“قراءة” لمسرحية ألاقي زيك فين يا علي

تاريخ النشر: 09/11/16 | 15:26

كنت محظوظًا حين سنحت لي الفرصة لأعيش مسرحية “الاقي زيك فين يا علي” على منصة مسرح الميدان الحيفاوي يوم الجمعة 04/11/2016 ، حيث لها في حيفا نكهة ومذاق آخر .
احتشدت القاعة وكان الجمهور منفعلا مع المسرحية وأبطالها، مع الشهيد علي وأرملته فتحية وأخته سهيلة وابنته رائدة في مونودراما فلسطينية بامتياز.
في يوم 08.05.1972 قامت مجموعة فلسطينية بخطف طائرة سابينا البلجيكية بعد وصولها إلى مطار اللد ، مطالبين إطلاق سراح مئة أسير فلسطيني في السجون الاسرائيلية ، وقد تم الاستيلاء عليها وقُتِل علي طه أبو سنينة ، والد رائده، لتعيش يتيمة الأب ،وها هي تعيدُه إلى الوطن منتصب القامة شامخاً.
تقف رائدة طه “بنت الشهيد” على خشبة المسرح لتحكي قصة والدها الانسان، قصة والدتها ومعاناتها إثر ترمّلها لتعيل وتربّي بناتها الأربع الصغار، ومعاناتها هي الابنة التي تيتّمت وهي بجيل 7 سنوات، كبرى أخواتها الثلاث – صغراهن عمرها 8 شهور، وأصبحت تحمل لقب بنت الشهيد.
ابتدأت رائدة المشهد الأول في مسرحيدها بحكاية تعرُّضها لمحاولة اعتداء جنسي من قبل شخصيّة قياديّة “مرموقة” في منظمة التحرير الفلسطينية حين شغلت سكرتيرة صحافية في مكتب الرئيس الراحل ياسر عرفات وحينها كانت نقطة تحوّل مفصليّة في حياتها وشعرت بفقدان أبيها الحقيقي، وحينئذ شطحتُ للحظة مع رواية “زيتون الشوارع” لإبراهيم نصر الله وقضية حساسة هي انتهاك الجسد، وأشكال التعامل مع المرأة “المُستباحة” وتقلبات الحال التي تتعرض لها المرأة الفلسطينية بعد الفقدان.
مثّلت رائدة وحدها جميع الشخصيات وتحدثت بلسان الجميع ، بعيدة عن الشعارات والمهاترات والهتافات التعبويّة لتغوص في عمق التجربة الإنسانية ببراعة، كاسرة هالة الشهيد، معرّية إياها من أساطير البطولة، جاعلة البطولة الحقيقية لأمها وعمّتها ، زوجة الشهيد وأخته، وإن لم يسمع أحد عن بطولاتهما شيء، لتقدّم صورة العائلة، عائلة الشهيد علي طه، مؤنسنةً “قضيّتها” لتجمع بين المتخيّل والواقع، لتحارب الغياب، وتشكّل مرآة للمعاناة اليوميّة للعائلة، بديكور متواضع (كنبة وطاولة وأبريق وكأس ماء) ، مع حكايتها وقلادة سوداء متوّجةّ بصورة أبيها علي طه، الانسان، الأب، الزوج والأخ.
هنا تسلّط رائدة الضوء على الزوجة فتحية التي تُصر على حضور طه في حياتها وأحلامها، وعلى بنت الشهيد التي تُصر على حضور أبيها يوميّا ليرافقها، والأخت التي لا تستسلم وتُصرّ على تحرير جثة طه من ثلاجة الموتى كي يُدفن ويكون له قبر يواري جسده بترابه.
رائدة حاولت، وبنجاح، دحض الرواية التاريخية البائسة واليائسة لتقول كلمتها بجرأة. فلبست الثوب الأزرق الغامق وتقلدت القلادة السوداء بصورة أبيها مبتعدة عن النمطيّة المتمثلة بثوب الحداد الأسود أو الفستان الفلسطيني التقليدي، لتصرخ صرختها الانسانية ومعاناتها الذاتية الشخصية في رحلة بحثها عن الحقيقة وأبيها.

كطفلة اكتشفت معنى الغياب لتجد ضالتها في تلك الصورة – صورة الأب الغائب – ولتقول إنه من حقها أن تحزن بطريقتها، بعيدة عن طقوس القبيلة.
للمرأة حضور في المسرحية ، ففتحيه الأم/الأرملة تصر على استحضار طه من الغياب فتحلم به لتتمتع بذاك الدفء رغم سنوات الغياب ليساعدها في تحمل عبء تربية بناتهم الأربعة، وسهيلة العمة/أخت الشهيد تصر على استعادة جثمان شقيقها طه من ثلاجة الموتى ليدفن في الأرض ويصبح له قبر فتوسلت كي يفرجوا عن جثمان شقيقها ، لكن الرفض كان دائما، وعندما علمت أن وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية هنري كيسنجر يتواجد في مدينة القدس تبعته الى الفندق واستطاعت التسلل الى الغرفة رغم منعها من قبل الحراس وسلمته رسالتها باليد وطالبته بالإفراج عن جثمان شقيقها من البرّاد ، وفعلاً تمت الاستجابة ، وفي اليوم التالي تم تسليم الجثة، لتُدفن في الأرض بكرامة ، فاستحقت ،وبجدارة، أن يُطلق عليها لقب “أنتيجوني فلسطين” (أنتيجوني هي بطلة مسرحية سوفوكليس اليوناني وابنة الملك أوديب التي أصرّت على عصيان أوامر الملك كريون ودفن أخيها دفنا لائقا)،ورائدة بإصرارها أعادت صورة الأب من صورة الشهيد الغائب.
أعادتني المسرحية بجرأتها إلى أجواء رواية “حليب التين” للروائية سامية عيسى التي تناولت فيها رحلة النفي والتهجير الفلسطيني، ومعاناة الفلسطينيين، وموضوعا الحب والجسد في سياق فقدان الوطن وانتهاك الجسد ، حيث يتحول شعب بأكمله إلى “ممسحة للجميع”.
تثير المسرحية تساؤلات كثيرة حين تعود بذاكرتها ، على سبيل المثال، الى يوم سألت مدير المدرسة: ” أستاذ شو يعني شهيد؟” فقال لها ” الشهيد هو الشخص الذي يموت فداءً لأكثر شيء يحبه” فتساءلت رائدة: “يعني بابا بحبّ فلسطين أكتر مني!”، وكذلك سؤال “المفتاح” – حيث الأم/الأرملة تتمنّع عن تغيير المفتاح لعَل طه يعود ولا يستطيع دخول البيت بمفتاحه هو مثل مُهجّري النكبة الذين ما زالوا يحملون مفاتيح منازلهم ليعودوا إليها يومًا!! وكذلك تربّص “القياديين” للأرملة كفريسة مُستباحة للأخذ منها !! وغيرها كُثُر.

انتهت المسرحية بأغنية للمطربة صباح توجهها لفريد الأطرش الذي يدعى ” علي ” في فيلم “لحن حبي” ، حيث تغني ” الاقي زيك فين يا علي ” ، وكأن “علي بابا ” وقف أمام الأبنة ليقدّم لها مفتاح مغارة والدها الشهيد الغائب، فأبدعت رائدة مع المخرجة لينا أبيض في عمل مسرحي متكامل حين تغني فتحية وسهيلة ورائدة والجمهور “ألاقي زيك فين يا علي” رغم الألم والفقدان.

المحامي حسن عبادي

0

1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة