قراءة في مجموعة "يا فاطمة، من تكونين؟ لابراهيم مالك

تاريخ النشر: 09/12/13 | 6:11

من العنوان نبدأ. لماذا التساؤل حول من تكون فاطمة؟ يقول الشاعر: "هذه القصائد هي قصيدة واحدة، خلاصة تجربة وموقف تكشف حقيقة شاعريته المشحونة، قلقا وعشقا". ثلاث وسبعون قصيدة مختارة جمعها الشاعر ليساعدنا على التعرف الى فاطمة، عشيقته، ومع ذلك يعنونها بسؤال استفهامي! خلاصة تجربة طويلة، مسيرة حياة، ولا زال السؤال قائما!

نعم، فعند شاعر كأبي مالك، جلُّ انشغاله الفكري بالانسان والانسانية، يتجلى توتر ممتد ما بين البداية والنهاية، من الطفولة حتى الكهولة، ليس لأنه لم يعمل الفكر جيدا بل لأنه كلما ازداد معرفة، عرف ان ما لا يعرفه أكثر، كشأن كل مثقف يحترم نفسه. توتر مستمر بالرغم من المساعدات الجمة التي قدمها له إخوانه، ابناء الانسانية، من جلجميش بابل، الى أراغون فرنسا، مرورا بالامام علي رضي الله عنه، بأبي ذر الغفاري، برتولد بريشت وغيرهم الكثيرين من أعلام الفكر الانساني.

فلنحاول اذا ان نكتشف او نكشف النقاب عمن تكون فاطمة. فتاة ملتفة بملاءة سوداء، جمعتهما في طفولتهما ليلة بدر، سمع دقات قلبها المتواترة فوقع اسيرا لملاءتها. فهي اذا حبه الاول الذي رغم تنقله في ارجاء هذه المعمورة وكثرة الفواطم التي التقاها وأحبها، بقي حبه لها في قلبه لم يبارحه. وفي كل الفواطم كان يرى ما يجمعها بفاطمته، سيان كانت تلك فتاة اوروبية شقراء، جدائلها كأشعة شمس الجليل، او سمراء بلون البن من جزيرة كاريبية. وحبه الاول هذا، يلازمه حتى يومنا، وفيه عبأ جزء كبيرا من أحلامه وآلامه، من تفاؤله وتشاؤمه، من انتصاراته ونكساته، كلها استوعبتها فاطمة.

وفاطمة هي ثالوث مقدس لإلهات العشق والحياة، عشتارسومر، أيلة كنعان، ونائلة العرب، وهو يراهُنَّ فيها ويراها فيهِنَّ بجمالها وفتنتها وخصبها، المرأة الام، الارض الطيبة، الحسناء التي تستحم بمياه البحر المقدس.

وإذا كانت هذه الفتاة هي حبه الاول او عشقه الاول فمن يكون حبه الثاني؟ والجواب يأتي موزعا في قصائد المجموعة وكأنه يلازم الذات الاولى فلا يفارقها. وهل يعقل ان ينفصل الانسان عن ذاته؟ انه حب المعرفة، ولا اقصد هنا نوعا معينا من العلوم، وإنما جوهر المعرفة بمعنى قدرة الانسان عليها، فالعقل هو القاسم المشترك بين بني البشر جميعهم، من كل الشعوب والاعراق، من كلِّ المذاهب والمشارب، وبذلك فهو الاساس لإنسانية المجتمع البشري وقاعدة النظرة الاممية.

والمجموعة غنية بالصور الشعرية والاستعارات، لوحة فنية تتجاور فيها اوصاف الطبيعة، الفلسطينية والدمشقية والبرلينية، يرتبط الشاعر بها ليصل الى ما يرمي اليه، من وصف لفاطمة حينا، الى الارتباط بفكرة او بشخص، يجسد من خلاله مبدأه الأساس: العقل والاممية. إلا أن هذه اللوحة ليست جامدة بل ديناميكية هادئة احيانا وحيوية جدا احيانا أخرى، نجد فيها تصور ابي مالك للوطن، بناسه، جباله، نباتاته البرية وزهوره العطرية، ينابيع المياه والانهار وشطآن البحر، من يافا حتى الزيب. وهو حين ينظر الى الطبيعة لا يراها الا بعيني الفنان الذي يرى ما لا يرى، ولوحاته بحاجة دائمة الى الحوار بينها وبين الناظر.

والمجموعة تزينها قصائد عديدة تغوص بنا الى اعماق الفكر الانساني العالمي، لتوضح لنا السمات المشتركة بين عباقرة هذا العالم. فبروميثيوس الذي فتح امام الانسان امكانية المعرفة، يعاقب من قبل الآلهة الآيلة للسقوط، وشك ابي العلاء المعري، هو شرط طرح الاسئلة التي تؤدي الى المعرفة، وبريشت هو المثال لمن يعارض العنصرية المتفشية والفكر السائد حتى لو أدى ذلك الى نفور القوم عنه والى تهجيره، مرورا بابن عربي ورؤيته الانسانية، فوق المذاهب والعقائد.

كما يأخذ الموت حيزا في المجموعة وحتمية فناء الانسان كجزء لا غنى عنه من كينونته وهي الحكمة التي استقاها جلجميش من رحلته الى العالم السفلي واستنتاجه بضرورة ان نحيى الحياة وأن نكون ما نحب أن نكون. ولعل الحادث الذي ألمَّ بالشاعر قبل عقد من الزمن هو الذي زاد من انشغاله بالموت بداية، ومع هذا الادراك، تحول الى الانشغال بالحياة. وادراكه بمحدودية الحياة أثرى نظرته الانسانية وأدى به الى معارضة تجارة الموت، التي يسوغها "مبدأ" الركض وراء الذهب، لدرجة تجرد الانسان من انسانيته وسفكه للدماء وأكله رؤوس البشر. وهذه نبوءة دانتي اليجيري عندما زار الجحيم في الكوميديا الالهية، والتي يرى الشاعر انها تحققت في أيامنا.

وابو مالك يعبر في قصائد مختلفة من هذه المجموعة عن حلمه في العودة الى سمخ، مسقط رأسه، ويعبر عن أمله بقدوم الربيع، رمزا لعودة الحياة ولتجددها الدائم، أمل الحرية لشعبه. وهو اذ يصف حال شعبنا اليوم، على علاته، يعلن وبكل وضوح، حبه لهذا الشعب ولهذا الوطن، والتزامه بالتشبث به، وإن كان الوطن الآن عودا يابسا، فهو صادق بالتزامه ولا مجال لاغوائه واغرائه بما قد تقدمه الغربة من مغريات، يحيط نفسه بحاكورته، حصنه المنيع، حيث يشعر بالامان ليأخذ فيها غفواته، مرصده الذي تزوره به الاحلام والرؤى، ومنها ينفذ الى بصيرة ذاته ويدرك ماهية ما هو خارجها.

ولعلي في هذه المداخلة المقتضبة لم أف المجموعة والشاعر حقهما، فلا بد لنا من عودة نتناول فيها بعض القصائد على الاقل، بالتحليل وباظهار العديد من الصور الشعرية المذهلة بروعتها، التي تحتويها.

‫2 تعليقات

  1. السلام عليكم يا ابا علي عرفناك الباحث في العلوم والكيمياء ولكن جديدك في الادب والشعر والتمحيص عن مكنونات ما اخفى الشعراء لهو جديد علينا دمت لاهلك واحبابك فهم كثر

  2. كيف لا وانت قد اوفيت الشاعر حقه بنثر سلس وهنا استوقفني تشبيهك لحالشعبنا اليوم لك كل التقدير على بلاؤك الغر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة