البلايا

تاريخ النشر: 24/08/16 | 17:20

عندما لا أدرك ما يقال لي، أكتفي بهزّ هامتي والابتسامة كإشارة على الفهم، عندما أدرك ما يقال لي، أقف مفكّرا بصمت وانشداه ما يوجد خلف الإدراك. الريح الباردة تسير كشفرات حادّة فوق السحنات، تترك الشفاه جافّة والأنوف ترشح من زكامها. أخطو في الطريق المعتمة إلّا من بعض الأنوار الخافتة. أرتجف بردا كما ترتجف المدينة بكاملها. ما الّذي يهبُ الدفء للحياة، هل هي الشّمس أم الثياب أم اللحُف الّتي نحطّها فوق أبداننا الواهنة باللّيل، الدفء هو وجود عمق للأشياء، للحياة، للعلاقات البشريّة، وجود سرائر لا مدركة، لكن مع ذلك مفكر فيها وإن كان بشكل حلمي. الشعور الّذي يراودني هذه الليلة هو الرّعب من أنّه ما من عمق ظلّ للأشياء، ما من أسرار تنتظرني هنالك من أجل الإعلان عن اكتشافها. الدنيا كلها تنيخ في السكون الفارغ للريح الباردة، فبعد شامبليون ربّما تكون انتهت جميع هيروغليفيات العالم. هذه هي المأساة الحديثة.
لا ترتفع درجة الحرارة في رأسي بل في رجلي، جسدي كالجليد بينما قدماي ملتهبتان، لذلك أنا من جماعة المشائيين، رغم أنّني لا أعتقد لا بماهية ولا بصورة ولا حتّى بسببيّة ظاهرة، أنا مشائي بقدمي وليس برأسي دائما أعاني من هذا القلق المناخي في جسدي، هذا المنخفض الحراري من الأعلى إلى الأسفل عندما أرقد عليّ أن أكشف اللحاف عن قدماي، أن أضربهما تباعا مع التخت حتّى يزداد تعبهما ويرقدا كي يتركا الرأس يأخذ قسطه من الغفوة هو أيضا.
يُضيّق علي اللّيل برعوده وبروقه، يبحلق فيّ كما لو أنني نسيب له، هذا الصمت لا يقطعه سوى نقيق الضفادع، وهي تقيم حفلتها في العراء. قطيع الذئاب الّتي يعتصرها البرد، تعوي هي كذلك وكأنّها تنتحب، وأخيرا خلف هذا كلّه اللّيل، اللّيل نفسه يجأر في الطرقات الخالية، بينما ملايين الحشود من الحيوانات المنوية تجاهد كي تعلق في شرك الحياة.
كما لو أنّ الزمان توقف في هذه المدينة، هنا نعيش ونموت معا، نفس الحياة ونفس الموت، هنا الحياة تموت والموت يحيى من جديد. رغم أنّ كلّ شيء يتحرك، كلّ شيء ضوضاء إلّا أنّه في العمق لا شيء يتحرك. الزّمان هو التوقيع الّذي يتركه الربّ عندما يعبر في مكان معين، مع ذلك هنا حيث يتوقف الزمان والتاريخ يمكنني القيام بتأملات حقيقيّة حول الوضع البشري، حول هذا الإنسان القديم فوق هذه الأرض العتيقة كقطعة الأثاث القديمة الّتي علاها الغبار.
أقول مثلا، أيّة كينونة ينطوي عليها هذا الحارس اللّيلي المتيبس دائما خلف زيّه النمطيّ طوال سنوات بكاملها لا تربطني به سوى بضع كلمات نتبادلها بنفس نبرة الصوت:
مساء الخير الله يعينكَ، اعتني بنفسك.. كيف يمكن أن تكون مثل هذه الكلمات القليلة الّتي لا روح لها، هي مجمل ما يمكن أن تربطك بإنسان، نفس الكلمات أتبادلها مع سمّان الحي، ومع نادل المطعم، ومع المرأة القروية الّتي تحضر الحليب إلى داري.
ولكن عن ماذا يمكن أن أكلّم هؤلاء الناس لو استطعت فعلا من تجاوز هذا الحاجز، هل أحدثهم عن ميلتون والجنّة الضائعة، أو عن ماركيز ومائة عام من العزلة، أو عن ما بعد الأينشتاينيّة شيء غريب كيف يمكن أن تفنى الروح داخل جسد مقفر، تموت الروح بينما يستمرّ الجسد في الحياة، تُرى ماذا يمكن لهؤلاء أن يقولوه لو قدر لهم الخروج من حماقة الوجود حيث هم، عن الجنّة الضائعة، وعن السرد الغرائبي.
ولكنّهم مع ذلك مسرورون بدون جنّة، علماء بدون معادلات، روائيون حقيقيون وروايتهم هي حياتهم هؤلاء العامّة المساكين هم أبطال. الروايات تنتظر من يكتبها، شهداء لديانات لا إله لها يصطفون كطوابير تنتظر الإعدام، وما يعدمهم هو مصيبة الحياة ومكائد العيش.
أخطو فوق هذا الجلمود، تحت هذه الحيطان الباردة، فوق هذه الأرض الّتي مرّ عليها ملايين من النّاس قبلي، وسيمرّ عليها ملايين آخرون بعدي، تخيّل كلّ هؤلاء الّذين ماتوا وانقضوا، طواهم التراب منذ أزمان سحيقة. قوم حام وسام، العمالقة والأقزام، وممن نجوا من الطوفان كي يموتوا بعد ذلك، لو بعث كلّ هؤلاء من جديد هل تكفيهم هذه الأرض المسكينة. هذه الملايين إضافة إلى السبعة مليارات الّتي نحن عليها اليوم، ربّما تلزمنا أرض أخرى مضاعفة مئات المرّات، ربّما سنبعث في الزُّهرة أو في كوكب آخر من كواكب القنطور.
وماذا لو تضاعف الجنس البشري في الألفيّة الثالثة، تكاثرنا حتّى بتنا أكثر عددا من القراد ومن الصراصير، أو أكثر عددا من الطفيليات الموجودة في معدات كلّ الرّجال، قد لا يجد الواحد منّا مكانا يقف عليه، وربّما تظهر سياسة جديدة، وعلم أخلاق جديد، واقتصاد من نوع مختلف، وربّما سيكون الهمّ الكبير للسياسة هو كيف تؤكّل كلّ هذه الأفواه، وكيف تضمن ألّا نبيت مثل الحيوانات الّتي لا تدوم في العيش إلّا بالتغذي على بعضها البعض قد يتطلب الأمر آفات أخرى تطهر الأرض، إهلاك كوني يعيد ترتيب سلّم الموجودات ويطهر الطبيعة من هيمنة هذه الفيروسات الّتي هي نحن جنس البشر.
أعلم أنّني يوما ما سأموت بشربة زائدة من الحياة، وقتي قصير فوق هذه الأرض،ولن أضيعه في البحث عمّا فقد، ولا في العثور على ما لم يضع بالحزن البارد للشوق، أفتش عما هو صعبٌ قوله لما هو صعبٌ إدراكه، سأكتفي بالوقوف في المراسي المتروكة لأرخبيلات المعنى المهجور، حيث نقطة الاستناد الوحيدة هي النور الضعيف للروح وللشعور بالحياة.

عطا الله شاهين
3talla7shaheen

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة