صفحة من تاريخنا الثقافي الفلسطيني

تاريخ النشر: 30/10/13 | 9:53

بدأت حركتنا الثقافية العربية الفلسطينية داخل الخط الأخضر بتاسيس بواكيرها في اواسط الخمسينات، واستطاعت أن ترسخ جذورها في حركة الثقافة العربية وفرض أسماء أدبية ابداعية عليها، احتلت مواقع أماميه فيها بمختلف ضروب وحقول الأدب والإبداع.

وكانت الحياة الفلسطينية شهدت في تلك الحقبة حراكاً أدبياً زخماً مباركاً، ونهضة ثقافية واسعة، وحركة أدبية فعالة ونشطة، تمثلت بصدور المجلات الأدبية والثقافية والفكرية كالمجتمع والهدف والفجر، فضلاً عن أدبيات الحزب الشيوعي (الاتحاد، الجديد، الغد)، التي كان لها الدور الهام والفاعل والطليعي في تأطير وتنشيط حركة الأدب والنشر، وتعميق الوعي السياسي والايديولوجي، وصيانة هويتنا الثقافية الوطنية وتاريخنا الفلسطيني، وحماية لغتنا العربية، ومواجهة سياسة التجهيل والعدمية القومية السلطوية، والمساهمة في نشر ثقافة وفكر التقدم والحرية والالتزام، ثقافة الإنسان الطبقية الشعبية. ناهيك عن المهرجانات الشعرية في قرى ومدن الجليل والمثلث، التي ازدهر من خلالها سوق القصيدة المهرجانية الخطابية الحماسية، وشارك فيها لفيف من شعراء الشعب والكفاح والمقاومة، برز منهم: سميح القاسم ومحمود درويش وراشد حسين وتوفيق زياد وسالم جبران وعصام العباسي وحنا أبو حنا وحنا ابراهيم ومحمود دسوقي وغيرهم .

وكذلك انتشار المكتبات الشعبية، أبرزها مكتبة "النور"في حيفا لصاحبها المناضل والمثقف والشاعر المرحوم داود تركي (أبو عايدة)، التي كانت تحتوي على تشكيلة واسعة من الكتب والمطبوعات الأدبية والسياسية والاجتماعية والفكرية، عدا عن الصحف العربية والعبرية والانجليزية. وكان يؤمها الكتاب وعشاق الحرف والكلمة الجميلة واصحاب القلم من محبي القراءة والمعرفة، وشكلت ملتقى للكتاب والمبدعين والمثقفين منهم: علي عاشور ومحمد خاص وعصام العباسي وسميح القاسم وعلي رافع ومحمود درويش ومحمد ميعاري ويعقوب حجازي وسهيل عطاللـه ويوسف حمدان وعودة الأشهب وسواهم من المثقفين والمبدعين ورجالات الحركة الوطنية التقدمية. بالإضافة الى مكتبة الشعب أو المكتبة الشعبية في بيت الصداقة بالناصرة، التي كان يديرها الكاتب والناقد والروائي الأستاذ المرحوم عيسى لوباني، ثم انتقلت ادارتها الى المناضل الراحل سهيل نصار. وقد اقامها الحزب الشوعي من أجل نشر وتوزيع الكتب التقدمية الصادرة في الدول الاشتراكية سابقاً، وخاصة دار "التقدم"، واهتمت بنشر مؤلفات التراث الماركسي الكلاسيكية، واصدار عدد من أعمال مؤلفات كتابنا وشعرائنا ومنتجينا في هذا الوطن.

وعلاوة على ذلك تأسيس وانشاء أول رابطة للكتاب والمثقفين العرب سنة 1957 ، وكان من مؤسسيها عيسى لوباني ونمر مرقص وعدنان ظاهر، ومن اعضائها راشد حسين وحنا أبو حنا وعصام العباسي ومصطفى مرار وشكيب جهشان وحبيب قهوجي وفريد وجدي الطبري وحسني عراقي.

وشهدت تلك الأيام ايضاً، مهرجانات أول أيار، عيد العمال العالمي، والأمسيات السياسية والثقافية والحلقات الفكرية والندوات الأدبية والشعرية، التي كان يشارك فيها المئات بل الآلاف من أبناء شعبنا، المتعطشين للوعي والمعرفة والثقافة والتنوير.

لا شك ان مرحلة الخمسينات والستينات في حياة جماهيرنا الفلسطينية الباقية والمنزرعة في أرضها ووطنها، من ذلك الزمن الجميل، هي مرحلة خصبة وغنية ومكللة بالنشاط الادبي والثقافي الإبداعي، رغم الفقر وقساوة الظروف وصعوبة الوضع الاقتصادي وقلة المارد. وظل هذا الزخم حتى بدايات التسعينات، حيث تلاشى الحلم الثوري وتبددت الأماني بفعل انهيار الوطن الاشتراكي وما أصابه من زلزال وتسونامي كبير. فسادت حياتنا الميوعة السياسية والخلخلة الفكرية واهتزاز القناعات الايديولوجية الثورية، واختلطت الاوراق، وفقدت الكلمة معناها ورونقها واصالتها ومصداقيتها، وسيطرت عقلية الانتفاخ الذاتي والنرجسية المأزومة، وصار كل من كتب حرفاً ونشر قصيدة في صحيفة أو موقع الكتروني وانضم الى احد التنظيمات او المجموعات الأدبية، يعتقد بأنه أشعر من درويش والبياتي والمتنبي والمعري وشوقي وطوقان..!.

كما تهمش دور القراء بل أنهم كانوا سبباً في هذا التهميش، ولم تعد تهم الناس أو تثيرهم الاعمال العظيمة والمنجزات الفكرية العميقة، ولا القيم التي نافحنا في سبيلها ومن أجلها، حتى الشهادات الاكاديمية والعلمية فقدت قيمتها وبريقها وأصبحت تشترى بالمال لتزين البيت وتزيد الراتب الشهري وترفع من غرور وانتفاخ صاحبها. ولا تسل عن المكتبات البيتية، فقد غدت للزينة ولا تختلف كثيراً عن التحف والأواني والصحون الانجليزية ..!

ان ما كتبته هو صورة نوستولوجية، وحنين وشوق غوالي لتلك الأيام البسيطة الجميلة، البعيدة عن المظاهر الفارغة والشكليات الخداعة، التي لن تعود أبداً، لان عجلة التاريخ لن ترجع للوراء وانما للأمام، وحالنا اليوم هو افضل من القادم. ويبدو ان مقولة الشاعر التركي الكبير ناظم حكمت "اجمل الأيام هي التي لم نعشها بعد" لم يعد لها معنى في زماننا، وان أجمل الأيام هي التي عشناها في الماضي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة