تشريح رائعة تركي عامر
تاريخ النشر: 01/04/14 | 8:36الناقد: نور عامر
لو كنتُ من محبي إطلاق الألقاب على الشعراء كل فيما أنجز، لما ترددتُ بالقول أن بعض ما جاءَ في كتاب “أكل الولد التفاحة” لتركي عامر، لا يقدر على إبداعه سوى شاعر كبير. لكنني شخصيا انظر الى الشعر على أنه مستويات. ولعل المستوى الأدبي الرفيع الذي حققه تركي عامر، هو ما دفع وزارة الثقافة الجزائرية لأن تصدر الطبعة الأولى من الكتاب آنف الذكر.
إن شئنا مسحاً عابراً لقصائد تركي الواردة بين دفتي الكتاب المذكور، لما وجدتُ لها كلمةً أفضل من منظور أفلاطون للإنسان مثلث الأبعاد: عقل يستقرئ الحق، وإرادة تستقطب الخير، وإحساس يستعذب الجمال.
وإن كان تركي عامر قد أولى هذه الأبعاد اهتماماً ملحوظاً، ففي بعض قصائده في هذا الكتاب ما يدعو للتأمل و الإعجاب! لننظر أولاً الى قصيدته ” كيفَ تكتبُني؟ ” ولن أتناول غيرها في هذا السياق، كوّنها بحاجة الى نقد متئد، بل الى تشريح؛ باعتبارها وارفة خصبة بالكاد يتسع لها هذا المقال.
كيف تكتبني؟ أي ان القصيدة تسأل.. وكيف تُكتب القصيدة، أو كيف يكتب الشاعر قصيدته، سؤال طالما تردد ولا يزال في المجتمع الأدبي. و في هذا الموضوع تتضارب الآراء بين لغط التسويغ و خلاصة الأجوبة.
ومن هذه الخلاصة الأنيقة إجابة تركي عامر، و التي لم تأت عفو الخاطر، إنما هي نتيجة لتجربة طويلة في عالم الشعر تمتد على مساحة أربعين سنة في حدود علمي.
الأسهل للنقد أن آخذ كل مقطع بمفرده و أعالجه بما تيسر، لكن في هذه الحالة كأننا نمزق القصيدة ارباً، فعندئذ يتشتت ذهن القارئ! لذلك سنورد القصيدة كلها كي تجتمع مقاطعها بعضاً الى بعض في مواضعها الطبيعية لتؤلف صورة كاملة.
” كيفَ تكتبُني؟ ”
سألُتْني القصيدة ذاتَ مساءْ.
قلتُ: تأتينَ حُلْماً نقيا
بلونِ السماءْ
***
في سريرٍ حريرٍ
يراودُ طفلَ النّعاسِ حفيفاً خفيفاً،
أراكِ حمامةَ روحٍ
كما يشتهيها الحمامُ، ترفرفُ أمراً
يعاقرُ خمراً،
تنامُ وليستْ تنامُ بغيرِ منامٍ
يعيثُ بقلبِ المنامِ مناماً
يعيشُ اشتهاءً يموتُ اشتهاءْ
***
وأراكِ يمامةَ بَوحٍ
تفرفر عمراً يقارعُ فَتْوَى إمامٍ
يطيلُ الكلامَ بدونِ كلامٍ
وليس يصيرُ الكلامُ كلاماً
إذا ظلَّ ظِلُّ الوراءِ أمامَ الأمامِ إماماً
و ليس هناكَ وراءَ الوراءِ وراءْ
***
وأراكِ غمامةَ عطرٍ بطعمِ نهارٍ
يُطلُّ بهياًّ، يَظَلُّ شهياً،
وليسَ يشاءُ النهارُ انتهاءْ
***
وأراكِ فراشةَ عشقٍ تتمتمُ آيةَ شوقٍ،
ونحلةُ شوقٍ تترجمُ سُورَةَ عشقٍ.
وضوءاً نبيّاً يفهرس كوناً سَبياً:
يصير المكان ُ زماناً بغيرِ انتهاءٍ،
يصيرُ الزّمانُ مكاناً بغيرِ ابتداءْ.
***
وأراكِ قصيدةَ ثلجٍ تقيٍّ
على شاطئِ الشَمسِ حُبْلَى
بحلمٍ نقيٍ
يفسرُ أرضاً بنارٍ وماءْ.
***
وبغامضِ علمٍ، تصيرُ سماءً
بدونٍ غيومٍ، بدونِ غيوبٍ، بدونِ إلهٍ.
” توقِّفْ! “، تقولُ القصيدةُ، ” دَعْ
عَنْكَ ربّي وخُذ بي
الى البحرِ شوطاً،
الى الحربِ شوطاً
يَرُدُ لروحي بعضَ الهواءْ! “.
***
فأردُّ: ولكنّني،
يا قصيدةُ، لسْتُ ألاقي
الى البحرِ درباً يليقُ بثوبي،
الى الحربِ ثوباً يليق بدربي،
أعودُ إليَّ قليلاً،
أعوذ بحُلْمٍ قديمٍ،
أعيدُكِ حبراً نقيّاً
بلونِ السّماءْ.
**
ما يلفت النظر بداية تزاحم الأشياء الكثيرة المحسوسة و الملموسة وظفت بطريقة انتقائية كي تلائم بناء النص؛ و الشاعر يهندس هذه الأشياء ببراعة؛ وإلا لحدثت فوضى، ولأصبحت الكلمات مجرد قطع من الشمع تتقولب كيفما أتفق، أو وفقاً لمزاج الشاعر.
اذا كانت الرموز من العناصر المستحبة في الشعر، فإن للرمز خصائص، ومنها: ” أن يكون إنجذابياً ” حسب تعبير جيلبير دوران، و ” شاعرياً ” كما قال بول ريكور.
و قصيدة تركي غنية بالرموز الشاعرية الجاذبة مثل: الشمس ترمز الى الحياة، و الفراشة رمز الجمال، و النحلة ترمز الى العطاء. قال سبحانه للنحلة: واسلكِ سُبُلَ رَبُكِ ذلُلاْ.
ان هذه الرموز التي هي ” اختصار لعمليات عقلية ” ساهمت في عدم اتساع رقعة القصيدة، فبدت القصيدة رشيقة ملمومة كظبية الصبح.
و ما دمنا في سيرة الرموز ففي القصيدة رموز أخرى موحية، كالحمام و الثلج و النهار. و هذه الرموز ذات اللون الأبيض مقصودة ولا شك؛ باعتبار أن اللّون الأبيض يرمز الى النقاء، فالشاعر ” يشترط ” في قصيدته أن تكون نقية: ” تأتين حلماً نقياً “.
واللون الأبيض يرتبط في الثقافة العربية بالطهر و البراءة، و يطلق على من به خصلة حميدة، قال الأخطل: ” رأيت بياضاً في سوادٍ كأنه – بياضُ العطايا في سواد المطالبِ “.
ونصادف في النص فقرات تبدو غامضة كقول الشاعر: تنام وليستْ تنام بغير منام / يعيثُ بقلبِ المنامِ مناماً.
تراني أميل للمثل القائل ” لا سمكَ في الماء الصافي “. ربما أن الشاعر قصد عامل الوقت، أي تفريغ الشحنة الشاعرية على مراحل؛ ينسج قصيدته رويداً رويداً. وهذا الإجراء يذكرنا ب ” الحوليات ” في الجاهلية شعر زهير و غيره.
و التفسير الثاني وهو الأرجح أن الشاعر إتجه الى الجانب العلمي في الشعر، و الذي هو من اختصاص النقد البنيوي. أظنه قصد الوعي و نقيضه اللاوعي.
و لا يستقيم تفسيرنا هذا إلا على أساس علم النفس الحديث. يقول الدكتور سارجَنت: ان معظم طلاب الرياضيات يقضون أحيانا ليالي بكاملها يحاولون حل مسألة رياضية ما، ثم يستشعرون التعب فيأوون الى مضاجعهم ليفيقوا في منتصف الليل و جواب المسألة على صعيد عقلهم الواعي.
و السبب أن الحل – كما مر معنا – كان خارج العقل الباطن، في تلك المنطقة التي ندعوها اللاوعي. ويضرب فرويد أمثلة عديدة على هذا النشاط اللاواعي، مثل نسيان الأسماء و التواريخ و الأشياء.
ونصل بالقصيدة الى مظهر من مظاهر الميتافيزيقيا: ” أراكِ حمامةَ روحٍ ” و ” يَردُ لروحي بعض الهواءْ! “.
في تقديري أن لجوء تركي الى ” الروح ” خلال مخاض قصيدته يعود لرغبته في التحرر من قيود الجسد المادي، يحاول التماهي مع لحظات استثنائية يخترعها / يتصوّرها، كي يسمو بها عن كل ما يعيق حركة الفكر من عوامل و ظروف ضاغطة تحد من الإنطلاق نحو أجواءٍ صافيةٍ شفافة.
ولا أستغرب كون هذه الروح عند تركي و كأنها صفة مختلفة عن صفات الجسد؛ فعودة الى القديس بولس يتبين أنه تكلم عن الروح بمعزلٍ عن الجسد؛ أمّا هيجل فقد اعتبر ” الروح ” القوة المحركة الوحيدة في التاريخ.
لن أبحث عن حقائق في هذه القصيدة، باعتبار أنها تندرج بمعظمها في إطار ما يسمّى كتابة الحالات، و كتابة الحالات هي الكتابة الجمالية كما تعرفون.. وللدلالة على الجمالية في التعبير، يكفينا من القصيدة:
و أراكِ غمامةَ عطرٍ بطعمِ نهارٍ
يُطِلُّ بهياًّ، يَظَلُ شهياً،
وليسَ يشاءُ النّهارُ انتهاءْ.
يستطيع الشاعر أن يضمر هدفه كما في التعبير السابق، و ما على النقد سوى كشف المستور.. وفي هذه المسألة يروقني أحياناً عدم القطع.. لذلك أطرح السؤال: هل أرادَ الشاعر شهوة الكتابة حين تنعم عليه ملكة الشعر بالإلهام؛ يأمل عدم انتهاء حضورها البهي؟!.
وثمّة لمحة خاطفة تحفز على التأويل، كما سنرى بعدُ:
” أعوذُ بحُلْمٍ قديمٍ ”
يمكن تأويل قوله على أنه دعوة الى ضرورة التخلص من الإتباعية أو السلفية في القصيدة الحديثة…
في هذا التشريح لهذه الرائعة لا نغفل اللغة. برأيي أن الشاعر لا يكفي أن يملك ناصية اللغة فحسب، بل أن يعرف كيف يطوّع اللغة لمقتضيات العمل الأدبي.
تركي عامر استطاع أن يطوّع اللغة بامتياز، ولغته في هذه القصيدة لغة متطورة مرّنة تنسجم مع الحياة الجديدة.
من المفترض في القصيدة، كل قصيدة، أن يتوافر فيها العنصر الموسيقي، وإلا فقدت ميزتها كشعر. في قصيدة تركي تنبع الموسيقى من تناغم داخلي حركي، أكثر منها تناغم بين أجزاءٍ خارجيّة. أعتَقِدُ أن مثل هذه الموسيقى تحتاج الى تذوّق؛ وليس الى أذُن لاقطة..
و أخيراً الفكرة، فكرة الإجابة عن السؤال ” كيفَ تكتبُني “.
يقول ناقد فرنسي: إن الكلمة ثمرة للفكرة، فمتى نضجت الفكرة سقطت كما تسقط الثمرة الناضجة، لكنها تسقط على كلمتها.
ومن هنا، وبناء على ما تقدم، يتضح لنا ان الفكرة عند تركي عامر، هي فكرة ناضجة تماماً، بل هي فكرة جديدة في سياقها؛ وكل فكرة جديدة خليقة بأن تحظى بقبول حسن.