بعد الهزّة الأرضية عام ١٩٢٧

تاريخ النشر: 29/10/19 | 9:58

After the 1927 Earthquake
ترجمة ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي

في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة، التي رواها الكاهن الأكبر، يوسف بن أبي الحسن الحفتاوي (بن أب حسده، ١٩١٩-١٩٩٨، كاهن أكبر ١٩٨٧-١٩٩٨، معلّم الكثيرين) بالعربية على مسامع بنياميم صدقة (١٩٤٤- )، الذي نقلها بدوره إلى العبرية، نقّحها ونشرها في الدورية السامرية أ. ب.- أخبار السامرة، عدد١٢٣٢-١٢٣٣، ١ آذار ٢٠١٧، ص. ٢٢-٢٥. هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها ــ إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية والبرتغالية) بالخطّ اللاتيني.

بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، توزّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري يعيشون في مائة وستّين بيتا، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن، الشقيقَين، بنياميم ويفت، نجْلي المرحوم راضي (رتسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).

الهزّة الأرضية في تمّوز ١٩٢٧

”باهتمام بالغ طالعت ما كتبته الصحافة العبرية عن حياة السامريين في العام ١٩٢٧. آنذاك كنت ابن ثمانية أعوام، وماذا يستطيع طفل بهذا العمر أن يتذكّر؟ في الواقع، ما حدث في تلك السنة محفور في ذاكرتي مدى الحياة. باستطاعتك أن تتخيّل ما يدور في رأس ابن ثمانية أعوام، كان يلعب ذات يوم ثلاثاء في الساعة الثالثة وسبع دقائق بعد الظهر، مع مجايليه في باحة الكنيس القديم في نابلس، وبعد ذلك بثلاث دقائق دامت إلى الأبد، يجد أنّ معظم البيوت المحيطة بالكنيس قدِ ٱنهارت، والكنيس قد تصدّع، وهو وأقرانه قد نجوا بأعجوبة من الدفن أحياء في الأرض.

إنّك تستطيع أن تتصوّر كيف لا تُحفر هذه الأمور في ذاكرة ابن الثمانية أعوام، عندما أخذ أبي بيد أُختي وبيدي ونشلنا من مكان الكارثة ونقلنا إلى المقبرة السامرية في راس العين، ملجأ السامريين الوحيد؛ وبما تبقّى لنا من قوّة ساعدناه في نصب خيمة الصيوان مخروطة الشكل والملفوفة، وهناك كان علينا أن نقضي أيّامنا وليالينا؟ أتستطيع أن تفهم ما معنى القيام كلّ صباح والتوجّه بعد أداء صلاة خاطفة إلى حارتك المهدّمة، باحثًا عن مفقودين وممتلكات بين الأنقاض؟ كلّ ذلك قد حصل أمام ناظري ولد صغير، ابن ثماني سنوات، ذاق طعم الجوع والقلّة أيّامًا ويتساءل كباقي أبناء جيله: لماذا فعل الله هذا بنا؟

ها قد أخذت الطائفة تنمو وتتكاثر، وانتقلت عائلة أوِ ٱثنتين للعيش خارج نابلس، وإذا بهذه الضربة الفظيعة تحلّ بنا؟ ما خطيئتنا وما اثمنا لنزول هذه المصيبة علينا؟ بالرغم من أنّ عمري كان ثمانية أعوام، يُمكنني إلى هذا اليوم أن أتجوّل معك في الحيّ القديم، الذي قرّرنا مغادرته في أعقاب الهزة، وأشير على كلّ بيت من بيوته وأقول لك أيّ بيت هُدم وشُيّد من جديد، أي بيت تشقّق وصُلّح، أيّ بيت تهدّم جزئيا؛ علاوة على كلّ ذلك، أُعلّم على خطوط ترميم الكنيس القديم بعد الهزّة. العِمارة ما زالت قائمة كما هي بالرغم من أنّها تستخدم اليوم لأغراض، لا تمتّ بصلة بهدف بناء الكنيس، الذي تمّ قبل ألف ومائة عام ونيّف.

صحيح أنّنا لم نتمكّن من أخذ الكتب القديمة، وخِزانة الكتب المقدّسة معنا إلى مخيّم الخيام في راس العين. الكنيس كان قد تشقّق قليلًا كما أسلفت، إلا أنه ظلّ قائمًا صامدا، ولا عجبَ أنّه تضرّر أقلّ بكثير من باقي المباني المحيطة به. هذا هو بيت الله ومكان مسكن توراته. أهمّ كنز في الكنيس كان مدرج التوراة القديمة، سفر أبيشع، ابن آلاف السنين. لم نتمكّن من نقل كنوز الكنيس إلى المخيّم السائب، غير المحمي. دأب الرجال على الخروج من المخيم بحثًا عن الطعام لهم ولأهل بيتهم. أكان بمقدور الكاهن الأكبر إسحق بن عمران، الكهل ابن الاثتين وسبعين عامًا، حماية كنوزنا في الخيمة أو في التخشيبة التي سكن فيها؟ لهذا قبِلنا بامتنان اقتراح قائد الشرطة البريطانية في المحافظة على كنوزنا هذه في الكنيس. تمركزت مجموعة حراسة صغيرة من جنود بريطانيين في ساحة الكنيس لحراسة الكتب القديمة. هنا أصِل إلى الحادثين اللذين وددت أن أسردهما عليك.

الفرشة

الكنيس كان بالطبع مقفلًا، لا داخل إليه ولا خارج منه. الجنود الحرّاس كانوا، كما أسلفت، في الساحة ابتداء من الليلة الأولى بعد الهزة. نصبوا خيمة وناموا فيها. لكنّهم منذ ساعات النوم الأولى لم يتمكّنوا من إغماض عين بسبب الصوت الذي انطلق من الكنيس. ذلك الصوت بدا وكأنّه طائر كبير يطير في قاعة الكنيس ويرفرف بجناحيه محْدثًا صوتا كصوت الرعد. تعجّب الجنود وخافوا. ما كان ذلك رفرفة مألوفة لأجنحة نسر كبير، بل على ما يبدو، هناك طائر أكبر مر ذلك بكثير، أو ربّما تواجد شخصية غامضة. هزّتِ الأصوات الكنيس طَوال الليلة. بقي الجنود في مكانهم ولم يعرفوا ماذا يفعلون، وحتى قائد الحرس تخوّف من التوجّه لبوّابة الكنيس.

ذهبوا واستدعوا أبي الكاهن أبا الحسن بن يعقوب، الذي كانت مفاتيح الكنيس بحوزته. أتى أبي وفتح الكنيس وما أن لامست المفاتيح فتحاتِ الأقفال حتّى تلاشى الصوت، وخيّم الهدوء على الكنيس. نظر أبي إلى هنا وإلى هنا بخشية ما، إلا أنّه لم يرَ شيئا. تكلّم مع قائد الحرس وقال، ربّما ما كان شيء، وربما تخيّل الجنود ذلك من جرّاء حوادث الأيام الأخيرة والأليمة.

عُدنا، أبي وأنا وراءَه إلى المخيّم. بعد ذلك قيل لنا أنّ أصواتًا شديدة، صادرة عن رفرفة أجنحة كبيرة في الكنيس، سمعت رأسًا إثر مغادرتنا. أحيانًا ارتطمت الأجنحة بالجانب الداخلي لبوّابة الكنيس وهزّته هزًّا شديدا، وكأنّ تلك الشخصية الأُسطورية أرادت الانطلاق إلى الخارج. لم يعُد قائد الحرس قادرًا على تحمّل هذا؛ أرسل في منتصف الليل جنديين، فأحضرا أبي إلى الكنيس ثانية، وعلى ضوء مصابيح الكاز فتح بوّابة الكنيس. توقّفت الأصوات وقرّر أبي مع ذلك فحص القاعة فحصًا دقيقا. فتّش بوجل وراء الستار المغطّي لقدس الأقداس أيضا؛ لم يعثر على أيّ شيء. على نور المصباح، لاحظ أبي قبل أن همّ بإغلاق بوابة الكنيس، أن طُرّاحة (فرشة صغيرة) قد أُلقيت بالصدفة على ما يبدو وقت الهزّة. تعرّف أبي على الطراحة فورا، كانت تلك لامرأة حائض التقطها، على ما يظهر، أحد الجنود من الساحة قبل إقفال بوّابة الكنيس.

ربّت أبي لحيته برضىً وقال بابتهاج لقائد الحرس: ”وجدت سبب الضجّة، أَخرِجوا من هنا هذه الطرّاحة وأحرقوها! إنّها سبب تلك الضجّة الغريبة التي سمعتموها الليلة وفي الليلة الماضية من قاعة الكنيس، لا تخافوا بعد الآن!“. أسرعَ الجنود وفعلوا ما طُلب منهم. لم يُسمع أيّ صوت حتّى الصباح وكذلك في الليالي القادمة.

خِزانة الكتب المقدّسة
حادث آخر جرى في اليوم التالي في أحد البيوت المتصدّعة، الذي هجرته إحدى الأُسر السامرية خوفًا من انهياره. أبقت العائلة في منزلها خِزانة ثقيلة مملوءةً بكتب مقدّسة، ولم تتمكّن من حملها إلى المخيّم. بيت محمّد حلاوة العربي النابلسي قد تهدّم بالكامل في الهزّة الأرضية، وبحث محمّد عن مأوىً للمبيت. بدفعة خفيفة فتح باب دار تلك العائلة السامرية. عُرف عن هذا الرجل أنه مستقيم ولم يطرأ على باله أن يمسّ أي غرض، كلّ مبتغاه كان أن يبات إلى أن يشرق اليوم الذي يجد فيه سقفًا فوق رأسه.

في نصف الليل، بينما كان ينام نومًا متقطّعًا على المصطبة الصلبة، حلَم أنّ خِزانة الحديد الثقيلةَ تحرّكت من محلّها نحوه، دافعة إيّاه إلى الحائط المقابل. استيقظ محمّد حلاوة على الفور لينام من جديد، ويحلُم حُلْمًا آخرَ إلّا أنّه ذُهل بأنّ ذلك ما كان حلمًا بل واقعًا، خِزانة الحديد الثقيلة تتحرّك باتجاهه وتدفعه شيئًا فشيئًا إلى الحائط المقابل بقصد ”معسه“، هرسه. تدحرج محمّد حلاوة على المصطبة، هبّ واقفًا وهرب من البيت ناجيا. في صباح اليوم التالي هرع إلى تخشيبة الكاهن الأكبر، إسحق بن عمران (عمرم) ليقصّ عليه ما حصل له. ربّت الكاهن الأكبر إسحق على كتف حلاوة المذعور وقال له ”لا تُخفِ الحقيقة عنّي، ألم تحتلم أمس؟“. طأطأ حلاوة رأسه وأقرّ ”نعم احتلمت، كيف علِم ذلك سيّدي الكاهن؟“

”ألا تعرف أن هذه الخِزانة مليئة بالأسفار المقدّسة، كيف جرؤت على الاستمرار في النوم بجانبها بعد الاحتلام“؟، صاح الكاهن الأكبر. هذه ليست قِصصًا سمعتها بل حوادث رأيتها بأمّ عينيّ، لأعلم وتعلم كلّ مخلوقات العالم أنّ الله هو الخالق“.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة