زيارة الفّنان التونسي لطفي بو شناق للداخل الفلسطيني والرد على مسألة التطبيع

تاريخ النشر: 17/12/13 | 0:26

بعد زيارة الفنّان العربي التونسي المشهور لطفي بوشناق للأراضي المحتلة عام 67 والقدس الشريف المحتل، والداخل الفلسطيني بدعوة من مؤسسة تكريم شخصية العام، وبعد مشاركته بالاحتفال الذي أقيم في مدينة شفاعمرو في الجليل، اضطر الفنّان الكبير للمغادرة بشكل مفاجئ، قبل أن ينهي جولته التضامنية مع الجزء الباقي في أرضه التاريخية من الشعب العربي الفلسطيني، وذلك بسبب بعض التهجمات عليه واتهامه بالتطبيع مع الدولة العبرية، وذلك رغم الطابع الوطني الجلي الذي تجلى في هذه الأمسية، ورغم أنّ لطفي بوشناق لم يتعامل خلال زيارته لا من بعيد ولا من قريب مع أي طرف أو جهة أو شخص متصّل أو قريب من المؤسسة الاسرائيلية.

وقد تشرفّت بالالتقاء معه، حيث مكثنا يومين كاملين محاصرين في الثلوج في القدس، وتسنى لي أن أسمع آراءهُ والاطلاع على مواقفه السياسية، ولا سيما موقفه من القضية الفلسطينية، التي وجدت فيها وعيًا عاليًا مدموجًا بعاطفة كبيرة وصادقة، ورأيت ومرافقيه، تأثره الكبير، ولا سيما عند زيارته لمسجد الأقصى المبارك، والمعالم الفلسطينية التي تؤكد عروبة وفلسطينية البلاد. وإن تكلمت عن انسانية وتواضع هذا الفنّان العروبي والكوني بامتياز، فلن تسعني الصفحات. ولكنني سأقف عند قضية اتهامه بالتطبيع، ليس للدفاع عن شخصه وحسب، بل دفاعًا عن الحقيقة والوعي اللذان يغفل عنهما الكثيرون، وردًّا على ادعاءات المزاودين، من منطلقات عدم التفكّر جيدًا في هذه المسألة الحسّاسة إلى حدٍّ كبير. وللتنويه، كان الأستاذ لطفي بوشناق، الذي أتى وشارك متطوعًا، لا بقصد المكسب، رغم مشاغله الكثيرة، بأنه سيتعرّض لحملة إدانة، وكان على استعداد لمواجهتها فكريًا، ولكن وكما رأينا، فإنّ المواجهات في بعض المساحات من ثقافتنا، لا تزال تحت خط النقاش الفكري، ممّا أدى إلى مغادرته المفاجئة.

مسألة التطبيع، كانت ولا تزال مسألة غير محدّدة وغير مرسومة الحدود تمامًا، على المستوى العام، ولم تحظ حتى الآن بالنقاش الفكري الجاد، عربيًا ولا حتّى فلسطينيًا، وأعتقد أن من شأن هذه الزيارة بتطوراتها المذكورة أعلاه، أن تفتح باباً للنقاش واعادة النظر في بعض جوانب، الفكرة السائدة، وتقييمها من جديد. فكثيرون يتناسون، حين يتحدثون عن الكيان الصهيوني، أنّ هذه الأرض هي أرض فلسطين التاريخية، وأنّه يعيش فيها أكثر من مليون ونصف المليون عربي فلسطيني، صمد معظمهم ومنذ النكبة أمام مشاريع الأسرلة ومحو الذاكرة واجتثاث الانتماء الوطني والقومي، وأنّ أسطورة هذا الشعب الكبرى تتجسدّ في الحفاظ على الهوية والانتماء والأمل والمقاومة، وهذه المعادلة تنطبق على فلسطينيي الداخل الذين أشعلوا شرارة أدب المقاومة التي ألهمت الثورة الفلسطينية لاحقًا، ومن داخل الدولة العبرية التي استطاعت أن تحتل الأرض، ولم تستطع من احتلال المشاعر والعقول، ولم تستطع تغييب الوعي وكسر العزيمة والإصرار، على التماسك الوطني والقومي بأبعاده وأعماقه وتطلعه إلى مستقبل يُصنعُ بالبقاء على ثوابت الهوية والانتماء. ويتناسى الكثيرون أنّ أي تعامل مع القضية الفلسطينية دون أخذ فلسطينيي الداخل (48) بعين الإعتبار كمقوّم هام من مقومّات القضية، يضعفها أولًا ويحولها من مسألة صراع تاريخي وحضاري إلى نزاع جغرافي لا يحمل المقوّمات الكاملة لصراع حول قضية شعب، فلو أن الصراع هو جغرافي وحسب، لكان أي مكان في الوطن العربي أو العالم يستطيع أن يتحول إلى دولة فلسطينية بديلة. وعلينا أن نتمسّك بحقيقة تاريخية وهي أن المشروع الصهيوني في بداياته حاول ايجاد بدائل جغرافية لإقامة دولة اليهود، ولكن بالنسبة لنا لا بديل عن أرضنا التاريخية بأبعادها الحضارية منذ آلاف السنين، وقبل دخول اليهود القدامى محتلين إلى أرض كنعان.

والكثيرون يردّدون دومًا كلمة حق وهي أنّ زيارة السجين ليست زيارة للسجّان، وأنّ زيارة السجين هي كسرٌ للحصار المفروض عليه، وتضامنًا مع صموده ، ومساندة له، وحثه على البقاء على مواقفه، وهذا ينطبق تمامًا، على ما هو مفترض أن يتعامل بموجبه الأشقاء العرب مع الجزء الصامد على أرضه التاريخية، ولكنني لا أقول أنه يجب أن يُحوّل الداخل الفلسطيني إلى منتجعات سياحية عربية، ولكن زيارات النخب المفكّرة بالإضافة إلى الأدباء والفنانين إلى فلسطين التاريخية، والتضامن والتواصل مع أهلها الفلسطينيين مطلوب، كموقف وطني وقومي من الدرجة الأولى. وهو أمر ضروري لإبقاء القضية الفلسطينية مرهونة ومسيّجة بثوابتها الهامة، ومنها التأكيد على أنّ القدس الشرقية هي عاصمة فلسطين التاريخية، وعودة اللاجئين إلى أراضيهم وديارهم المسلوبة، والتأكيد وعلى فلسطينية الجزء الباقي من الشعب العربي الفلسطيني على أرضه التاريخية. ولا سيما في ظلّ التنازلات عن البندين الأخيرين وخاصة الأخير، الأمر الذي بات شبه متفق عليه وللأسف في ظل المفاوضات العبثية منذ أوسلو، وفي ظل التعنُّت والعنجهية الاسرائيلية، وعدم الرغبة الحقيقية في سلام عادل، أو حتّى في سلام غير عادل، وعلى ضوء الممارسات التي تؤكد على شطب هذه الثوابت من لائحة أيّ حل مستقبلي، عن طريق زيادة المستوطنات وتهويد مساحات القدس، والإعلان الدائم، أنّه لن تكون في أيّ مرحلة موافقة على حق العودة.

وبالنسبة لقضية فلسطينيي الداخل، فإن التأكيد على يهودية الدولة ومطالبة الجانب الفلسطيني بالاعتراف بها، هي التمهيد الاسرائيلي لحل الدولتين لشعبين، حيث ستصبح دولة اسرائيل بحدودها المستقبلية الثابتة الدولة اليهودية، التي لا تعترف بأي هوية قومية داخلها غير الهوية اليهودية، وبذلك تقضي على حلم حق العودة إلى الأبد ، وحلم مساواة مواطنيها العرب بالمواطنين اليهود، عبر الاعتراف بهم كأقلية قومية أصلانية، تتمتع بحقوق الأقليات القومية الأصلانية المعترف بها بالمفاهيم الدولية، مثلها مثل أي دولة ديموقراطية عصرية في العالم، هذا إذا لم يكن في أدراجها المغلقة ما يتسرب أحيانًا عبر أجندات وتصريحات بعض المتطرفين من قادتها بمشروع ترانسفير جديد، يفرّغ الدولة العبرية من سكانها العرب الفلسطينيين.

إذن فإنّ قضية الجزء الباقي في أرضه التاريخية، هي ليست قضية جانبية داخل القضية الفلسطينية بكامل مساحتها، بل هي جزء هام وجوهري في القضية، وإن يغفل عنه حتى بعض الرموز في القيادة الفلسطينية، وإن همّش بعضهم الآخر، هذا الجانب، إمّا تنازلاً وإمّا تكتيكيًا مرحليًا داخل استراتيجية تحقيق الحلم المتضائل يومًا بعد يوم لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الأرض المحتلة عام 67.

وأنا شخصيًا أرى أن بعد تحطّم هذا الحلم على صخرة العنجهية والتعنت الإسرائيلي، والقضاء التام على اتفاقيات أوسلو، التي تعاني من الموت السريري منذ سنوات طويلة، فإنّ العودة إلى التمسّك بالثوابت الأولى سيعيد للثورة الفلسطينية هيبتها ومصداقيتها حتى دوليًا، وأرى أن التضامن والتواصل المستمر مع الورقة الرابحة والمنتصرة دومًا، ألا وهي العرب الفلسطينيين في القدس والداخل، هو عمل وطني وقومي وانساني من الدرجة الأولى، يصب في النهاية في صالح القضية العربية التي ستبقى الأهم في التاريخ المعاصر، أي القضية الفلسطينية.

وفي ظل التخلي السياسي العربي عن القضية الفلسطينية والتي باتت همًا أخيرًا ولا سيما في زمن ما يسمى بالربيع العربي، فإن من واجب المثقفين العرب أن يشكلّوا البوصلة من جديد، وأن يشكلّوا الضمير الحي، والفكر الواعي والرؤيوي، لمستقبل القضية الفلسطينية قضية الأمة العربية برمتها، وهذا ما قصده الفنّان الملتزم الواعي والصادق لطفي بوشناق، وعلى دربه يجب أن يسير الشرفاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة