لجنة الخمسين بين الوفاق والتوفيق
تاريخ النشر: 08/09/13 | 2:37أن تنوع لجنة الخمسين لوضع الدستور قد يساعد على وضع دستور يليق بطموحات شعبنا. أن "المهم هو إدراك هذه الطموحات".أرجو من جميع السياسيين ألا نعطل خارطة الطريق لأي سبب من الأسباب"، مضيفاً، "وفى هذا الإطار أدعم لجنة الخمسين وأتمنى لهم التوفيق في إنجاز دستور مصر". واجبنا الآن جميعاً أن نعد مشروعاً واضحاً بكل مقترحاتنا وملاحظاتنا لمشروع الدستور، لنلزم زملاءنا بالتعبير عنه داخل لجنة الخمسين". أن اللجنة خلت من ممثل للطرق الصوفية وآل البيت ومن أي ممثل للقبائل العربية، وهو ذات النظام الذى طبق عام 2011 وسبق القضاء بعدم دستورية كما أنه بتخصيصه نسبة الثلث فقط للنظام الفردى قد أدى إلى التوسيع الشديد فى حجم دوائر النظام الفردى لتضحى دوائر عملاقة تضم أربعة أقسام أو مراكز، وهو ما يعطى مزية هائلة لمرشح الحزب الذى يتمتع بقدرات مالية فائقة -كحزب الحرية والعدالة- على حساب المرشحين المستقلين ومرشحى الأحزاب الأقل تمويلًا، وهو ما يفتح الباب أمام الرشاوى الانتخابية أو على الأقل يزيد من كلفة الدعاية الانتخابية على نحو ضار بالديمقراطية، هذا فوق ما يؤدى إليه الاتساع الشديد لدوائر الفردى من تشتيت للناخب نتيجة لكثرة عدد المترشحين من أبناء تلك الدوائر العملاقة ثم إبعاد النائب المنتخب عن سكان تلك الدائرة التى يمثلها إذ هو يلتزم تجاههم بإصدار تشريعات وتقديم طلبات إحاطة تسهم فى النهوض بدائرته. ن التصور لتشكيل الجمعية التأسيسية علي أسس سليمة، هو أن تكون في جوهرها وغالبيتها ممثلة للتيارات السياسية، وأن يكون بها قلة قليلة أخري من المتخصصين الفنيين لصياغة أحكام الدستور من النواحي القانونية والاقتصادية والاجتماعية، وذلك لأن صناعة الدستور هي في الأساس مسألة سياسية، إنها تتعلق برسم العلاقات بين قوي المجتمع الشعبية والسياسية وإدارة شأن المجتمعات من خلال تشكيل مؤسسات الحكم التي تدير المجتمع، ومن خلال تحديد علاقات هذه المؤسسات بعضها ببعض، وبين حدود العلاقات التي تجري بين الدول في عمومها وجماعات الشعب وتشكيلاته الجماعية وأفراده. مسألة الدستور هي مسألة سياسية في الأساس ثم ترد بعد ذلك الصياغات القانونية الفنية، ولأن عكس هذا التصور يجعل الجمعية التأسيسية هيئة فنية بحتة ويحتكر الحاكم الشأن السياسي والقرار السياسي من خارج الجمعية لتجعلها "لجنة فنية" تنفذ ما يرسم من سياسات من خارجها إلي جوانب أخري سياسية وقانونية. عملية كتابة الدستور الجديد هي واحدة من تجليات هذا الوضع المتراجع للثورة. فمن يكتبون الدستور، ومن يناورون في الخفاء للتأثير على عملية كتابته هم خليط من الإصلاحيين والرجعيين واليمينيين، يتخللهم عدد محدود جدًا من الديمقراطيين الثوريين ذوي النوايا الطيبة والأوهام الكبيرة. لكن من حسن الطالع أن ضعف الحركة الثورية والقوى الثورية الممثلة لها يقابله، على الجانب الآخر، ضعف في أوساط القوى المعادية للثورة، ولذلك سببان: الأول هو استمرار الغضب والحركة الجماهيريتين في مجالات وعلى أصعدة متعددة، مما منع الثورة المضادة، حتى الآن، من اتخاذ إجراءات حاسمة لتصفية الثورة، وإن لم يمنع الإصلاحيين من تمييعها ومحاولة شراء الوقت وعقد الصفقات. السلطة القديمة ترنحت تحت وطأة الحركة الجماهيرية، لكن السلطة الجديدة لم تتشكل بعد. هذا هو عنوان المرحلة وسر الصراع الذي لا ينتهي الذي تتسم به. وبالنظر مليًا إلى غابة النصوص والمقترحات والتلفيقات، وبمحاولة رد الأمور إلى أصولها، يمكننا أن نكتشف نموذجين متهالكين يتصارعان على صياغة مستقبلنا السياسي. النموذج الأول هو الفردية الليبرالية التي تمتد جذورها إلى التنوير الأوروبي، وبخاصة كتابات توماس هوبز وجون لوك، التي تبدأ من وهم العقد الاجتماعي بين أفراد مستقلين أحرار يصوغون بشكل إرادي قواعد السياسة والحكم. والمشكلة في هذا النموذج، الذي تكاثر عليه النقاد فكشفوا فساده ومحدوديته، أنه يبدأ من فرض وهمي هو حرية واستقلال الأفراد، وذلك بترويج خدعة فكرية تقوم على نزع البشر من سياقاتهم الطبقية والاجتماعية والثقافية، والنتيجة أن الادعاء بصيانة حرية البشر الذي يعدنا به الليبراليون لا تسنده أي تغييرات جذرية في شروط تحقق تلك الحرية ذاتها. الرطان الكثير حول الحرية والمساواة السياسيتين يتعايش بشكل مدهش مع لامساواة اقتصادية واجتماعية أصيلة تعيد إنتاج العبودية كل صباح. أما النموذج الثاني، الأكثر سوءًا، فقد وُلد كرد فعل رجعي على فشل وعود الفردية الليبرالية، وهو القائل بأن هناك شيئًا أهم من حرية الفرد لتحقيق سعادة الإنسان، وهو الالتزام بقيم جماعة إثنية-ثقافية-دينية ما تمنحنا روعة الاندماج في كيان أكبر يوفر لنا هوية خاصة مميزة، ومن ثم عزة وكرامة، في مواجهة الهويات المعادية الأخرى. والحق يقال إن هذا النموذج الثاني، الذي يجد صورته الأكثر بدائية في أوساط التيار الرئيسي للسلفيين، لم يبدأ بالإسلاميين ولن ينتهي عندهم. فكثير من التيارات القومية الرجعية تردد كلامًا شبيهًا، بل إن اليسار الوطني، إذا كان لهذه الكلمة من معنى، قد انجرف بشكل بائس إلى نفس النغمة بالحديث عن هوية مصرية أو وطنية تتطلب، مثلًا، الحفاظ على «أمننا القومي في مواجهة المخاطر الخارجية».لكن الأمر الطريف بشأن هذا النموذج الأخير أن أنصاره – رجال الهوية الإسلامية المتشددين – لا يهتمون مطلقًا باستمرار المضمون الاقتصادي/ الاجتماعي
للنظام القائم، هم فقط يريدون إعادة تغليف الاستغلال والسلطوية السائدين في عبوة ثقافية تعبر عن تميزنا! فكأن الاستبداد سيتغير وقعه الفظ على المستبد بهم إن تغير اسمه فأصبح الخلافة! وهكذا تخضع عملية كتابة الدستور للشد والجذب بين فلسفتين سياسيتين لا تعبران بأي حال عن الإمكانيات الجذرية للثورة، وأغلب الظن أن الشد والجذب سينتهي بتلفيق بائس مؤقت لن يصمد أمام الزمن والصعود الثوري القادم. لكن ما تحتاجه الثورة، ما يحتاجه التحرر الجذري للإنسان، هو صياغة فلسفة ثالثة تطرح نفسها كبديل قادر على المناطحة، ثم على الهيمنة، خلال مجرى الأحداث. نحتاج إلى فلسفة دستورية تنبني على الاعتراف بأن تحرر الفرد تلزمه شروط اجتماعية واقتصادية لابد من توفرها من خلال الصراع ضد أصحاب السلطة والثروة بهدف التغيير الجذري في علاقات القوة في المجتمع. نحتاج إلى فلسفة دستورية ترفض الهوياتية العدائية وتحتفي بالتنوع الإنساني على أساس من الإيمان بالمبدأ الحاكم القائل بأن «تحرر الفرد شرط لتحرر المجموع، وتحرر المجموع شرط لتحرر الفرد».الإنسان هو الهوية الأولى التي ينبغي الانتماء إليها قبل غيرها. وعندما أقول الإنسان فأنا هنا لا أقصد الكائن الفرد المتحرر من سياقاته، هذا الوهم الأنثروبولوجي الذي يروج له الليبراليون ليخفوا حقائق الحيادة الحديثة البشعة، بل أقصد تلك الكتلة التاريخية المهيأة موضوعيًا لتبني مشروع يتجاوز أنانيتها الطبقية الضيقة إلى آفاق الإنسانية الكونية الرحبة. إن التعامل مع عملية صياغة دستور جديد، يلزمه بلورة فلسفة دستورية معمقة، تعكس الأوضاع الاجتماعية المستجدة التى أفضت بالحاجة إلى إصدار هذا الدستور الجديد. فعملية وضع الدستور، ليست مجرد مهمة صياغة لعدد من النصوص فى قوالب تبدو ظاهريا قانونية. وإنما هى عملية فلسفية معقدة، الفرض فيها أنها تسبر أغوار العقل الجمعى، لأجل تجميع مصفوفة الأفكار التى تمثل خلاصة فكر هذا العقل فى المرحلة التاريخية الراهنة. فتراعى عملية صياغة الدستور: الأصول الجمعية التى يستقيم عليها كيان المجتمع ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وذاك فى إطار من الهضم الكامل لكل من الأصول العقدية للجماعة، والخبرات المجتمعية المكتسبة من نضال هذا المجتمع عبر تاريخه، منظور لهذا جميعه من منظور السياق السياسى/الاجتماعى المعاصر، ذاك السياق الذى استلزم إصدار دستور جديد. وبذلك يصير الدستور الجديد فى صيغته النهائية ملبيا غالب طموحات هذا المجتمع بجميع هيئاته، التى يتطلع إليها أفرادا وجماعات، بحيث يصير تعبيرا حقيقيا لجوهر مصالح هذا المجتمع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية التى يحسب إشباعها أهدافا عليا جامعة، لكل من يحيى داخل هذا المجتمع من أفراد ومن جماعات فرعية لكل منها انتماءاته الثقافية والدينية والاجتماعية المختلفة وجوهر هذه المهمة، هو إعادة كشف حقيق البنية التحتية للمجتمع ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، نحو ما يمكن معه بناء الأبنية الفوقية لهذا المجتمع، على أسس حقيقية صائبة، تمنح المجتمع أمنه الثقافى والاقتصادى والاجتماعى والسياسى. إذ من أهم أسباب الانهيار الدستوري، جمود الأبنية الفوقية للمجتمع وعدم تطورها مع التطور الذي يلحق أسس بنيته التحتية.