الحب الموازي
تاريخ النشر: 16/07/16 | 10:17نشرت د. جهينة الخطيب صورة لسائح وسائحة يقبّلان بعضهما البعض، قرب الأهرام، وهما راكبان على جمل وناقة يـتناغيان كذلك.
ذكّرني هذا المشهد الطريف ببيت نسب إلى المُنخَّل اليشكُري الشاعر الجاهلي، وهو:
وأحبها وتحبني *** ويحب ناقتَها بعيري
وهذا البيت جعله كثير من الرواة خاتمة القصيدة الرائية التي مطلعها:
إن كنتِ عاذلتي فسيري *** نحو العراق ولا تحوري
..
وهي قصيدة غزلية جميلة ورقيقة قالها المنخَّل في المتجردة زوجة النعمان بن المنذر التي كان بينها وبينه عشق أو كلف، أدى به في نهاية الأمر، وبعد أن علم النعمان- إلى التهلكة.
….
رغم سيرورة هذا البيت واشتهاره،
إلا أن صاحب الأغاني- أبو الفرج الأصفهاني يذكر:
“ومن الناس من يزيد في هذه القصيدة:
وأحبها وتحبني *** ويحب ناقتها بعيري
ولم أجده في رواية صحيحة”
(الأغاني ج 12 ، ص 21- طبعة دار الفكر).
…
يبدو لي أن أحمد شوقي ظل في ذاكرته هذا الحب الموازي،
فأورد في الفصل الثالث من مسرحية (مجنون ليلى):
مشى الحبُّ في ليلى وفيّ من الصِّـبا *** ودبّ الهوى في شاء ليلى وشائيا
أضحى الحب حتى بين الأغنام.
…
من الغريب أنني قرأت تعليقًا لمحاضر أكاديمي أن البيت المنسوب للمنخل هو “قبيح”، بدعوى عدم استساغة المقارنة بين الحبّين، ولو تروّى وقرأ القصيدة كاملة لوجد جمال هذا البيت في معرض الحركية التي أبدع فيها المنخّل، وكذلك في أجواء البيئة الصحراوية التي انطلق منها، وفي هذا الحب الموازي المتماثل.*
ويبقى لكل ذوقه!
من جهة أخرى، فإن صورة تمثّل الحيوان في معرض الحب لدى الشعراء- قائمة.
..
سنجد أن كُثيِّر عَزّة يتمنى أن يكون هو وحبيبته بعيرين، فهو لا يصف حبًا موازيًا، وإنما يتمنى أن يكون هو وإياها = البعير والناقة، وذلك حتى يأمنا أعين الوشاة والعاذلين، وحتى تكون لهما حرية لها ما بعدها:
ألا ليـتنـا يـا عـزَّ كـنّا لذي غِنًى *** بعيرَينِ نرْعى في الخلاءِ ونَعْزُبُ
نكونُ بعيرَي ذي غِنًى فيُضيعُنا *** فـلا هـو يـرعـانـا ولا نحـنُ نُطلبُ
كـلانـا بـه عُـرٌّ فـمـن يـرَنـا يقُلْ *** على حُسنها جرْباءُ تُعْدي وأجرَبُ
إذا ما وردْنا منهلاً صاحَ أهـلُـه *** عـلينا فـما ننفكُّ نُـرْمـى ونُضـربُ
وددْتُ وبــيـتِ الله أنّـكِ بــكْــرَةٌ *** هـجـانٌ وأنّـي مُـصـعَـبٌ ثمَّ نَهْرب
ديوان كُـثيّر- قافية الباء، ص 42.
..
ورد في الأخبار الأدبية أن عزة عاتبته، لأنه يتمنى أن يكونا في جرب، ونصيبهما الضرب الهرب، والإهانة … وبالطبع “معها حق”، فهذا ما لا تقبله أي حبيبة.
…….
مثل هذا التمني وجدناه في شعر مجنون ليلى، فهو يتمنى صورًا مختلفة من أزواج الحيوان ليحفظ سرية الحب:
أَلا لَـيـتَـنـا كُـنّـا غَـزالَـيـنِ نَرتَعي *** رياضاً مِنَ الحَوذانِ في بَلَدٍ قَفرِ
أَلا لَـيـتَـنـا كُـنّـا حَـمـامَـي مَـفازَةٍ *** نَطيرُ وَنَأوي بِالعَشِيِّ إِلـى وَكـرِ
أَلا لَيتَنا حوتانِ في البَحرِ نَرتَمي *** إِذا نَحنُ أَمسَينا نُلَجِّجُ في البَحرِ
وَيـالَـيـتَنـا نَـحـيــا جَـمـيعــًا وَلـيــــــتـَنـا ***نَـصـيرُ إِذا مِـتنا ضَـجيعَـينِ فـــي قَبــــرِ
ضَجيعَينِ في قَبرٍ عَنِ الناسِ مُعزَلٍ *** وَنُقرَنُ يَومَ البَعثِ وَالحَشرِ والنشر
ديوان مجنون ليلى – النص 145، ص 164.
مُلحة:
كان لي صديق في السبعينيات من القرن الماضي، وكان يركب دراجة نارية من نوع فِسْبا، وكانت له صديقة أجنبية لها كذلك دراجة من النوع نفسه.
سألني الصديق أن أقرأ له قصيدة غزلية.
قرأت له قصيدة المنخل، وعندما وصلت إلى البيت:
وأحبها وتحبني كنت أشدد على الباء، وأترنم متعمدًا في قراءتها،
ويحب ناقتها بعيري، وكنت أتباطأ في أدائها،
ضحك ملء أشداقه ، وعلى التو قال متحمسًا:
وأحبها وتحبني *** ويحب فسبتها موتوري…
….
رحمك الله يا رءوف، فقد كنت خفيف الظل جميل الحضور!
أ. د فاروق مواسي