قراءة في قصيدة “ولا أجن” للشاعر يوسي سريد

تاريخ النشر: 06/12/15 | 14:41

إنه الفن- الأدب النافذة الوحيدة للإنسان كي يتطلع الى بنيان روحه ومعالم إنسانيته، كي يكتشف الشراكة في الدم والآمال والهموم. إنه المكان الذي يتم فيه التحرر من السواد الذي يقتحم القلب من آن الى آخر. بالأدب السامي العالمي وحده ممكن طرد ذباب الظلام المحيق الذي يراكم أوساخنا وأقذارنا. وربما كان استنبات غريزة الفن- الأدب في الهولة البشرية هو الفعل الوحيد الآخر الذي يوازن قطب الظلام ذلك ليحد منه ومن انتشاره.
هل يكتب الأعداء الشعر وهل يتذوقونه؟!
قدم الشاعر فاروق مواسي، في جريدة كيكا، مترجما قصيدتين للشاعر الإسرائيلي يوسي سريد، وهما “ولا أجن” و”قطعة لأمريكا”.

هنا قراءة لقصيدة ولا أجن.
جاءت القصيدة من مقطعين. المقطع الأول هو عن غسيل قذر يتعرف إليه الشاعر- فيبحث عن قوة التنظيف، المثابرة الكونية. والمقطع الثاني يبدو للوهلة الأولى بأنه لا يمت للمقطع الأول بصلة. إنه عن بقرة ضائعة، سوادها من سواد الليل. وهنا في هذا المقطع نكتشف إشارة تعليق وحبكة تربطه مع المقطع الأول، إشارة البحر!
في المقطع الأول يحار الشاعر من غسيله القذر وأين يعلقه. وهناك لا مكان قريب للتعليق سوى خط الأفق البعيد.
” الغسيل القذر الذي أتعرف إليه من الرائحة، وهو لي الآن، علي أن أقرر أين أعلقه وخط الأفق البعيد- بالتأكيد- يبدو لي”
وهذا الغسيل، الثياب القذرة، يتعرف إليه الشاعر عن طريق حاسة الشم. فهو لا يراه، ذلك لأن الغسيل في مكان معزول، وراء جدار. يطلب للتعرف إليه حاسة تجتاز الحواجز، حاسة سحرية تخترق الباطن كي تنفذ نحو اللا باطن. وهناك توازن فني بين شم رائحة الغسيل المتوارية خلف الجدران وبين خط الأفق البعيد، بيـن الغسـيل (الرائحة ) الذي له وبين خط الأفق البعيد الذي يبدو له أيضا. هذا الامتلاك – للرائحة ولخط الأفق البعيد معا، هو حاجة الشاعر للوصول الى غاية التنظيف الكوني. كان دوما يؤمن بقوة تنظيف البحر حتى إن كان وسخا. فالتنظيف يحتاج الى صيرورة ومثابرة فرك. وينتهي المقطع الأول كي نفاجأ بتلميح أن الغسيل هو غسيل مختلف، ليس غسيل ثياب بل غسيل آخر- ربما الروح لأنه سيعلق عينيه وينتظر:
” دوما آمنت بقوة التنظيف للبحر… هذا غسيل لا مثيل له حيث أن حركة مثابرة، كونية، تستطيع أن تفركه، والآن لدي الوقت لأن أعلق العينين- وانتظر.”
….
لولا المقطع الثاني لكانت القصيدة عادية، قصيدة تنظيف فقط. فالمقطع الثاني ينفجر بالميثولوجيا ليوسع الرؤيا، فيجعلها عميقة تتغلغل في بنيان المنطقة، في الدين والأسطورة والحلم. إنها القصيدة التي ترى المستقبل والماضي بعين الحاضر:
” يخبر مركز مراقبة السير أن هناك بقرة ضائعة قرب مفرق أحيهود، ويحذر السائقين.”
ليست بقرة هائمة منفلتة بل ضائعة. وكيف يكون الضياع ضياعا إن كانت المنطقة التي فيها البقرة معروفة ( قرب مفرق أحيهود) ؟!
إذن ليست ضائعة بالمعنى العام. أي أن المسألة ليست بحثا عن مادة ضائعة تنتهي في حال العثور عليها، بل هي أكثر من ذلك. لدينا في هذا البيت رمزان لهما مكانة هامة في الأسطورة اليهودية ألا وهما البقرة والضياع. ولقد وحد الشاعر رمزين لا يمتان لبعضهما مباشرة.
إن الضياع هو ضياع النبي في الصحراء. أما البقرة فهي القربان للحصول على مغفرة الإله، ذلك كي يعيد الاعتبار للشعب المختار. ونستطيع أن نرى هنا مدى قوة هذا الارتباط التخيلي الذي جمعهما الشعر ليعبر عن مدى الأزمة التي يعيشها المصير.

” هي سوداء، والليل أسود، ولذا صعب جدا أن نلحظها. لكن الخوار الكبير
يشير الى مجالات الزمان- وهي لا نهائية”

البقرة تهيم في ضياعها. لون الضياع هو من لون الأرض والطبيعة، وهو من لون الوجود فيصعب رؤيته. لكن الصوت، الخوار، الذي يشير الى مادة الضياع هو صوت يأتي من أزمنة لا نهائية. فالضياع هنا في الأرض وفي مفرق أحيهود هو ضياع لا يكشفه إلا الصوت بل هو أعمق من ذلك لأنه يمت الى مسألة زمانية روحية، حيث تشير القصيدة إلى مجالاتها اللانهائية. إن الصوت ليلعب لعبته العميقة فهو صوت الدليل. يقول الشاعر في بيت مهم له ثقل خفي في القصيدة:
” محظور علينا أن نفترض أنها بقرات مجنونة فقط لكونها ضائعة. ولو أن سبب ضياعها مجهول” فوجود هذا البيت يشكل عروة تربط الأسطورة أو أنه يضع حدودا من غير المسموح تجاوزها. أن السبب الأولي الساذج للضياع هو الجنون. لكنه محظور إطلاق صفة الجنون على البقرة ذلك لأن المسألة كلها هي تابو Taboo . من المحرم إطلاق صفة جنون على بقرة مقدسة، لكن مع هذا فأن سبب الضياع يظل مجهولا. هل تحاول القصيدة الغوص عميقا في أسباب الضياع؟! إن لم يكن الضياع بسبب الجنون، فكيف لنا أن نفسر سبب الضياع؟ ولا تفسره القصيدة بشكل مباشر! يرتبط الضياع بالسير لكن الارتباط هذا لا يأتي عن طريق البقرة بل عن طريق السير. لقد اخبر مركز مراقبة السير بالضياع ويحذر السائقين عن المكان فهو قرب مفرق أحيهود. لذا فعلى السائقين أن يضاعفوا من حذرهم عند هذا المفرق لا من أجل العثور على البقرة بل من أجل سلامة الطريق وسلامتهم. فالبحث عن البقرة هو هامشي، إنما التحذير يأتي لتجنب البقرة وليس للعثور عليها. فالضياع هنا ينطوي على مضمون مفارق ألا وهو الحذر.
والقصيدة تزيد الكشف حين يفكر الشاعر بأن لديه وقتًا لكي ينصت ويفهم. يقول:
” والآن لدي وقت لكي أنصت وأفهم لأول مرة”
وهنا تقريبا يدهشنا بكلمة الآن. الآن التي كان ينتظرها الشاعر حتى ينصت ويفهم! حيث فيما سبق كان الأمر مختلفا. هل الصورة هي صورة تأمل أرسلها الليل؟ وما الذي حدث وتغير حتى تكون الآن هي للمرة الأولى كي ينصت ويفهم؟ هناك عامل الإخبار جاء عن مركز مراقبة السير. ثم هناك الليل الذي ينبعث فيه الخوار الكبير. وهما، عامل الإخبار وصوت الخوار في الليل، ما كان الشاعر ينتظرهما. لأول مرة يبعث الليل نسائم خوار تدعو الى التأمل ثم الفهم! وحينما يفهم فأن المحيط كله سيتغير وتصبح الأشياء قابلة للاستيعاب. تقترب وتدنو:
“وعندما افهم؛ خط الأفق أيضا سيدنو…”
وسيقترب البحر من قمة أحيهود . وهكذا يضع الشاعر عروة تربط المقطع الثاني بالمقطع الأول، وأعني الأفق والبحر. ففي المقطع الأول كان الأفق بعيدا، وهنا يصبح قريبا. وكان هناك البحر وسخا، لكنه هنا يخور الى قمة أحيهود للتنظيف:
” والبحر يخور في علوه إلى قمة أحيهود”
فالبحر، بحر التنظيف، يصل الى قمة أحيهود، يصل بالطبع الى مكان البقرة. فالفهم والإنصات هما ما جعلا البحر يمد شطآنه للتنظيف فيصل الى مكان الضياع- الغسيل القذر الذي تعرف إليه الشاعر بالرائحة.
وأخيرا فالبقرة تريد أن تنام واقفة!
” والبقرة تريد أن تنام وهي واقفة وأخيرا لأن تقف وأخيرا لأن تنام ولا تجن.”
والنوم وقوفا فيه اجتماع حالتين لا تجانس بينهما. فالحالة الطبيعية المفهومة هي إما أن تقف وإما أن تنام، لكنها تريد الاثنين معا، النوم والوقوف، فكيف إذن لا تصاب بالجنون! فها هو الجنون المحرم يتجسد واضحا ويعلن عن سببه ويستدير في نهاية القصيدة كي يمسك بتلابيب الموقف: أن تقف وأن تنام ولا تصاب بالجنون.
لقد جاءت الخاتمة بعد حالة التأمل لصوت الليل. والتأمل هنا أهل اختراق المحظور، إلصاق حالة الجنون بالبقرة المقدسة، – ولا تجن.
ومع النظر الى عنوان القصيدة “ولا أجن” وليست “ولا تجن” نلمس التماهي بين ضمير الشاعر وبين البقرة الضائع. فالذي يحدث للبقرة هو ما يحدث للشاعر وللقصيدة.
إنها قصيدة جنون وضياع تفتح نافذة عن طريق الإنصات والفهم كي تجلي غموض الرائحة الكريهة.

حسين سليمان –هيوستن

…….

ولا أُجَنّ
شعر: يوسي سريد
ترجمة: ب. فاروق مواسي

الغسيل القذر الذي أتعرف إليه
من الرائحة، وهو لي
الآن، علي أن أقرر أين أعلقه
وخط الأفق البعيد – بالتأكيد – يبدو لي .
دومًا آمنت بقوة التنظيف للبحر
سواء عندما لا يكون ممتلئًا أو يكون ممتلئًا بالخراء
هذا غسيل لا مثيل له حيث أن
حركة مثابرة، كونية، تستطيع
أن تفركه . والآن لدي الوقت
لأن أعلق العينين – وأنتظر .
..
يخبر مركز مراقبة السير أن هناك بقرة ضائعة
قرب مفرق أحيهود ، ويحذر السائقين .
محظور علينا أن نفترض أنها بقرات مجنونة
فقط لكونها ضائعة . ولو أن سبب ضياعها مجهول .
هي سوداء، والليل أسود، ولذا صعب جدًا أن نلحظها . لكن الخوار كبير
يشير إلى مجالات الزمان – وهي لا نهائية
والآن لدي وقت لكي أنصت وأفهم
لأول مرة . عندما أفهم ؛ خط الأفق أيضًا
سيدنو والبحر يخور في علوه
حتى قمة أحيهود إلى – بما فيها هي
والبقرة تريد أن تنام وهي واقفة
وأخيرًا لأن تقف
وأخيرًا لأن تنام
ولا تُجنّ

faroqmwaseee

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة