قراءة في قصيدة المخيم والقبيلة

تاريخ النشر: 24/08/17 | 0:38

القصيدة:
عن المخيم والقبيلة:
شعر: أحمد حسين

صُدودٌ أينما وَجّهْتَ صَدّكْ *** وَصَلْتَ إلى سياج الأرْض وَحْدَكْ
وخَلْفَكَ تومض الذكرى قبورًا **** وَأَيامًا حَلَلْن الدّار بَعْدَكْ
متى تشتاق وجْهَكِ كي تراهُ *** وتعرف من حدودِ السيف حدّكْ
تريدُ شراءَها عبثًا، ومنها *** لدى مَن باعَها ما ليسَ عِندَك
إذا نَزَحَتْ حقولُ اللوز حتى *** عن الذكرى، وعهدُك ظلّ عهدَك
فقد واعَدْتَ دربًا لا تراهُ *** وَأنْجَزَ صاحِبُ الأيام وَعْدَك
لأنّك حينما قلت اذكروها *** كأنك قلتَ إن الله مَزْدَكْ

أنا رَجْعُ الصّدَى لا الصوتُ صَوتي *** ولا الوادي، ولا هذا أنيني
رُعاةٌ عَلّقوا في الريح نايًا *** لنذكرَهم، سَلوا مَن عَلّقوني
أنا سَكَنٌ لأشباح تُغَنّي *** وذاكرة لِمّوال حّزِينِ
وراوية لِمَوتٍ لا يراهُ *** سوى الجاني ومسحوق الجبينِ
وَأيام وُلدنَ على رجالٍ *** تنادي كلّ ثانيةٍ: خذوني!
زمانٌ كانقضاض الذّئب تَعوي *** أُمومَتُهُ على وَلَه البنينِ
وَتَنسِجُ عنكبوتُ الربّ فيه *** عباءات الصباح من العيونِ
يَخونُ دماءَهُ جسدٌ وَتسري *** سُمومُ الجذعِ في نسجِ الغُصُونِ
دواليب الحُظوظِ لها ضحايا *** وكُهّان، ودولابُ الطَحينِ
لكلّ قبيلةٍ كهفٌ وأفعى *** وساحرةٌ لها وجْهُ الكمينِ
وجلاٌد يُنْقَلُ حيثُ شاءوا *** عصاهُ من اليسارِ الى اليمينِ
لهم في كل مدخنةٍ دخانٌ *** وخبزٌ في القبور والسجونِ
أنا منها، فإن بقِيتْ سأبقى *** متى ما تقهروها تقهروني
وما لي غيرُ هذا الشعرِ سيفٌ *** سأقتلكم به أو تقتلوني

مَضَوا قبلي وما كانوا غُزاةً *** ولا شَهروا سوى سيفِ الحنينِ
ولا حَملوا على الذكرى سِواهم *** وَأَرضا كالشراع بلا سفينِ
لهم نَجْمٌ يُخافت ثم يبدو *** على تعب كذاكرة السجينِ
تموت قبائل المنفى عليهم *** حقولاً، مثلَ موتِ الياسمينِ
لتبعدهم، وهل بعد المنافي *** سوى نفي الجراح عن الأنينِ
وَرِثْتُ دماءَهُم فَتَوارَثتني *** شُجونٌ لا تملّ من الشجونِ
حَساسين تغني للبغايا *** بأقفاص وحَسّونُ الغصونِ
بلادي بيتُ لاجئةٍ، وشعبي *** هُمُ الفقراء في الزمن الثمينِ
أَصيح بطفلة المنفى: أقيمي ***على حَتْم الرجوع ولا تليني
مَخَيّمُكَ السفينةُ لا تميلي *** إلى جِزرِ السراب ولا تخوني
إذا الدكان بادَلَكَ الأماني *** بأشرعة السفينةِ، لن تكوني

غناؤكَ لا يزيدُ الدارَ قربًا *** وبُعْدُكَ سوف يبقى العمرَ بُعْدَكْ
تغيّرتِ البلادُ وَمَن عليها *** على أي ُّالبلاد تقيمُ صَدَّكْ
لقد ضاعت، وكم ضاعت عليها *** مواعيدُ، فَهل هَجرتْكَ وَحْدَكَ؟!
1992.11.27

قراءة القصيدة:

تذكرني هذه القصيدة بعذابات (تانتالوس) في الأسطورة اليونانية.
وتانتالوس هذا هو ابن (زيوس) و (بلوتو)، وقد عاقبته الآلهة بأن علقت فوق رأسه حجرًا كان معرضًا للسقوط بين اللحظة والأخرى، كما أوقفوه وسط الماء في (هاديس) دون أن يستطيع الحصول على الماء نفسه، فكلما خفض رأسه ليشرب انحسر عنه الماء، ثم يعود الماء سيرته الأولى. ومن حُكم الآلهة كذلك أن تعلق فوق رأسه عناقيد الفاكهة، ولكن قطوفها هذه كانت قاصية لا دانية، وكانت تثير فيه عذاب الأماني.
وأحمد حسين هو بين العذاب والرفض، في مرحلة المعاناة التي تتقطر حتى تسيل شعرًا ينضح بهذه المعاناة، وينضج بها، فأن يصل الراوي الشاعر إلى سياج الأرض وحده، ويقابل الصدود صدّه ورفضه، وأن يصل به الاغتراب إلى درجة أن يشتاق وجهه كي يراه فهذه عناصر الفاجعة… يقاتل وحده، حتى إذا ابتغى تذكير القبيلة (جماعة العرب أو جماعته الفلسطينية المهادنة في وجودها) بأن الوطن كله الوطن، فكأنه كَفَر أو أشرك كَمْزدَك.
وتصور أن يفقد الإنسان صوته، أن يكون معلقًا مشبوحًا، أن يكون سكنًا لأشباح، ذاكرة لموال خزين، رواية لموت… إنه يعرف أنه يتصدى ويتحدّى، ومن يتصدى فماله سوى أن يقتل أو يقتل، لأن كلمة الشرف والأصالة في عصر الهزيمة هي كلمة مخنوقة محاصرة، وكأنها زفرة مشحونة بطاقةٍ خاصة تستكلب عليها أكثر من قوة لتكبتها وتمحقها.

الراوي الشاعر ينتمي بعمق لبلاده وشعبه، لذا فله كلمة وله موقف، يناشد اللاجئة أن تظل وفية في موقفها، أن تبقى في رحلتها لا تخضع لكل الإغراءات والحلول التصفوية المؤقتة، فلم يبق إلا وطنها موئلاً وأملاً، وهذا التوحد النضالي يحسّه الشاعر عميقًا، فغناؤه/ نشيده أصيل، رغم ما يكتنف الغناء من حكم القدر وهو حَسّون الغصون، شاعر علاقته بالأرض ليست علاقة لهو واستجلاب… وعندما تغني “حساسين البغايا” يختلط النشاز بالأصالة، وقد تغيرت البلاد ومن عليها (ويمكن متابعة الاقتباس: وضاع الصدق وانقطع الرجاء، ولكنه لم يقل ذلك …لتشبثّه ببصيص النور)، إذًا على أي البلاد تقيم صدك وموقفك الرافض أيها الراوي؟ فأنت وحدك، فهل عدت إلا منعزلاً معانيًا، تكرر فعلتك بعذاب سيزيفي مستبد؟!

الراوي الشاعر ينافح عن قضية المخيم ومظاهر البؤس فيه، حتى لا يكون مصير المخيم ومن فيه كمصيره هو أو مصير تنتالوس مصيرًا قدريًا…يحذر المخيم من مساومات التجار، واللاجئة مظهر من مظاهر الاغتصاب في تجربة لا مثيل لها… ولم يبق إلا هؤلاء البسطاء عنوانًا للقضية في هذا الزمان السلعة.
الراوي الشاعر منتم، ويحس الخطر محدقًا به، فقد واعد دربًا (لا يراه)، فهل ثمة أخطر من هذا المجهول؟
إنه يحس أنه رجع صدى لتاريخ مجيد لعله تاريخ كنعان (ومن المعروف أنه أبدع في كنعانياته التي قد أتناولها في دراسة خاصة) فهو ذاكرة لهم، وكأنهم موال حزين… آباؤه رعاة علقوا في الريح ناياتهم لنذكرهم، فما ذنبه إذا ألفى نفسه جزءًا من مسيرة، أن يجد نفسه راوية لموت، ومرة أخرى (لا يراه)، وهل هناك أخطر من هذا التعبير في الجو المأساوي المجهول؟!
آباؤه هؤلاء يعود إليهم ليصفهم أنهم (ما كانوا غزاة) ولم يُشهروا سيفًا لغزو البلاد… إنهم حملوا سيف الحنين وهو قوة… آباؤه في وطنه لم يلجأوا إلى تاريخ مصنوع ليتكئوا عليه في خرافة، وإنما كانت أرضهم شراعًا، وقد خُدعوا لأنهم حصلوا على الأشرعة دون السفينة.
هؤلاء الذين مضوا ظلت ذاكرة الوطن في أخلادهم، ولكنها تبدو مرهقة متعبة كذاكرة سجين….
والزمان له فعالية في هذا المعمعان، ففي هذا العصر العجيب تحققت لبعض الرجال ظروف مهيأة، فالراوي يقف منافِحًا عن الزمن لأن “كل ثانية تنادي خذوني” من هذه الظروف ومن هذا الغبن المجحف. لكن الزمان هذا يصف فيه الوطن وهو يأكل/ يفترس بنيـه كالذئبة، ويصف فيه الحظوظ التي يتكئون عليها، سواء كانت اقتصادية أو مخلوقة خلقًا ، ولها كهان ومبشرون وأدوار خفيّة… إنها ليست بمثل هذه البراءة الحظيّة، لأن الجسد يخون دماءه (نحن نخون أنفسنا) كما تسري سموم الجذع في أغصان الشجرة… كل قبيلة/ جماعة فينا لها كهف وأفعى وساحرة (صورة ميثيولوجية للخداع، وللاستيلاء على عقلانية الإنسان، والمخاتلة، إنها أدوات اضطهاد… وعلى كل مستوى جماعة منا)
وفي كل قبيلة جلاد –تعبير عن الخيانة والانحراف، فلهم في كل عرس قرص (في كل مدخنة دخان)، يتاجرون حتى على حساب الشهداء (خبز في القبور) أو على حساب المسجونين…
إزاء هذا الوضع القاسي الرهيب يبقى الشاعر منتميًا- كما قلت- “أنا منها فإن بقيت سأبقى”
فما دام الوطن قائمًا فهو يذود عنه إلى أن يقهر… وسلاحة الكلمة والشعر والصدق:
“وما لي غير هذا الشعر سيف”.

الراوي الشاعر يصنع من نفسه شخصية تمتلك معادلاً موضوعيًا معبأ بالإجراءات المتصارعة. إنه في حديثه عن ذاته المفردة ينقل أخبارًا، يصف دلالات الواقع الممض “تموت قبائل المنفى عليهم” عليهم- على اللاجئين، وقبائل المنفى تضع موتًا فوق موت… والدول العربية أنظمة تؤدي حبًا مدعى (مثل موت الياسمين… بصورة جميلة ولكن خفية)
حديث الراوي الشاعر هو الحديث عن الموضوع نفسه، يلتقي مع النفس القصصي (وقد عرفنا الشاعر قاصًا مبدعًا كذلك)…
بعبارة أخرى إنه يقدم مشروع قصة، يعايش بذاته الصادّة المعاندة حكم قبيلة جائزة تحاول حتى نفي الجراح عن الأذنين وكتم الأصوات المتألمة.
فإذا تمرد عليها الراوي بصعلكة موقفية فإنه سرعان ما يعود ليلتزم بهمّ القبيلة هذه، فقد ورث دماءهم، فتوارثته الشجون تلو الشجون، وكأن الشجا يبعث الشجا… إنه واحد من جماعته، فرْد يطلق إحساسه المكبوت عاريًا جريئًا مشكلاً بذلك إحساسات مؤجلة أو خامدة الحركة… يأتي إليها بنَفَس شعري متفجّر حاد، تسايره القافية المقيدة أولاً بقطعها: وحدكْ، بعدكْ، حدكْ، وتشي كاف الخطاب بهذا التمرد الكاسح. ثم ما يلبث الإيقاع أن يتغير إلى قافية النون المكسورة، فتأتي حركتها أنينًا وحنينًا وبكاء. وعبر هذا التنغيم يكون مونولوج وديالوج في نفس الآن. يخاطب نفسه ما بين حركتين اثنتين: سأقتلكم به أو تقتلوني…. وتنتهي القصة/ الحكاية في آخرها بأبيات ثلاثة تعود إلى القافية الأولى الحاسمة، وكأنها تذكرنا ألا مناص من العودة إلى ما بدأنا به… هنا مونولوج أكثر… تلخيص موقفي مأزوم، فغناؤك يا حسون الغصون لا يقرّب دارًا، وستظل نازحًا… ضاعت المواعيد والموازين، وبقيت وحدك أيها الشقي، لكن هذا المونولوج عمليًا هو ديالوج ينعدم فيه الطرف الثاني، ويتلاشى تدريجيًا في خذلان موقف أولاً، وفي إصرار الراوي ثانية، وهو يصبح: اذكروها. تنهمر الصور الحسية أكثر، وهو يخاطب طفلة المنفى “مخيمك السفينة”. بمعنى أن بقاءك المؤقت في عذابك هو الذي سينجيك ويوصلك إلى البر، فلا تنخدعي بجزر السراب، ولا يخدعك التجار المساومون بالأشرعة، فهي لن توصلك وحدها.
إذن هو يستلهم من الموقف الظاهر موقفًا آخر يرسم عبره صورًا جديدة غير مألوفة في تضاعيف صور ألفناها، وذلك في فاجعية مكثفة:
أنا رجع الصدى لا الصوت صوتي *** ولا الوادي ولا هذا أنيني
رعاة علقوا في الريح نايًا *** لنذكرهم، سلوا من علقوني

فما ذنبي أنا …. أنا جزء من مسيرة، أنا صوت من الأصوات، والأنين ليس مقصورًا علي فقط. إن تركيبات العبارات ومَبنَويتها تحمل شحنات هائلة من التلاصق والتماس، وتخلو من كل حشو غير موظف، ولنسق مثلا:
وتنسج عنكبوت الرب فيه *** عباءات الصباح من العيون

العنكبوت مرتبطة بالبيت الواهي الواهن، وقد أضيفت إلى رب موهوم، والكنايات كلها كما يبدو لي أنها الصهيونية التي تتنكر للوجود العربي… هي تنسج من عيون المقيمين وأصحاب الحق ما ترى به…
وعباءات الصباح تعبير مركب قد يحمل شحنة سخرية، لارتباط العباءة بكل عربي مُسلِّم بالأمر بلا هوادة.
العباءات تتصف بالتبعيد، فثمة توليد دلالات مكثفة لها طابع الاحتمال وعدم الاحتمال، كما لاحظنا في تأويل البيت السابق، واقرأ معي كذلك:
لهم نجم يخافت ثم يبدو *** على تعب كذاكرة السجين

فهل يبدو لنا أن (لهم) تعني للاجئين… وهل يسلّم الشاعر ببداية الضياع ….فقد أصاب ذاكرة السجين وهنٌ ما؟!!
وثمة مواصفات غامضة غريبة في القصيدة، وهي عجيبة تهز المشاعر وتثيرها في رعشة… نصحو بعدها، ونسأل: من هم هؤلاء الرجال الذين تهرب منهم الأيام وتتمرد عليهم الثواني؟!
هل هم الشعراء الآخرون (حساسين البغايا)؟
هل هم البائعون الذين عندهم ما ليس عندك؟!
هل هم القبائل… ممثلة بسياسة الدول العربية؟
ونلاحظ أن هذه الدّوال هي بمداليل منفسحة ومرنة لأكثر من إمكانية في التصور، لكن الدلالة الأولى والمنطلق الأول في مبنى القصيدة هي/ هو النفس الحر الحار الذي قدّم هنا حركة العلاقة داخل بنيوية التعبير الأدبي…
وأضيف هنا ملاحظة ما أصطلح عليه في النقد الأدبي الفجوة (gab) وقد لاحظت في القصيدة من أنواعها حذفًا (omission) فالقارئ الذي يقرأ:

أنا رجع الصدى لا الصوت صوتي *** ولا الوادي…. ولا هذا أنيني

قد يخفى عليه أنه يؤكد كونه صوتًا من مجموعة أصوات يئن معها.
والقارئ الذي يقرأ “ذاكرة لموال حزين” قد تفوته قناعة الشاعر الكنعانية.
والقارئ الذي يقرأ “ولا حملوا على الذكرى سواهم” يضطر أن يكمل الصورة عن طريق استحضار الطرف الآخر الذي يزعم ويدعي…
ولا إخال أي بيت من النص يخلو من ضرورة التتمة والبحث عن المعنى.

أعترف في الختام أن هذه القصيدة بحاجة إلى معاودة نظر، فقد لاحظت فيها استطرادات وعودات كثيرة إلى محاور مختلفة أركزها:
· ألأنا المُعاني والمهدَّد في حياته وفي شعره.
· المخيم الذي يجب أن يحافظ على صدق انتمائه للوطن إزاء الانتهازيين.
· القبيلة التي تحاول أن “تخصي” القضية وتفقدها فعاليتها.
إنه يراوح بين المواقع الثلاثة، ولكنه يمسك بخيط القصيدة الرائعة التي تروع بكل دلالات اللفظة.

من كتابي: قصيدة وشاعر، ص 54.
بقلم: ب. فاروق مواسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة