنية للعناصر اللغوية وصولًا إلى دلالتها العميقة والمقصودة)، أي تكامل بين الشكل والمضمون أسسته الظواهر أو المقولات الأسلوبية الثلاث وهي: الاختيار، والتركيب، والانزياح.
الشاعر سامي مهنا في هذه القصيدة اتخذ المرأة معادلًا موضوعيًا ليفرغ عليه مشاعره وأحاسيسه وعاطفته التي تلوج في صدره، فجسّد من خلال هذا المصطلح النقدي الحداثي علاقته بأرضه المحتلة، وبيّن موقفه تجاهها، وعكس تجربته الواقعية، فهو يصورها بالمحبوبة ويحولها بالرمز والدلالة إلى شخصية إنسانية حية يتفاعل معها ويندمج بروحها، ويتمنى قربها؛ ليجد راحته النفسية ويشعر بلذة السكون والاستقرار، إلا أن هذه المحبوبة لم يلقَ منها إلا الصد والهجران، فرسم العلاقة بينهما بصورة عكسية ذات تناقض شعوري، فكلما توسل المحب إلى محبوبته كان الجفاء والبعد سلوكها، والشاعر هنا لم يختر هذا التصور عبثًا إنما ليعكس واقع الأرض المرير والمضطرب، وحالة التشظي والضياع التي تنتاب الفلسطيني داخل أرضه وخارجها، إذ أضفى على النص مشاعر الحب المختلفة كالثورة والشوق والفقد واللوعة والتودد والتلطف، وهي مشاعر معنوية أكثر منها حسية، فالشاعر تقمص شخصية العاشق المحب وفجّر كل رغباته وانفعالاته المكبوتة في اللاوعي، وأزال كل الحواجز العالقة بين شعوره الخفي في باطنه وواقعه المعاش، وهيأ نفسه للاقتراب والتوحد بمحبوبته (الأرض) لكنها كانت تمارس عليه سلطة الهجر والغياب ليس كرهًا أو تعسفًا إنما كبرياء الأنثى وعزة نفسها، وصعوبة إخضاع قلبها أو إذلاله، وهذه الصفات ملتصقة بالأرض الفلسطينية منذ تكونها، ففي هذه القصيدة يلتحم الحب والعشق بالهجر والضياع، ويلتحم الشوق والشغف بالتوسل والعتاب حتى يصعب الفصل بينهما.
وقبل الولوج في تحليل القصيدة وفق مستويات التحليل الأسلوبي وهما: المستوى الصوتي الإيقاعي، والمستوى التركيبي، والمستوى الدلالي المعجمي، لا بد أن أشير إلى هيكل القصيدة (الشكل الخارجي) لما له من دلالات تتعلق بالقراءة الداخلية للنص، وأيضًا لا بد أن أقرأ عنوان القصيدة على مستوى البنية ومستوى الدلالة.
– هيكل القصيدة: تنتمي قصيدة أنيخي ركاب الهجر إلى الشعر العمودي ذي الشطرين، وتتألف من سبعة عشر بيتًا، حيث التزم الشاعر في بنائها قافية موحدة ووزن عروضي موحد وتحققت بها الوحدة العضوية، والموضوعية ، ووحدة الجو النفسي التي ترجمت موقفه الشعوري الموحد.
– العنوان: للعمل الأدبي نصيبٌ وافر من عنوانه، وعلى الملتقي أن يمعن النظر ويطيله ليربط بينه وبين العناصر اللغوية الظاهرة المشكلة للعمل الأدبي. جاء العنوان( أنيخي ركاب الهجر) جملة فعلية ابتدأت بفعل أمر غرضه البلاغي الرجاء، والخطاب موجه من الشاعر (المحب) إلى الأرض (المحبوبة)، وجملة العنوان الفعلية تضفي على النص سمة الحركة والحيوية وتعكس حالته المعنوية، وحمل العنوان موقفين شعوريين متضادين وهما: اللذة والألم، فاللذة: هي لذة اللقاء وإشباع لهفة الشوق، والألم: هو ألم الشكوى من البعد والهجران وما تركه من آثار نفسيه على قلب الشاعر وروحه.
أولا- المستوى الإيقاعي الصوتي:
– الوزن والقافية: اعتمدت هذه القصيدة في تشكيلها الإيقاعي على البحر الطويل، والذي يتكون من تفعيلتين (فعولن مفاعيلن) تترددان أربع مرات في كل شطر شعري، وفي هذا البحر ليونة وامتداد يناسب انفعالات الشاعر المختلفة من عشق وهيام وتوسل ورجاء وأمل وألم، ونلمس موسيقا حزينة تعبر عن شد تأثره بحالة الفراق والهجران ولوعتهما، وقد جاءت القافية متحركة مطلقة مجردة من الردف والتأسيس (ترفُّقُ)، وهذه الحركة (حركة الضم على حرف القاف الانفجاري) تدل على قوة صوت العتاب والاستغاثة والنداء والتوجع ومرارة الفقد والشوق، وقوة الانفعال وعنف العاطفة وصدقها، وعنف الألم والعتاب، وصخب شخصية الشاعر وتمرده على واقع الهجر والبعد، وتتيح له حرية التنفيس عن مشاعره المكبوتة طيلة فترة هجر المحبوبة له، فلم يعد قادرًا على الصمت والتحمل، وفيه أيضًا إشارة إلى طول فترة زمن المحتل الصهيوني على الأرض الفلسطينية، وفي البعد الرمزي يدلل حرف الروي وحركته الضم على ضيق الشاعر من المحتل المستبد للحرية فاختار صوتًا جهورًا يدلل على حجم الضيق والاختناق، وفيه أيضًا قوة العودة وقرب اللقاء والأمل بنيل الفلسطيني حريته على أرضه حتى وإنْ ضعفت المؤشرات على أرض الواقع.
– الصيغ الصرفية وأثرها الموسيقي: نوع الشاعر في استخدام الصيغ الصرفية مما حقق التناغم الموسيقي الداخلي وعبر عن إحساسه الدفين مثل: المشتقات كاسم الفاعل (جاعلًا، الشاردات، جامحًا، مُطرِق، مُطوِّق)، وكاسم المفعول (كسير)، وكالصفة المشبهة (الحبيبة)، ووظف الشاعر المصادر بشكل كاد يهمين على النص (هَجْر، جنون، تشوق، احتضان، انعكاس، تدلل، بعد، صبر، تذكْر، عهدي، لقاء..)، وفي توظيف المصادر دلالة على التحرر من قيد الزمان وتجاوزه، والتعبير عن معاني النص بحرية وضمان خلود أثرها على المستوى البعيد الممتد، وأما عن استخدام الأسماء المجموعة مثل (ركاب، جراح، شفاه، مطامح، ملامح، أمطار، سنين..) فجاءت لتدلل على حجم معاناة الشاعر الكبيرة وعمق أثرها النفسي بسبب فراق محبوبته وهجرانها له.
– التكرار وأثره الموسيقي: إن تكرار الأصوات (الحروف) وبيان صفاتها له علاقة وطيدة بمضمون النص وبعده الدلالي، مما يحقق التناغم والانسجام بين دلالة الحرف ونفسية الشاعر ومبنى النص شكلًا ومضمونًا، ففي هذه القصيدة تفاوتت الحروف بين المجهورة والمهموسة، ولكنها تقريبا كانت النسبة بينهما معتدلة، فجاءت المجهورة لتدلل على قوة العاطفة وقوة اندفاع المشاعر وتأججها، وكانت في بداية النص أعلى من ورودها في نهايته وهذا فيه دلالة على الثورة والاشتعال نتيجة للصد والهجران ونفاد الصبر وفقدان القدرة على التحمل، والأصوات المهموسة جاءت لتدلل على حالة الضعف والتوسل والرجاء وربما الاستسلام والانكسار لانعدام بوادر اللقاء، وتعبر أيضًا عن الحسرة والألم لما آل إليه حاله وحال أرضه، وكانت في نهاية النص أعلى من بدايته وكأن الشاعر في النهاية وصل إلى ذروة الإشباع فهدأت مشاعره واستكانت.
ثانيًا- المستوى التركيبي: على صعيد الجملة الفعلية والجملة والاسمية يُلحظ سيادة الجملة الفعلية على النص، من البداية إلى النهاية مع قلة الجمل الاسمية في المنتصف، وإن هذا البناء التركيبي النحوي يبين مدى جهد الشاعر المبذول في محاولات وصوله إلى المحبوبة، ولم شمل الشتات بينهما، ووصل حبل الهجر الذي قطعه الزمن وطواه بين حوادثه ونوائبه، فنجد مطلع النص: أنيخي ركاب الهجر بعدك يحرقُ فإن الهوى يا من قسوتِ ترفقُ
وفي تكرار جملة العنوان تأكيد المناجاة للمحبوبة، ونجد نهاية النص أيضًا جملة فعلية:
أُعاقب من أهوى بموتي إنما أظل على عهدي وعظمي يعشقُ
فسمة الخطاب الشعري لهذا النص كانت الأفعال مما منحت النص حركة وحيوية، وعبرت عن الصراع الذاتي بين اللقاء والهجران، والحب والجفاء، ويُلحظ أيضًا ازدحام الأفعال في الأبيات الأولى من النص (أنيخي، يحرق، قسوت، ترفق، شقيت، شق، أردت، يرتدي، تعبق، تكتوي، تنطق…) وإن هذا الازدحام يدلل على توهج الرغبة في قلب الشاعر، وقوة انفعاله، وإصراره على اللقاء وبدء حياة جديدة تسعد روحه وتعيد توازنه السابق، ثم يُلحظ في منتصف النص أن الأفعال أخذت تنحدر، وبدأت الجمل الاسمية تظهر وتسيطر على النص مما يعني ذلك أن هناك تغيرًا في الموقف الأول أي الحالة الشعورية، فمن النشوة العارمة إلى الحيرة المؤلمة وحديث النفس:
أيا أرضَ روحي واحتضانَ مَطامِحي – وإيقاعَ قلبي لو ترِقُّ وتَخفِقُ
ومرآةَ نَفْسي وانعكاسَ مَلامحي – ترِقيّنَ أَصفو تَدْمَعينَ فأشرقُ
ومَنطقُ هذا الحُبِّ أنّا جُنونُهُ – نُقادُ فلا رأيٌّ يقودُ ومَنطِقُ
فلو كان هذا البُعْدُ منكِ تَدلُّلاً – رَضيتُ ولكنَّ الجَفاءَ يُفرِّقُ
وفي الأبيات الأخيرة من النص نلحظ عودة الشاعر لتكديس الأفعال مرة أخرى، وكأنه استراح بالمنتصف وأراد أن يضفي على الأبيات حالة من السكون وإثبات الحب والهيام؛ ليضع حدًا فاصلًا بين مرحلتين: الأولى، بيان قوة الانفعال وقوة أمله باللقاء وإشباع رغبته، وشدة عتابه وتوسله، والثانية، بيان حالة الضعف والانهزام والاستسلام للواقع الذي بات لا مفر منه، وفيه دلالة على تحطم الواقع الفلسطيني وتأزمه، واختياره للفظ الموت في البيت الأخير من النص دلل على حالة اليأس والانكسار إذ أنه اعتبره حلًا يخلصه من حالة التشتت والضياع والألم والبعد، ورغم هذا الانتقام الضعيف –الموت- إلا أنه سيبقى متمسكًا بعهده وعشقه حتى ولو أصبح عظامًا رميمة:
أَضِعْني أيا قَلبَ الفَراغِ فإنَّني – كَضَوءٍ على ماءٍ طوافُهُ يغرقُ
أَعِنّي أيا طَيْفَ الحَبيبةِ إنَّني – كَغُصنٍ بأَمطارِ التَذكُّرِ أورِقُ
ويَعطَشُ مَنْ يَغدُ السَّرابُ دليلَهُ – ويُسجَنُ والذكرى سِياجٌ مُطوِّقُ
وما عُدتُ أرجو غَيرَ أَنْ تَتَذَكَّري – سِنينَ الهَوى والشَّوقُ فينا يُحَدِّقُ
أُعاقِبُ مَنْ أَهوى بِموتيَ إنَّما – أظلُّ على عَهْدي وعَظمِيَ يَعْشَقُ
وعلى صعيد الأساليب الخبرية والإنشائية، فكان الاستخدام حسب ما يطلبه السياق العاطفي أو سياق الموقف، ولاحظنا شيوع الأساليب الخبرية في النص رغم أن النص ابتدأ بأسلوب الأمر وهو أسلوب إنشائي، إلا أن الجمل والأساليب الخبرية (إن الهوى، شقيتُ، أردتُ، رضيتُ، فلا رأي، ما عدتُ أرجو غير أن تتذكري، ولكن الجفاء، فلو كان، إنما أظل…) جاءت لتعبر عن شعوره المتضارب والمتناقض وتصفه وصفًا يشي بمرارة الألم ولوعة الهجر، وأما عن الأساليب الإنشائية فاعتمد الشاعر أسلوب الأمر (أنيخي، أضعني، أعنِّي)، والاستفهام (أين، كيف)، والنداء (أيا أرض روحي، أيا قلب الفراغ، أيا طيف الحبيبة)، فأسلوب الأمر جاء بغرض الرجاء والتوسل، وأسلوب الاستفهام لم يأتِ لطلب الإجابة إنما للتركيز على موضوع النص الشعري وتسليط الضوء عليه، وأسلوب النداء جاء بشكل غزلي وإن كان غرضه إظهار الحسرة والأسى أو الاستغاثة والاستنجاد، واستخدم الشاعر أداة النداء (أيا) التي تستخدم للبعيد ليبين لنا مقدار البعد بينه وبين أرضه وهو بعد مكاني لا بعد قلبي وكأنه أراد لصوته أن يصل لأبعد مدى في الكون.
وعلى صعيد الضمائر، فقد نوّع الشاعر في استخدامها، فورد ضمير المخاطب ليعبر عن مناجاة الطرف الآخر بشكل مباشر، وكسب عطفه بعد سماع شكوى روحه، وورد ضمير المتكلم ليعبر عن ذات الشاعر ومشاعره وأحاسيسه وانفعالاته تجاه المحبوبة، وورد ضمير الغائب ليدلل على أن المرأة المحبوبة (الأرض) غائبة من الناحية المادية، وحاضرة من الناحية المعنوية- الروحية- في حياته، فالضمير الغائب يدلل على أن المحبوبة جزء من الماضي يرتكز فيه على المستقبل، ونلاحظ أيضًا اقتران ضمير الغائب مع ضمير المتكلم ( أضعني، أعنِّي) ليدلل على قوة العلاقة بين شخصيته الحاضرة ومحبوبته الغائبة، فدلالة الضمير كانت تتغير بحسب السياق الوارد فيه.
وعلى صعيد الصورة البلاغية، فمن ناحية البيان كادت الاستعارة تهيمن على النص لما فيها من صناعة لغوية قوية ذات تكثيف وإيحاء، وبراعة خيال ودقة وصف، وقدرة على توصيل المعاني العميقة، (بعدك يحرق، شقَّ الصدرَ شوكُك، قبلة شوق لو تعمق تنطق، أيا أرض روحي واحتضان مطامحي…)، ونلاحظ أن الاستعارات الواردة جاءت لتبين حالة الشاعر الموقفية والنفسية جراء هجر المحبوبة له، فكلها كانت تصب في دائرة الألم والتوجع والعتاب والتوسل وكشف مرارة الشوق وحلم اللقاء. والتشبيه جاء ليصور معاناة الشاعر بشكل مباشر، وليضفي جماليات الطبيعة على النص، واعتمد فيه على حرف الكاف (ولكن شرقي كالمغيب بفجره، إنني كغصن بأمطار التذكر أورق، إنني كضوء على ماء طوافه يغرقُ) وأحيانًا كان يلجأ إلى التشبيه البليغ بحذف أداة التشبيه (وكان النوى رمحًا كناري جامحًا) فهو يشبه البعد بالنار المشتعلة فهو يحمل سرعة البعد على سرعة اشتعال النار، و(الذكرى سياج مطوِّقُ) فهو شبه الذكرى بالسياج الذي يلفه من جميع الجوانب وفيه دلالة على قوة التجذر بالأرض والتمسك بماضيه العريق الذي يأبى نسيانه رغم محاولات القلع والطمس والتهويد. والكناية جاءت مرة لتعبر عن نسبة الألم والمعاناة (فكيف الذي في نار صدك يحرق، الهوى جنح كسير ومطرق)، ومرة عن نسبة الحب والعشق (أرض روحي واحتضان ملامحي، مرآة نفسي وانعكاس ملامحي، ومنطق هذا الحب انا جنونه)، ونسبة التشتت والضياع والاستسلام (ويعطش من يغدُ السراب دليله، وما عدتُ أرجو غير أن تتذكري سنين الهوى).
ومن ناحية البديع، نوع الشاعر في استخدام المحسنات البديعة كالطباق (النوى/ الهوى، جامح/ كسير، جنون/ منطق)، والمقابلة ( وكان النوى رمحًا كناري جامحًا فإن الهوى جِنح كسير ومطرق) فهو يقابل بين حال البعد السريع وحال القرب البطيء، والترادف (البعد/ الجفاء، الهوى/ صدك)، والتورية (كناري) فالمعنى الظاهر غير المقصود هو طائر الكناري، والمعنى البعيد المقصود هو النار، والمشاكلة ( ولو كان صبري ينتهي بلقائها صبرتُ على صبري فليلي مشرق) (ولكن شرقي كالمغيب بفجره وغربي إذا جاء المغيب يشرق) فالمشاكلة كانت بترديد كلمة صبري والمغيب. وإن هذه المحسنات البديعية ساعدت في إضفاء النغم الإيقاعي على النص وأبانت على حالة الشاعر وعكست الصراع النفسي بين الحلم المحرر والواقع المقيد.
ومن ناحية علم المعاني، وظف الشاعر التقديم والتأخير، والتقديم والتأخير خرق للبينة التركيبية تساعد في توليد المعاني واستنطاق دلالاتها الكامنة فيما ينسجم مع اللغة الظاهر أي البنية السطحية للنص، فتعكس المواقف الانفعالية وسرعتها وقوة حدتها، فنجده يقدم المفعول به على الفاعل (شقيتُ وشق الصدرَ شوكُك)، وأكثر الشاعر من استخدام أسلوب الالتفات فكان مرة ينقل الكلام من الغيبة إلى الخِطاب والعكس، ومن التكلم إلى الخطاب والعكس ومن أمثلة ذلك (وما عدتُ أرجو غير أن تتذكري سنين الهوى والشوق فينا يُحدقُ)، و( لو كان صبري ينتهي بلقائها صبرتُ على صبري فليلي مُشرقُ) وإن هذا الالتفات من أسلوب لآخر يعبر عن انقلاب حال الشاعر واضطرابه وهذيانه، وله فائدة جمالية هي كسر الرتابة والجمود في النص.
ثالثًا- على المستوى المعجمي والدلالي: استقى الشاعر ألفاظه من معجم الطبيعة (الشوك، ورود الخد، فجرا، كناري، أرض، شرق، مغيب، ماء، غصن، أمطار، نار)، ومن معجم الأعضاء (الصدر، الشفاه، جِنح، قلب، روحي، عظمي)، ومن معجم الزمن (بعدك، شقيتُ، ينتهي، التذكر، سنين، أظلُّ)، فكل لفظ له دلالة أسلوبية بحسب السياق الوارد فيه فطائر الكناري يوحي بسرعة البعد والفراق، والأرض توحي بالأمان والاستقرار وقوة العلاقة بين الشاعر والمحبوبة، والشوك يوحي بقسوة الغياب وشدة الألم، والشفاه توحي برغبة اللقاء ولذته، والقلب يوحي بقوة التعلق وشدة الحب، والبعد يوحي بطول فترة زمن البعد، والتذكر يوحي بالتجذر والتعلق بالماضي والمحافظة على العهد والوعد رغم كل شيء.
وعلى صعيد الحقول الدلالية، نوع الشاعر في استخدام المفردات، فمنها ما جاء ليدلل على الألم والهجران مثل( يحرق، قسوت، شقيتُ، كسير، البعد، الجفاء، الهجر، يعطش، صدك..)، ومنها ما جاء ليدلل على الحب والهيام مثل( شفاها، جنون، احتضان، التدلل، الهوى، الحبيبة، يعشق..)، ومنها ما جاء يدل على الوصال مثل( أردتُ، ترق، تخفق، ترقين، لقائها، التذكر، سنين الهوى، عهدي..).
القصيدة
أَنيخي رِكابَ الهَجْرِ بُعدَكِ يَحْرِقُ – فإنَّ الهوى يا مَنْ قَسوتِ تَرَفُّقُ
شَقيتُ وشَقَّ الصَّدرَ شوُكُكِ جاعلاً – جنوني جِراحًا أينَ مِنكِ التَشَوُّقُ
أردتُ ورودَ الخدِّ فجرًا يرتدي – شُروقَ الشِّفاهِ الشَّارداتِ فَتَعبَقُ
أردتُ شِفاهاً تكتوي بجنونِها – وقُبلةَ شَوْقٍ لو تعمَّقُ تَنطِقُ
وكانَ النَّوى رُمحًا كَناريَ جامحًا – فإنَّ الهوى جِنحٌ كَسيرٌ ومُطرِقُ
أيا أرضَ روحي واحتضانَ مَطامِحي – وإيقاعَ قلبي لو ترِقُّ وتَخفِقُ
ومرآةَ نَفْسي وانعكاسَ مَلامحي – ترِقيّنَ أَصفو تَدْمَعينَ فأشرقُ
ومَنطقُ هذا الحُبِّ أنّا جُنونُهُ – نُقادُ فلا رأيٌّ يقودُ ومَنطِقُ
فلو كان هذا البُعْدُ منكِ تَدلُّلاً – رَضيتُ ولكنَّ الجَفاءَ يُفرِّقُ
وَيَتعَبُ مَنْ ذاقَ التدَّلُلَ في الهَوى – فكيفَ الذي في نارِ صَدِّكِ يُحْرَقُ
ولو كان صَبري ينتهي بلقائِها – صَبَرْتُ على صَبْري فليليَ مُشْرِقُ
ولكنَّ شرقي كالمغيبِ بِفَجْرهِ – وغَربي إذا جاءَ المَغيبُ يُشَرِّقُ
أَضِعْني أيا قَلبَ الفَراغِ فإنَّني – كَضَوءٍ على ماءٍ طوافُهُ يغرقُ
أَعِنّي أيا طَيْفَ الحَبيبةِ إنَّني – كَغُصنٍ بأَمطارِ التَذكُّرِ أورِقُ
ويَعطَشُ مَنْ يَغدُ السَّرابُ دليلَهُ – ويُسجَنُ والذكرى سِياجٌ مُطوِّقُ
وما عُدتُ أرجو غَيرَ أَنْ تَتَذَكَّري – سِنينَ الهَوى والشَّوقُ فينا يُحَدِّقُ
أُعاقِبُ مَنْ أَهوى بِموتيَ إنَّما – أظلُّ على عَهْدي وعَظمِيَ يَعْشَقُ

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة