فلسطين… في خطر

تاريخ النشر: 12/11/15 | 0:41

الأقصى ليس “في خطر”، ولا تقوم اسرائيل “بتقسيمه زمانياً ومكانياً”. ولم تغيّر حكومة نتنياهو “الستاتوس كفو” – الوضع القائم – بخصوص اعتباره ومنطقته المحيطة وقفاً اسلاميًا تملكه وتديره لجنة الأوقاف الاسلامية، وكونه تحت وصاية الملك الاردني. ولا تخطط لتنفيذ “مشروعها الاستراتيجي بهدمه وبناء الهيكل المزعوم على انقاضه”. وليس المطلوب منّا ان نهب جميعا لحمايته “قبل ضياعه” و”لنيل شرف الشهادة لانقاذه”.
الاقصى محتل لانه يقع في بلدة محتلة هي القدس الواقعة على ارض محتلة هي فلسطين. ولن يتحرر الا من خلال تحرير وطنه – وطننا – فلسطين. والذي يريد باسم الاسلام، زوراً، قصر “الانتفاضة” – (التي لا اعتبرها انتفاضة بعد) – على كونها صحوة لانقاذ الاقصى لا بداية هبة لتحرير وطني… يسيء للأقصى وللإسلام وللهبّة وللوطن.
وللذين يصرّون منذ عقود على غسل أدمغتنا، لأمر في نفس يعقوب..، وللذين يقومون منذ عشرين عاما بتنظيم مهرجانات “الأقصى في خطر”، أقول: اذا كان لا بدّ لنا من تدريج سلّم الإخطار المحدقة بنا، ما من شك عندي ان الخطر على الاقصى سيكون في أدنى درجات هذا السلم. كفاحنا من اجل التحرر الوطني والقومي هو الذي في خطر. الوجود العربي في القدس وقراها في خطر. الناس والحارات والاحياء والأرض والزرع والمؤسسات والبقاء والهوية والثقافة ولقمة العيش وشربة الماء وقبور الاموات… هي التي في خطر.
الجاري الحاصل ليس تهويد واسرلة الاقصى وانما تهويد القدس واسرلة المقدسيين. فبأي حق ولصالح من وخدمة لمن نقتصر جرائم اسرائيل على الحجر “المقدس مهمشين الجريمة الاساس بحق البشر والارض والشجر؟ وما قيمة الاقصى اذا ما بقي مبنى حجر خالياً من اهله البشر؟
اسرائيل تعي اهمية الاقصى، لذلك لن تهدمه ولا تريد تأجيج الغضب الاسلامي والعالمي عليها، بل تريد الحفاظ على احتلالها لفلسطين. وهي “تحرس” الاقصى جوّاً بالمناطيد وارضاً بالكاميرات وقوات الامن الظاهرة والمخفيّة. وأراهن انه لا مانع عندها حتى من بناء “اقصى” ثاني… شرط ان تواصل هدم فلسطين وقدسها العربية وتفريغها من اهلها العرب الفلسطينيين، مع الابقاء على بعض مصلين في الجوامع.
لم اقل كل ما سبق أعلاه من باب المس بمشاعر المتدينين، وانما من باب التحذير من الاتجار بمشاعرهم لصالح اجندة اسلاموية حزبوية تتخذ الدين وجوامعه مطية لمشروعها السياسي الفئوي. وطبعا لم اقصد بكلامي السابق اعلاه تبرئة اسرائيل من جرائمها بحق مقدساتنا، وانما قصدت تركيز الاضواء على جريمتها الاساسية الكبرى والتي منها تتفرغ جرائمها الاخرى.
ولا يخفى عنّا جميعا وجود عصابات وقوى صهيونية فاشية وشبه فاشية، بمن فيها وزراء واعضاء برلمان وقطعان مستوطنين وزعران كهانيين وسائبة “تدفيع الثمن” يحملون ويأملون بالتقسيم الزماني والمكاني لمنطقة الاقص وحتى بهدمه وبناء الهيكل. هؤلاء، بزياراتهم الجماعية واقتحاماتهم المكثفة والمتكررة للأقصى وبتصريحاتهم الاستفزازية، يريدون حرف الصراع عن كونه صراعًا سياسيًا بين المحتل والمحتلة ارضه وتحويله الى صراع ديني يخص حق اليهود بالاستيلاء على مكان يعتبرونه مقدساً وملكاً لهم.

لذلك تُخطىء الحركات الاسلاموية حين تختار اللعب في ذاك الملعب “الديني”. وهذا خطأ مع سبق الاصرار والترصد يخص الايديولوجيا السياسية الاسلاموية، لا الغباء الشخصي. بل هو خطيئة لقوى لا تريد ان ترى ان فلسطين هي التي في خطر، لا الاقصى اولاً. وما الخطر على هذا الا جزء صغيراً من كم الاخطار الكبرى على الام فلسطين، وان الصراع ليس صراعا دينياً.

قدسية القضية
منطقة الحرم الشريف وقف اسلامي. القيّم عليها دائرة الاوقاف الاسلامية، والاقصى تحت وصاية – حماية العاهل الاردني. ومن غير الممنوع او المحرّم لا على اليهود ولا على جميع السواح من العالم زيارة المنطقة. ويحق لليهود اقامة صلواتهم وطقوسهم الدينية عند “حائط المبكى”. الخلافة العثمانية- اخر خلافة اسلامية – هي التي ضمنت فرمانيًا هذا الحق لليهود، في اطار منحها للملل الدينية حق المسؤولية والاشراف على اماكنها المقدسة.
فلسطين واسرائيل توافقان على هذا، بل قامتا ايضا بمأسسة هذا الاتفاق رسميا وتعميمه على الحرم الابراهيمي في الخليل وقبر يوسف في نابلس. هذا عدا عن تأكيده في “اتفاق السلام” بين اسرائيل والمملكة الاردنية. يضاف الى هذا واجب دولة اسرائيل بصفتها الدولة المحتلة والمتحكمة في القدس – (هي تقول المحرّرة!) – ان تشرف أمنياً على منطقة الاقصى ضمانا “لأمن” جميع المصلين والزائرين. وهي تلجأ احياناً لتحديد عدد أو اجيال المصلين المسلمين، والى اتخاذ بعض الاجراءات الزمانية والمكانية خصوصا اوقات الاعياد اليهودية وفي زمن التوترات والصدامات.
بناء عليه “يحق” لاسرائيل الادعاء انها لم تغيّر “الستاتوس كفو” بخصوص الحرم الشريف. ويحق للفلسطينيين الادعاء انها ببعض الاجراءات والمحظورات التي تفرضها بحجة “الامن وضمان النظام”… هي تمس بالوضع القائم.
أمّا كاتب هذه السطور فيقول إن اساس الداء يكمن في الاحتلال. اسرائيل دولة محتلة، والاقصى جامع اسلامي محتل. وما من دولة احتلال تضمن “الستاتوس كفو” مائة بالمئة في المناطق التي تحتلها. بناء عليه المعركة على الاقصى ليست معركة على “الستاتوس كفو” وليس على التقاسم الزماني والمكاني لامكنة ومواعيد الصلوات، وانما هي معركة على السيادة، على تحريره من الاحتلال. وتكمن المشكلة الاساس ليس في المس بستاتوس كفو قديم، وانما بكون الاحتلال هو الذي اصبح ستاتوس كفو على مدى نصف قرن تقريباً منذ حزيران 1967.
لن يسود الفلسطينيون كليا على الاقصى ومنطقة الحرم عموما الا اذا سادوا على فلسطين وقدسهم. ولن يسودوا على فلسطين الا اذا ما خاضوا، بصفتهم حركة تحرر وطني، معركة حق تقرير المصير للاطاحة بالاحتلال وبناء دولتهم المستقلة. وهكذا عدنا لنقطة البدء، للمربع الاول: لن يتحرر الأقصى الا بتحرير فلسطين. وما من تحرير “للحجر” بدون تحرير البشر.
وننوّه هنا ان الأديان التوحيدية لم تقدس الحجر – المكان، وانما قدّست الله الموجود في كل مكان. والكنيسة في الديانة المسيحية هي ليست كنيسة الحجر بل “مجمع” البشر، اي حيث يجتمع الناس لعبادة الله وتقديسه (من كلمة كينيس الارامية والعبرية). و”الجامع” في الاسلام هو مكان اجتماع الناس لعبادة الله. وفقط “الاديان” الوثنية هي التي عبدت الحجر – الصنم. وبعض أبناء القبائل الوثنية العربية كانت تصنع الأصنام لألهتها من الثمر، واذا ما جاعوا أكلوها! (جملة معترضة، مرة قال لي اميل حبيبي تعليقا على هذا: هذا افضل من ان تأكلهم آلهتهم عن طريق كهنتهم باسم الدين).
والله، لو ان موضوع مقالنا هذا يخص تقديس الاسلام للبشر لا لمبنى الحجر، لأغرقتكم باستشهادات من آيات القرآن الكريم ومن الحديث الشريف للرسول محمد. لذا اكتفي بإيراد قول الرسول ان هدم الكعبة (نعم الكعبة!) حجراً على حجر أهون على الله من سفك دم المسلم، لأن دم هذا خير من تلك.
شعبنا ينزف يوميا دماً وعرقاً وتيهاً ولجوءً وقمعاً وسجناً وفقراً واستيطاناً وهدماً لبيوته ومصادرة لأرضه وقلعاً لزرعه وسرقة لمياهه وتشويهاً لهويته، ولا يرى بعضنا إلا ان الأقصى في خطر. او يصّغر كل الاخطار الاخرى امام الخطر على الاقصى. ولمعلومية هذا البعض لقد انطلقت حركة التحرر الوطني الفلسطينية من القدس قبل احتلال حزيران 1967. كان الاقصى يومها محرراً وكذلك القدس، اذ كانا تحت السيادة العربية الاسلامية الاردنية. اي ان كفاح شعبنا لضمان حق تقرير مصيره واستقلاله لم يكن كفاحا لتحرير الاقصى، ولا مقتصراً على الاماكن المقدسة مهما بلغت قدسيتها.
صرّحت وكتبت مؤخراً عدة شخصيات اسرائيلة رسمية حكومية وبرلمانية وإعلامية واكاديمية متخصصة بالعرب ان المفتاح للحل وللخروج من دائرة التوتر والعنف ولضمان التهدئة… موجود في الاقصى. وانه بالإمكان عبور الأزمة الجارية بواسطة طمأنة الفلسطينيين ان اسرائيل لن تغيّر “الستاتوس كفو” في الحرم الشريف (لذا اصدر نتنياهو امراً بمنع وزراء واعضاء برلمان وآخرين من زيارة المكان).
عمليًا تقول اسرائيل انه لا توجد لا قضية احتلال ولا مسألة حق تقرير مصير لشعب ولا قمع واستيطان ولا اغلاق الأمال والأفاق بحل سياسي قريب وعادل،الامر الذي ولّد اليأس والنقمة والحراك المقاوم. توجد فقط قضية دينية، يوجد فقط الاقصى، والأقصى فقط ، و”افتراء” العرب بأنه يجري تغيير الستاتوس كفو بخصوصه. فهل تسمعون وتقرأون هذا يا “مشايخ” وصغرتم وحجمتم وعلبتم وحصرتم قضيتنا الوطنية في مربع وقفص ديني مفتعل؟ ومتى يسمع ويقرأ هذا علمانيون وقوميون ويساريون عرب (بمن فيهم بعض برلمانيينا العرب في الكنيست) الذين “يستشيخون” جبناً او/و انحناءً امام الرأي “السائد” في الشارع، او نفاقاً واذناباً.
اريد ان اقول بصراحة وبدون تأتأة، ودون ان اخشى لوم مفترٍ وتهديد مارقٍ،، لا تبدأ قضيتنا الوطنية الجامعة عند جامع الاقصى او عند كنيسة القيامة ولا تنتهي عندهما. ولا يمكن اصلا تحريرهما دون تحرير وطنهما- وطننا. وعموما لا استسيغ إضفاء صفة القداسة على اي امر مادي محسوس، بشراً كان ام طبيعةً. اتركوا القداسة لما تعتقدون بوجوده ما وراء الطبيعة – للميتافيزيكا. لكن ما دمتم تصرون على تقديس الموجود مادياً، اقول لكم: قدسية القضية الوطنية اقدس بما لا يقاس واولى واسبق من قدسية القيامة والاقصى والقدس معاً.

تديين القضية وتطييف السياسة
أحترم حق وحرية المؤمنين في تقديس الاماكن المقدسة بعرفهم، من كُنس وكنائس وجوامع ومزارات. واعرف ما لهذا من تأثير ومخزون عقائدي وتراثي وتاريخي وثقافي يساهم في بلورة الامة وتكوينها كأمة. واحرص، انا العلماني، في زياراتي المتكررة للقدس، على زيارة جامع الاقصى وكنيسة القيامة. أجلس في ظلهما فيحتضنني قرع اجراس الكنيسة:”… وعلى الارض السلام، وفي الناس المسرة”، مختلطًا بنداء مآذن الجامع:”… حيّ على الفلاح”. فأجدني اردد “الارض بتتكلم عربي، الارض”. ويمتلىء صدري بعبق أصالة وعراقة تاريخي القومي – الوطني والانساني. واحمله في عقلي وقلبي زاداً روحياً يساعدني على مواجهة تاريخ عابر لدولة دخيلة محتلة ومارقة تظن، بسبب فائض قوة قوتها، انه بامكانها أبداً ترجمة جغرافية وتاريخ وانسان المكان للعبرية.
يعتبر قادة الدولة العبرية ان الصراع الجاري حاليا صراعا دينياً اثاره الاسلام الاصولي المتطرف والارهابي بهدف السيطرة على المنطقة ومنع اليهود من ممارسة حقهم في الصلاة والعبادة في اماكنهم المقدسة. اي ان الصراع، بعرف اسرائيل، صراع لدولة علمانية حضارية تضمن حرية الاديان ضد من يسعى لقتل ابنائها وذبحهم بالسكاكين باسم الدين. واسرائيل بخوضها هذه المعركة الاضطرارية تدافع عن نفسها وعن الحضارة الاوروبية في مواجهة ارهاب الاسلام المستشري في العالم العربي ويهدد العالم أجمع.
الغريب العجيب المثير للاشمئزاز ان بعض “مشايخنا” والحركات الاسلاموية الاصولية، بتصريحاتهم وممارساتهم، يتبرعون بتقديم “الاثبات” لفرية اسرائيل هذه بحق الاسلام وبحق حقيقة الصراع. صرّح البعض: “الانتفاضة من اجل الاقصى،ويجب الانتصار للاسلام، وذبح اليهود اولاد الخنازير والقردة. والحل اقامة دولة الخلافة الاسلامية”. ويطمئننا “مستشيخ” ما ان اقامتها وازالة دولة اسرائيل اصبح قاب قوسين او ادنى، وان القدس ستكون عاصمة الخلافة.
حتى المقاومة اصبح اسمها “المقاومة الاسلامية”. ولتسمية “القوى الوطنية” اصبح يضاف “والاسلامية”. هكذا اصبح يسميها حتى بعض القوميين الديمقراطيين واليساريين والليبراليين! هذا علماً بان المقاومة هي المقاومة في كل زمان ومكان ولدى اتباع اي دين كان. مقاومة ضد الغبن والاحتلال ومن اجل الحرية والاستقلال والعدالة الاجتماعية ، كُنتَ مسلما او مسيحياً او يهودياً او بوديا او… كافراً. وهكذا هي القوى الوطنية ايضا. لكن “الاقصى لنا نحن المسلمين. هذا ملكنا وممنوع ان تدخلوا اليه يا فاشيون ونازيون… ونحن مستعدون للاستشهاد في سبيله “– هكذا يزعق بهستيرية، حتى عضو برلمان علماني مثقف وقومي ديمقراطي!
الساعون العاملون لتديين (من دين) القضية القومية الوطنية ولتطييف السياسة يسيئون لقضيتنا الجامعة والعادلة. هذا تسييس اصولي للدين وتطييف(من طائفة) للسياسة وتشويه للمقاومة وتجريح وتفسيخ للوحدة الوطنية. وكل هذا لا يصب في نهاية المطاف الا في مصلحة الاحتلال. والساكت عن هذا، اذا كان مثقفاً وواعياً، يكون إما جباناً او منافقاً.
التسييس الاسلاموي للدين والتطبيق للسياسة، عدا عن كونه تشويهاً للاسلام ولقضيتنا الوطنية الجامعة، هو نسخ غبي للصهيونية في تسييسها للدين.”نسخ”.. لان الصهيونية ايضاً استغلت الدين اليهودي و”التوراه”وما جاء فيها عن “شعب الله المختار” وعهد الله له بمنحه “ارض الميعاد”. و”غبي” لأن الحركة الصهيونية العلمانية استغلت الدين لكنها بنت من أسباط – قبائل – اليهود الدينية شعباً، قومية، أمة. اما اغبياؤنا من مدّعي المشيخة ومدعي العلمانية فيستغلون الدين لتفسيخ شعبنا المبلور قومياً منذ مئات السنين ويحيلونه الى اسباط – قبائل دينية.
وأخيراً، عطفاً على الموضوع الذي عالجناه في الجزء الاول من هذا المقال المنشور قبل اسبوع، اضيف ان الانتفاضة حتى تكون انتفاضة شعب حقاً، يجب ان تتحرر من صبغ ذاتها بالطابع الديني الطائفي وان تكون حراكاً جماعياً وحدوياً تجمع بين مختلف فئات الشعب الواقع تحت الاحتلال بغض النظر عن انتماءاته واطيافه الاجتماعية والاهلية والدينية، وان تطرح برنامجًا سياسيًا للتحرر الوطني. ولا ادعو بهذا الى اقصاء تيارات الاسلام السياسي من الحراك الانتفاضي المشترك ضد الاحتلال، وانما الى عدم اسلمة كفاحنا الوطني الجامع من اجل التحرر والاستقلال. اقيموا الدولة اولاً، ثم أسلموها او قومجوها او شيّعوها اذا ما اردتم واذا ما استطعتم.
وماذا بخصوص البقية الباقية من الشعب العربي الفلسطيني على ارض وطنها داخل اسرائيل، وما هو الدور المطلوب منها لدعم كفاح شعبها من اجل الحرية والاستقلال؟ هذا هو موضوع المقال القادم.

سميح غنادري

sme7ghandre

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة