تكريم بطعم الكنافة البيتية النصراوية

تاريخ النشر: 23/12/15 | 8:26

الأخوات والأخوة.
أشعر بسعادة عارمة بهذا اللقاء وأعترف بأنّني متأثّر جدّا لدرجة البكاء. هذا التّكريم الرّاقي في مدينة النّاصرة له طعم خاصّ ومعنى خاصّ. له طعم الكنافة البيتيّة النّصراويّة.
منذ نبت الزّغب فوق شفتي رأيتُ – كأبناء جيلي- في النّاصرة دربا ومدرسة ومنارة علم وثقافة وظهرا وساحة نضال. وقلت أكثر من مرّة” أنا من هذي المدينة” كما قال ابنها خالد الذّكر وطيّب الذّكر.فشكرا لك يا مدينتي وشكرا لشعب النّاصرة وللذين ابتكروا هذا الاسم. وشكرا لجميع الحاضرين هنا الذين قدموا من المثلّث والجليل ومن المدن السّاحليّة. شكرا معطّرا لصديقي النّاقد د.رياض كامل وصديقي النّاقد د.نبيه القاسم وكلاهما ناقدان كبيران بارزان.الأوّل كما تعلمون من بلدة المغار والثّاني من بلدة الرّامة وبين البلدتين خصومة تبذّ خصومة توم وجيري. وكلّما قرأت مقالا لناقد تذكّرت ما قاله أحد الكتّاب بأنّ النّاقد والحلاق يعيشان ويرتزقان من رؤوس الآخرين. وشكرا لأخي المرّبي المعروف الصّفوريّ الوطنيّ فيصل طه الذي ذكّرني ببير الصّفا والقسطل ولم يذكرني بقصيدة امرئ القيس:أيا جارتا. وشكرا من القلب لمحمّد بيطار عودة النّصراويّ الأصيل ولسينمانا ولجمعية الثّقافة ودارة الثّقافة والفنون والمؤسّسة الأكاديميّة ومسرح الجوّال وأخي المخرج المعروف فؤاد عوض والفنّان ألبير مرعب والفنّان سمير مخول والعازفة الجميلة رناء الشّعبي والفنّانة الواعدة أريج لاون على الصورة الشّخصيّة. وشكرا لصديقي وأخي المناضل الفلسطيني الرّوائيّ الكبير يحيى يخلف الذي عرفته منذ كانت”نجران تحت الصّفر” وصادقته منذ لقائنا في روما ورافقته حتّى سمخ والبحيرة. وشكرا لدار النّشر راية ولصاحبها الشّاعر بشير شلش.
وبعد،
يقولون التالي للغالي، لرفيق الدّرب، للصّديق النّبيل، نظيف اليد واللسان، الذي أعطى وأعطى وأعطى لبلده وشعبه، للأنسان الوطنيّ، للمثّقف المناضل الذي عرف في مسيرته العواصف والرّياح العاتيّة والزّجاج والقتاد وبقي عاشقا وفيّا لبلده ولشعبه وللغته.شكر لأخي رامز جرايسي.
لا تؤاخذوني. نسيت والله يا جماعة الخير. كي أكون رجلا عربيّا ميعاريّا مُعالجا عبرت روح العصر أمام بيته أقول شكرا لأمّ عليّ وأعدها أماكم أن تكون طاولتي مرتّبة، كما أعدها ألا أقتحم عليها إمبراطوريّتها، أي مطبخ البيت، مع أوراقي لأنّ المطبخ لا يتعايش مع الكتابة.
كان لقائي الأوّل مع مدينة النّاصرة لقاء مع كتاب. وكلّما أزور النّاصرة أتذكّر عام 1951 عندما كنت تلميذا في الصّفّ الثّالث الابتدائيّ وطلب المعلّم منّي أن أقتني نسخة من القران الكريم فطلبت ذلك من أبي وأنا متردّد. فلا كتب في القرية ولا مصاحف ولا مكتبات، والوضع الماليّ على الحديدة.
ركب والدي قبيل الفجر دابّته وسافر إلى النّاصرة فطلع له النّهار عند قسطل صفّوريّة وشرب قهوة الصّباح أو الشّاي عند أحد معارفه في كرم الصّاحب.
عاد قبيل الغروب وعندما جلس على الحصير أخرج المصحف ذا الغلاف الأزرق من عبّه وقال لي: اقرأ.! نظرت إلى وجهه الأبيض المحمّر وكدتُ أقول له: لا أنت جبريل ولا أنا الرّسول. فماذا أقرأ؟ قال اقرأ سورة”سبّح” أي سورة الأعلى. فقرأت فبكى أبي وقال: الحمد لله عاد الكتاب إلى بيتنا.
وكانت الجائزة التي لا أنساها من النّاصرة. علمتُ أنّ صديقي الشّاعر شكيب جهشان، رحمه الله، يرقد في مستشفى العفولة بعد عمليّة جراحيّة لعينيه. ركبت سيّارتي لأعوده ومرّرت بالناصرة ودخلت إلى حانوت لبيع الأزهار. طلبت من البائع الشّاب باقة ورد جملية فنظر اليّ وقال:باقتان. قلتُ يا أخي أريد باقة واحدة.ردّ بحزم:باقتان. قلتُ:ليكن. وماذا يمكن أن أقول أو أتصرّف مع شابّ نصراويّ في زمن زاد فيه العنف. رتّب البائع باقة أزهار كبيرة وجميلة وقال:تفضّل. أخرجتُ جزداني لأدفع له الثّمن فقال: لا أريد نقودا منك.سألته مستغربا: ولماذا؟ لا يمكن. فردّ: ألست أنت محمّد علي طه ؟ قلتُ: نعم. قال: عندما أقرأ قصّة أو مقالا لك أتمتّع به وهذه الورود هديّة منّي اليك مقابل ما أقرأه.
تلك جائزة أعتزّ بها. جائزة بدون لجنة تحكيم.
مهنة الكتابة صعبة. لا تعرف الصّداقة ولا تعرف العيش والملح. دربها مثل الدّرب الّذي حذّرت الغوليّة منه الشّاطر حسن. درب ياخذ ولا يجيب. درب له بداية ولا نهاية له.
أنا لا أكتب لنفسي كما يقول بعض الزّملاء. أنا أكتب للنّاس الّذين أحبّهم.
أسهر وأتعب وأعرق وأكّدّ وأجدّ وأراود الكلمات كما يقول أبو فريد نبيه القاسم وألتقط الصّور وأصطاد الأفكار بسّنارتي كي أنال رضا القارئ، ورضا القارئ من رضا الشّعب، ورضا الشّعب من رضا الله.
زارني وسواس الكتابة قبل خمسة عقود واستوطن دنياي. أحيانا يكون شيطانا مشاكسا مقاتلا محاربا وأحيانا اخرى يكون طفلة تحمل قرنفلة أو باقة فلّ.
أنا كاتب.المقالة زوجتي والقصّة عشيقتي وما خنتها أبدا. وكي أستبق الوسواس الخنّاس أقول لكم أنّ زوجتي أم عليّ لن تزعل من هذا البوح لأنّها “تعرف الطّنجرة وغطاها والّذي طبّل طبّل والّذي زمّر زمّر!!”
حينما اخترت الكلمة رفيقا أدركت منذ الخطوات ألأوّائل أنّها فرس شموس تتعب فارسها، جنّيّة لا تعطي عاشقها قبلتها بسهولة، رصاصة اذا أطلقتها لا أستطيع ردّها الى بيت النّار، سيّدة مصون تأبى الابتذال.
الكلمة سيفي. حاربت فيه وأحارب التّخلّف العربيّ الّذي استوطن في حيّنا ورطن بالتّركيّة قرونا ثمّ تعصرن وتغرّب وتمدّن ثمّ تستّر أخيرا بعمامة شيخ لا ربّ له، ولا قِبلة له.
الكلمة سلاحي. قاتلتُ فيه التّعصّب الدّينيّ والعائليّ. والأفعى الطّائفيّة ذات الاسماء الحرباويّة. هي داعشيّة في مستنقع وندّافيّة قي كنيف.
الكتّابة ليست ترفًا وأنا لا أعرف أكذوبة الفنّ للفنّ فقد سرق الغزاة طفولتي وسلبوني كتابيّ الأوّل وطابتي الملوّنة الأولى وأقلامي الملوّنة وفرّقوا أترابي أيدي عرب وأيدي يهود وأيدي انكليز وتركوني عاريًا حافيًّا، فراشي التّراب ولحافي السّماء. أقسمت، ولا يوجد لاحد يمين عليّ، بدموع الزّيتون وأنفاس الفيجن والزّعتر وعناد السّنديان أن أتصدّى للظّلم والاضطهاد والاحتلال والعنصريّة والقرصنة ولو بصدري العاري.
حينما أرى قوافل الّلاجئين الجّائعين المتعبين يحملون على أكتافهم الذّلّ والقهر ويبحثون عن الأمن والرّغيف في بلاد الغرب تحملني الذّكريات الحزينة إلى ليلة 19 تموز 1948 وأنا أغادر مع أهلي بلدتنا ميعار الّتي ينام السّاحل عند قدميها وأمشي في دروب وعرة فيها الحجارة والقندول والبلان والعبهر والبُطم والسّرّيس. أعبر وادي بلان ووادي الحلزون وبير الخشب وسفوح حيدر فجرف البقيعة فسحماتا ودير القاسي فالجنوب اللبنانيّ.
في تلك الأيّام لم يقابلنا صحافيّ أو إعلامي، وما صوّرنا تلفاز. ذبحونا يومئذ من الوريد إلى الوريد كما يذبحون خروف العيد.لم يرنا أحد ولم يعلم بنا أحد. ونهضنا وقمنا مثلما قام الشّهيد الفلسطينيّ الأوّل الذي نحتفل بعيد ميلاده المجيد في هذه الأيّام.كلّ عام وأنتم بخير.
العدو هو هو يا أهلي في الشّام وبلاد الرّافدين. ولا أقول يا بدر لا رحنا ولا جينا لأنّني أرى نور الفجر الاتي من بسمة حفيدي وغمّازة حفيدتي.
دفعت الشّعوب الأوروبيّة مهر الديمقراطيّة حروبا أهليّة ومذهبيّة وحربين عالميّتين وملايين الضّحايا والاف المدن. دفعت الغالي والنّفيس ولاقت ما هو أبشع من داعش والنّصرة وأقبح من قصور آل سعدان وال ضبعان وال كلبان وأنتن من زنا قصور السّلطان وقصور مدن الأبراج.
أنا لا أبرّر ما يحدث اليوم. أنا متفائل متفائل فلن يبقى في وادينا غير حجارته. عرف هذا الشّعب العربيّ التتار وهولاكو، عرف وحشيّة الفرنجة في الحروب الصّليبيّة. عرف مشانق آل عثمان وآل نابليون وآل اللنبي وآل ترومان وآل شارون وصمد وبقي وعاش وأنجب وحرث وزرع، ويعرف كيف يقبض على رقبة النّصر ويجرّه الى ساحة الدّار ويأكل الكبّة النّية ويشرب القهوة… قد تكون المهيّلة وقد تكون التي في بال البعض منكم.
أنا شقيق المكان وأخو النّبات والشّجر، ناطور الكرم وحارس الأسماء العربيّة. أنا القابض بأناملي على كوفيّة الوطن وعقاله وقنبازة. خبّأت الضّاد في كيس الطّحين في زمن الحكم العسكريّ وحميتُ التّراب برموش عينيّ. أنا الباقي هنا عند عين العذراء وعين الصّرار وعين عافية ورأس العين وبير الصّفا لأقول لأخوتي وأهلي العائدين يا يحيّى:يا هلا يا هلا.
أنا الباقي لأقرع أجراس كنيسة البشارة وكنيسة كفر برعم، وأرفع الآذان من على مئذنة مسجد حسن بيك والجامع الأبيض ومسجد الجزّار.
أنا الباقي هنا لأزرع القمح النّورسيّ في البطّوف والملّ ومرج ابن عامر، وأقطف الزّيتون السّوريّ في الجلّيل والمثّلث والنّقب وأسند ظهري إلى سورّ عكّا وأردّد: يا خوف عكّا من هدير البحر.
أنا أحبّ عائلتي وجيراني وشعبي وجميع النّاس ولكنّي أكره الظّالمين والمحتّلين.
أنا واحد منكم وقلمي مسخّر لكم. أنا لكم وأنت لي فاسمحوا لي أنّ أقبّل جباهكم وأبوس عيونكم.
وتصبحون على خير ومحبّة!!

محمد علي طه
• كلمة الكاتب في حفل التّكريم الكبير والرّاقي الّذي أقامته له المؤسّسات الثّقافيّة في قاعة سينمانا في مدينة النّاصرة في 16 كانون الأوّل 2015.

m7md3le6aha

تعليق واحد

  1. كلمات فيها الانتماء والثورة والدفء والجمال!
    لا فُضَّ فوك يا أبا علي، جُد بإبداعك علينا!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة