قراءة نقدية لكتاب “مواقف في آتون الصراع”

تاريخ النشر: 31/03/16 | 12:18

قرأتُ كتاب ” مواقف في أتون الصراع” للكاتب نمر عيسى ريحاني الصادرِ عن دار “الشجرة” الحيفاوية وهو يحوي في طيّاتِه 248 صفحة, وقد قام بمراجعتِه لغويًّا الصحافي الأديب عودة بشارات وقامَ بتصميمِه وإنتاجِه الفنانً ظافر شربجي – صاحب “مجد” للتصميم والفنون في حيفا .
الكاتب من سكان كفر كنا الجليلية ، ولد عام 1935 وعمل في سلك التعليم 16 عامًا ، لم يُرض خطه السياسي الحكومة فتربّصت له المخابرات ووجّهت له تهمة أمنية ، حوكم وسُجن لمدة سنتين وتبع ذلك فُصِل من وظيفته في سلك التعليم وعمل في مجال الحسابات.
كتب معلقًا حول أمور تمس قضية شعبه وأصدر مقالات كتبها لتوثيق حقبة وعبر استخلصها منها.
أعجبني الكتاب من أولِ نظرةٍ و من أولِ قراءةٍ و قرأتَه بشغف : لأن النظرَ اليه مريحٌ للعينِ بسبب التصميمِ الغرافي الراقي حيث أخذ كلَّ القيمِ النصيةِ (الخطوط) مهتمًّا بأوزانِ النصِّ, تقريبها وأبعادها عن العنوانِ وعن بعضِها البعض . الفراغُ بين الأسطرِ مريحُ, وتمّ الأخذُ بجميعِ المعاييرِ للخطوطِ ونقلِ المعلومةِ .
نمر شاهدٌ على العصر – حيث كتب خواطرَه حسب رؤيته للأمور ساعةَ وقوعها, بمنظاره هوَ, دون مواربة ورياء وبنظرة ثاقبة تعبّرُ عن مواقفه الجريئة, فالرجال مواقف ونمر عزّ الرجال(كما نرى في مقالته “مسكين أنت أيها الدين” ص 227). كتبها بحرقة وألم على ما يجري حوله وعلى جرح عربيّ يدمي وقضيّة تضيع وأثبت بأنّه صاحب رؤية ورؤيا لإنسان يعي ما يدورَ حوله من مؤامرات وحبَكات تُحاك ضدّ شعبه فيصرخ عبر خواطره وهل من سامع أو مجيب ؟!؟
يصوّرُ فيها بقلمه مشاهدات من الحوادث والقصص التي عاشها حول معاناة شعبنا ويذكّرني بتوفيق الحكيم ويوميات نائب في الأرياف” ومحمد حسنين هيكل وتأمّلاته حاملا كاميرته/ألا وهي قلمَه ليصوّر مأساة واكبها بمنظاره هو .
يشخّصُ في هذه الخواطر رواية شعب ويوميّاته حيث يعرضها بأسلوب مميّز متألّم وموجوع, يتطرّقُ لأشياء صغيرة تمُرّ في حياتنا, لا نُدركُ أهميّتها وجمالها, ربّما لصغر حجمها, أو لعدم اكتراثنا بها, أو لأنّنا نضعُ نظّارةً لا ترى مثل هذه الأمور. إلاّ إذا غيّرنا عدسات نظّارتنا وبدأنا نُقرّب الصورة لنرى تفاصيل الأمور, عندها سنرى أمورًا صغيرةً لها تؤثّرُ فينا.
قلتُ أنّها خواطر لأن الخاطرة هي إسمٌ لما يتحرّكَ في القلب من رأي أو معنى وتُكتَب لحظةَ حدوث شيء أو بعدَه ; والخاطرة هي مقالة قصيرة تخلو من كثرة التفصيلات, يعرضُ فيها الكاتب فكرةً حول موضوع ما أو إحساس يجول في خاطره : هي كلمات ذات إبداع حسّي تُتَرجم فيها الأحاسيس بأسلوب مُلفت للنظر يستهوي القارئ لمتابعتها وذلك لما تحويه من معاني عميقة تعبّر عمّا قد يجول في خاطرنا.
أبدع نمر , قصدًا أو سهوًا, بكتابة خواطره على أصولها: بدايةً باختياره لعنوان كلّ منها, فلا بُدّ أن يكون للاسم صلة بالموضوع التي تحتويه كلمات الخاطرة ويجب أن يكون عنوانها مميّزا يشدّ القارئ ويوحي ويُلمّح إلى ما تحويه من كلمات (كما نرى في مقالته “آفةٌ اجتماعية هي أخطر ما يكونَ على مجتمعنا : ألمصلحة الشخصية” ص 67).
ومن ثَمّ البداية فيجب أن تكون البداية مُلفتةٌ وأشدّ وقعاً على القارئ من عنوان الخاطرة لكي تستهوي القارئ لمتابعة القراءة إلى النهاية.
ومن ثَمّ التعمّق في صُلب الموضوع وهو يَكمُن في إبحارنا مع الخيال فلا نقتصرُ على الواقع الذي نمرّ به لكي نصلَ إلى مزيج من الإبداع يصل بعضه بالبعض بكلمات مترابطة توحي إلى تزيين الواقع برسم الخيال(كما نرى في مقالته “إنهم عبيد ” ص 113).
ومن ثَمّ التنويه إلى بداية ونهاية الخاطرة: طرح عنصر التشويق وذلك بأن نجعل سرّها وتساؤلاتنا في بدايتها تكون الإجابة عليه في نهاية الكلمات حتى نصل إلى خاطرة واضحة بعيدة عن معاني الغموض ومُفعمة بالتشويق(كما نرى في مقالته “التجمع الوطني : مبادئ أو شعار” ص 43).
وأخيرا : النهاية فلا بد أن يكون هناك ربط بين نهاية الخاطرة وبدايتها حتى يكون النصّ متكاملًا فإذا ابتدأنا بالشوق نُنهيها بنفس معاني الشوق أو بما يوحي إليه حتى نلتمس تماسُك النصّ وثُبوت المعنى في ذهن قارئه بما يحملُه الكاتب من أحاسيس ومشاعر.
قراءة الكتاب كمن يُطالع موسوعة : فالتجربة عريضة والثقافة مُميّزة، والمُتابعة دقيقة، والتحليل يستندُ إلى معلومات تفصيلية تتجاوز الأخبار ، والذاكرة المميّزة التي تحتفظ بشبابها … كل ذلك يحضر مع نمر فإذ هو دائرةُ معارف: يعرفُ الكثير الكثير من المرجعيّات السياسيّة ، ويعرفُ عن البلاد وأحوالها، اقتصادا وثقافةً وتوجُهات،
وكما يقول البدو – هو “العارفة” . ذاكرته نضرة، ومعلوماته شاملة، ثم إنه متابعٌ دقيق وخزينَه المعرفيّ يُسهّل عليه تحليل الحاضر واتجاهات الريح، ما يُمكّنه من استقراء المستقبل(كما نرى في مقالته “بين حانا ومانا ستضيع لحانا” ص 132 – 05.02.2007) فكتب أن قضيّة الشعب الفلسطيني ستضيع بسبب التناحر على السلطة وفعلاً هذا الاقتتال أصبح الخطرُ الأكبر الذي يُهدّد بالقضاء نهائيًا على حُلم تحقيق إقامة الدولة الفلسطينية وهذا ما أنجبَ انتفاضة السكاكين : انتفاضة أفراد سئموا هذا الاحتراب بين التنظيمات.
نمر لم يكن مهادنًا أو متلوّنًا في خواطره , بل كان البوصلة التي يُحتذى بها ونعمَ البوصلة.

المحامي حسن عبادي

10000

144

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة