بنت القسطل

تاريخ النشر: 17/07/16 | 16:15

صفورية باقية في مكانها وان أُبعد أهلها قسرًا عن قلعتها وقسطلها وبساتينها، فهي ثابتة في أرضها وحيّة في ذاكرة أبنائها، وفي فضاء ذاكرة شعبنا الفلسطينيّ باقية، كما المئات من بلدات هذا الوطن الجريح.
عندما يتشظّى الوطن ببنيانه وعمرانه بناسه وأشجاره بمائه، تتجلّى حالة مأساويّة غارقة في التّاريخ عالقة على أحبال مشدودة للمستقبل تشدّه نحو العودة، قاهرة للنّسيان لتتشكّل صورة تتجاذبها الألوان المعتمة والزّاهية، الظّلمة والنّور، الظّلم والحريّة، والأمل بالأمل.
صفورية رابضة على صخور تلالها تعانق أفقها، ترقب أهلها تحفظ أسماءها، وفي قلبها ينبض الحنين وينتفض الورد.
صفّورية هي شأننا جميعًا، شأن الإنسانية وشأن من عايشها ومن جاورها وأحبها حبًا مدويًا، الشاعر سيمون عيلوطي الحالم بالعودة، ولو من خلال المشاركة في فعاليّة مسيرة العودة:
صفّورية في البال تظل
أحلى من زهرات الفل
زيارتها واجب مفروض
يشارك فيها أهل الكل
سيمون عيلوطي يبدع في بناء حكاية شعريّة سرديّة توقظ في القارئ حنينًا متّقدًا ثائرًا، وحلمًا واقعيًا بتحقيق العودة محرّضًا للعمل الثقافي.
ينقلنا الشاعر سيمون عبر صور ومشاهد حيّة متتالية تحمل في حواشيها مكنونات الذكرى السّاخنة وإصرار البقاء ولوعة الحنين ورقيّ الوعيّ السياسيّ والاجتماعيّ والقيم الإنسانيّة والتّضامن والتّآخي آتيا بمشاهد ثريّة بالطّقوس والعادات والمناسبات والأغاني الشعبيّة وبمسمّيات الأماكن وتعدّد ثروات المكان (صفورية) الزراعيّة، الصناعيّة البسيطة ووسائل النّقل المتطوّرة في حينه تتجلّى صفورية في الحكاية الشعريّة السرديّة ” بنت القسطل” للكاتب سيمون عيلوطي
صفورية بْساتين
مفروشة خضار
نبعات وِحْساسين
قسطل وأزهار
صفورية يا خضرا
تبقى بالروح زهرة
تفرفح حوليَّا
يُرصّع حكايته بلغة المكان المحكيّة، يغرف من أفواه الناس: الجرّة، كيلة الميّة، الحصيرة والدّوشك المفروش، كانون النّار، تنكة الأزهار، لعبة المنقلة، أكلة القطايف، اليوك، المكوك ، الجرن، الطابون، الكبة وغيرها.
يُشير وباعتزاز إلى ثراء المكان صفورية وعلو مركزها، في شتى مجالات الحياة، “في القرية طواحين للقمح، كان أبوي يشغلها على المي وكان عنا معاصر للزيتون ومدرستين، واحدة للصبيان والثانية للبنات، كان عنا مجلس بلديّة، تنادر وباصات العفيفي/ بتستناكو بالساحة/ جديدة وكثير نظيفة/ النّقلِه رخيصة بصراحه”. وغنى أغاني لأعراس وحمّام العريس: “قُلّي وين تْحمّمت يا زين يا غالي، يا يمّا حمموني بدار خوالي”.
وأبرَزَ ما ساد من تآخ ومحبة وتسامح بين أبناء البلد الواحد “بتذكر في عيد الميلاد/ الحفلة اللي صارت بالدير، وفي عيد الصعود كلمة الشيخ صبيح إل حكاها للوفود”.
“الدير بصفورية موجود/ مِنْصونُه لو شو بِيصير”،
“دير القديسة حنّه/ والدة ستي مريم/ مولودة في هالجنة/ صفورية انشالله تسلم”.
ويتجول سيمون في حكايته الشعريّة في ثنايا الطّبيعة الجميلة، يتظلل بظلال الدّوالي الحاملة وبأشجار الرمان، يُراقب أسراب الحمام ويترنم بتغريد البلابل والحساسين ويقترب دفئا الى سته وهي تجدل صوف بالصنارة “منو تعمل شرشف يَ ستار تهديه لاهل الخير ….للزوار”.
مرتاحا في قرية هادئة سالمة “عيشتنا فيها أحلى من ندى النوار، لا خصم عنا لا عدا، ولا ثار… ويذوب شوقًا للدار وللجرَّة “مشتاقة قلبي دايب” “يا قلبي ناطر وعدي عجمر النار”.
يكشف الشاعر المأساة، وانقلاب الحال بين ليلة وضحاها “بليلة ما فيها قمر، غزونا والجو انعكر”. تنبلج عن هذه المشاعر الإنسانية المتداخلة شوقا وحنينا حزنا وفرحا، ألما وأملا… تنبلج مواقف الصّمود والتّحدي والواقعيّة والأمل للباقين في الوطن ليصبح تواجدنا في قرانا “خطر على أمن الدولة” وليقف الناس ضد سياسة التّرهيب وكسر العظام وليعبّر أهل البلد عن مواقفهم وإصرارهم على البقاء
” ما نرحل لو شو بصير نبقى هون كْبير زْغير
ما نترك أرض الأجداد”.
علمني جدي جملة
“صونوا الأرض طول وعرض”
“ما نترك ارض الأجداد”
ويعلو صوت المقاومة
“ما يرهبنا حتى الموت
بالمقالع والنبوت
منقاوم لو شو بصير”
وعن صمود المرأة المتمثلة “بمريم” :
“لو مشَّيتوا الدبابات
فوق جسمي ما بزيح
مزروعة مثل النبات
ما تقعلني هبوب الريح”
وبرؤية تفاؤلية لزوال الظلم، “علمتنا التّجربة الظّلم رايح ل زوال”
” حول الشّعوب تكسّرت كل القيود ”
وبوعي ثاقب مسؤول يشير إلى طبيعة النّضال السّلميّ للبقاء بمشاركة قوى تقدميّة يهوديّة “وكل اللي بيحبوا العدل والسّلام في إسرائيل والعالم”، مش بس مندعي للسّلام مندعي للمحبّة كمان والتّساوي” والى تأكيد الرواية الفلسطينيّة بأننا أصحاب الأرض الأصليون ولسنا كالروايّة الصهيونيّة التي بدّلت الأسماء “تحرير تسيبوري من مغتصبيها العرب”
ويدعو إلى التّسامح والتّآخي بين أبناء الدار
بنت القسطل تجري حكاية فنيّة في مياه القسطل لتحيي البستان، وصفورية “تظل على مرّ الليالي قمرها يهل” ولتبعثنا سائرين إليها، عائدين إليها، إلى مرجها الأخضر إلى بلاد العنبر.
هاتفين “صفورية دون الأهل صحرا … حجر” نحن أهلها عائدون إليها.
شكر إلى سيمون، تستحق الثناء على هذا الجهد الإبداعيّ وعلى أَخذك بيد بنت القسطل والقلعة، بنت صفورية للتظلّل بظلال الدّوالي وإلى قَطْفِ “قُطْف” العنب، وإلى الرّقود على عش البلبل، إلى الأمل الآتي حتمًا…
—————————————-
*بنت القسطل.. صفورية- سيمون عيلوطي. نسخة إلكترونيّة 2016، منشورات “ألوان عربيّة” السويد.

فيصل طه

Untitled-1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة