حديث في اللغة(23)…الأضداد

تاريخ النشر: 01/04/16 | 11:38

من خصائص اللغة العربية تبرز ظاهرة (الأضداد).
كلمة (ضد) في اللغة لها معنيان متناقضان: فهي تدل على المخالف، وتدل كذلك على النظير والمثل، ومن هنا جاء اسمها.
جمع (ضد) أضداد، ويجوز أن تبقى على حالها بلفظة المفرد (مثل فُلْك بمعنى سفينة وسفن).
قال أبو عبيدة – وهو راوية عربي – يقال إنه يهودي الأصل – في باب الأضداد من كتاب (الغريب المصنف):
“سمعت أبا زيد الأنصاري يقول (السُّدْفة) في لغة تميم هي (الظلمة)، وفي لغة قيس هي (الضوء). كذلك تقول بنو عقيل (لمَقت الشيء) أي كتبته، وفي قبائل أخرى تعني – محوته ، و (سجد) عند طيئ تعني انتصب، وعند كثير من القبائل بمعنى- انحنى.
نفهم من ذلك أن سبب نشوء الأضداد يعود إلى القبائل، وعندما دونت الكلمات في معاجم لم يجدوا حرجًا في جعل الكلمة تعني الشيء ونقيضه.
يحدثنا الأزدي عن رجل من بني كلاب قال له أحد الأمراء:
ثِب!، وكان يقصد في لهجته ” اقعد “، فما كان من الرجل إلا أن طفر من حالِق، ويعلم الله ماذا كان من أمره.

أعجبني تعليق للدكتور منصور فهمي، وكان عضو مجمع اللغة العربية في مصر- أن كلمة (لحم) تحمل نوعًا من التضاد في لغتين مختلفتين كانتا في الأصل واحدة، فهي بالعبرية = خبز أي مادة نباتية كانت غذاء العبرانيين، وهي في العربية مادة حيوانية – وهي غذاء العرب سكان البادية ورعاة الأغنام…

يرى المستشرق (جيز) أن الكلمتين المتناقضتين في الأضداد تربطهما وشيجة معينة فمثلاً:
جلل = تعني هين وعظيم .
يرى جيز أن أصلها (גלל) العبرية التي تعني دحرج، ويمكن أن ندحرج الشيء الخفيف والثقيل. طبعًا هذا اجتهاد، والمستشرقون يرودون الجدة في البحث، وهم تعبوا على لغتنا – في مرحلة معينة أكثر في رأيي – مما تعبنا.
من الأضداد كذلك:
الجَوْن وهو الأسود والأبيض
الرجاء وهو الرغبة والخوف
القشيب وهو الجديد والخلـَق
الظن وهو الشك واليقين
كثَب وهو القرب والبعد
السر وهو المخفيّ والمعلن
وراء وهي خلف وأمام
القُرء هو الحيض والطهر
ذُفَر رائحة طيبة ورائحة نتنة
الصريم الليل والنهار
خفي البرق ظهر واستتر
شرى وباع تعني الواحدة معنى أختها.

لنعد إلى كلمة (جلل)، فنحن قرأناها في شعر شاعرين بمعنيين مختلفين:
الأول- الحارث بن وَعْلة الجَرْمي يقول:
ولئن عفوتُ لأعفونْ جللا ولئن سطوتُ لأوهننْ عظمي
فسبب عفوه جلل نفسه وعظمتها.
والثاني (امرؤ القيس) يقول:
بقتل بني أسَدٍ ربَّهم ألا كلُّ شيء سواه جللْ
ويقصد هنا بكلمة (جلل) تافه أو عديم القيمة.
و (الجليل) على رأي بعض اللغويين تعني العظيم، وتعني كذلك الحقير.
فالفعل (جلّ) معناه أستن واحتنك، ومن هنا أخذت معنى الاحترام، لأن كبير السن محترم.
و (جلّ) معناها ضعف وهان…. ومن هنا أخذت معنى الحقارة.

للمتابعين المهتمين: أنصح هنا بمراجعة (كتاب الأضداد) للأنباري، وكذلك (ثلاثة كتب في الأضداد) – للأصمعي والسجستاني وابن السكيت، ويليها ذيل في الأضداد للصغاني.

ملاحظة مهمة:

الأضداد من خصائص اللغة العربية التراثية المحافظة، وهي مصدر ثراء ماتع، فالمتلقي يحدد المعنى حسب السياق، فـ “أنت مولاي” أعني بها = أنت سيدي، ولكن جملة – “كان فلان مولى بني عبس يأمرونه فيطيعهم” معناها = عبد لهم.

لا نستخدم اليوم أضدادًا مستجدة، فالكلمات اليوم هي محددة المعنى والأداء، وقد استغنينا عن الأضداد في حمولة المعنيين المتناقضين، ولا غضاضة في ذلك.

سآتي على خصائص لغوية أخرى لا نعمد إليها اليوم في لغتنا المعاصرة، وهذا بالطبع لا يسوّغ عدم معرفتها والخوض في خضمّها.

ب.فاروق مواسي

faroqq

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة