إعدام قتيل…

تاريخ النشر: 23/06/13 | 5:19

المجتمع ككيان معرض مثله مثل الفرد لأمراض نفسية خطيرة، وقد سبق لي بمقال سابق قبل سنوات أن دعوت لجنة المتابعة والقائمين على مجتمعاتنا لتخصيص أهمية لهذا الجانب ولتوفير متخصصيين في الطب الاجتماعي النفسي، بغية تدارك مؤشرات تؤكد استفحال هذا المرض ليأخذ موقع الأمراض المزمنة والمستقرة كما نراها اليوم، ولكن لم يلتفت أحد إلى فكرتي حينها، ولم أعجب من ذلك التجاهل في واقع ينتشر فيه المرض من الأعلى إلى الأسفل، وفي واقع يظن فيه الداعية والسياسي أن وجوده كفيل بحل كل المشكلات! ومن هنا فإن التخبطات الحاصلة ودرجة اليأس التي وصلت بالجماهير إلى حد اللامبالاة، إنما أتت هذه الحالة من محاولات تكريس الواقع بكل مراراته وتهيئته مثلما هو بكل سلبياته لخدمة المناخ والمنفعة الشخصية والفئوية على حساب المناخ العام، ومن هنا نستطيع تفسير رؤية الحل الضيق الذي تتوخاه الناس من استخراج حلة الزعيم الأوحد الذي يستطيع وفق رؤيته الفكرية ولو كانت قاصرة لفرض الحلول بكل أشكالها لأمراض متشكلة لا تقارن بحجمها اليوم مع أي تنظيم أو زعم زعيم.

إن الإشارة للخلل إلى معشر الشباب أو إلى حالاتهم الفوضوية في الشوارع وتناحرهم هناك بشتى الأشكال، لهو عين التضليل، إذا ما أشرنا للتناحر في أعلى المجتمع، فالتعامل بالسياسة يشبه التناحر وكذلك صراع الأحزاب بإضافة صراعات الإعلام وتناحر المنتديات والجمعيات الثقافية والحقوقية، كما لا ننسى تناحرات الرياضة العاصفة، ناهيك عن أن كل تلك الصراعات في حقيقتها مبنية على المادية إن كانت على أساس الأموال أو السيطرة تحت قاعدة أكون أو لا أكون، ثم تبنى على تلك الصراعات فلسفة تجيز شرعيتها رغم أن مردودات تلك التناحرات تعد مفلسة إذا ما قورنت بمقياس استفادة الناس منها أو بمقياسها مع الأدوار الحضارية المعدومة، والتي كانت لتنزل إلى صدور الجماهير بسكينة واطمئنان، للأسف ننسى كل ذلك ونتقوقع في تصرفات الشباب في شوارعنا فقط.

ثم يأتي آخر ويشير لنا إلى السارقين والمتاجرين بالممنوعات، وينسى هذا أعداد السارقين من الطبقة العليا في المجتمع، هذا الغني الذي سرق قسائم سكن الفقراء ليوسع على نفسه أكثر وليضيق على الأزواج الفقيرة وليترك الشباب دون سكن في الشوارع ثم يبدأ بالمراقبة والنقد! وهذا الذي حررت الجماهير أراضيه بالروحة وتوقعت منه أن يقتسم من أرضه المحررة أرضاً مؤممة لمصالح المجتمع العليا، ثم نراه بدل ذلك يغلق شوارع مقترحة داخل البلد ليضيق عليهم وليوسع مساحة أعصابهم من ذاك الضيق، وهذا المدير والموظف المؤتمن على مختلف المؤسسات التعليمية والطبية والاقتصادية والثقافية والتي من شأنها أن توفر المناخ الصحي العضوي والنفسي والحضاري، ثم نراه يتخذ من مصلحته العامة مدخلا للغنى الشخصي على حساب إهمال الناس والمتاجرة بهم، ثم يريدون منا أن نلاحق بكتاباتنا السارق الصغير؟ لا يا عمي نحن لا نعمل عند أحد ولا نكرس جرائم أحد، فالإجرام موجود في الأعلى أصلاً، وما يحصل بالأسفل عبارة عن نسخة معدلة بشكل سياسي حرفي خبيث، لأن الجريمة لم تبدأ بقتل القتيل، بل بدأت بشرعنة قتل القيم معنويا وعمليا منذ البداية، فتلك القوى القائمة على استخراج الخير من مجتمعنا، قتلت الخير يوم أن نظرت فقط لخيرها، ولم تستخرج لنا من أرض الواقع الذهب لأن استخراجه مضنٍ ومكلف، بل اكتفت بلملمة الحديد والذي بدأ يصدأ وبدأ يطغى بتعفنه على أرضية المجتمع وسماؤه.

إن الإنسان البسيط يختزن الكثير من الظلم ويحتبس الكثير من التناقضات التي لا يستطيع التعبير عنها، وإن استطاع فسيتصعب من البوح بها خوفا وطمعا وقلقا، لأنه بني انتخابيا وليس سياسيا، ولأنه بني تنظيميا كآلة تنفيذية ولم يبنَ فكريا، ولأن الطبقية الفوقية أقنعته بأنها العنوان الذي يستطيع من خلاله طبع جهله عليه، فلمَ إذا لا يتحمل هؤلاء الفوقيون المسؤولية كاملة، ولما نراهم يتشرذمون بالآراء إذا ما ووجهوا بالحقائق، لأننا انتقلنا من مرحلة المطالبة بمسكن للأزواج الشابة إلى مرحلة المطالبة بتهيئة مقابر للأرواح الشابة! ولأننا انتقلنا في ظل نفوذ المتنفذين من مرحلة القتل الاجتماعي إلى مراحل القتل الفردي، ولن نخلص فسيتكرر الحدث إذا ما تداركنا الوضع وبنينا منظومة ذات محصلة ثقافية قائمة على العدل الحقيقي وليس العدل المدعي الزائف، لأن مجتمعا حضاريا قادر على محاصرة كل كيد الأعداء، وقادر على فرض احترامه وقوانينه الإنسانية حتى على الشرطة والتي سببت ببنائها منظومة العداء مع جماهيرنا وتبنيها للذعر النفسي عند معشر شبابنا بعدة حوادث مجانية أودت بحياة الشابين من حي الجبارين والشاب الآخر عند مفترق البياضة نتيجة الذعر واستبدال مخالفة عادية لموت محقق!

إن بناء مجتمع منفتح متفهم محتوي حضاري، من شأنه أن يتعامل مع الإنسان بحد ذاته كقضية وليس كقصة هامشية عابرة لا عبرة فيها سوى تطرية لعاب الأفواه وتقوية عضلات اللسان، فالثقافة المناخية المعتدلة هي بمثابة الغيم الذي نرجو غيثه على المدى القريب والبعيد، لأن فرض الاحترام والتفاهم والتسامح الحاضر والتاريخي مهما بلغت مساحة الخلافات، من شأنه أن يعيد إقامة جدار أم الفحم كما كان صلبا بعدما قصف خارجيا وداخليا على مدى الكثير من السنين، وأصبح هاويا منقضا تحت شعار -القلعة لا تقتحم إلا من الداخل- لذا فلننظر لهذا الداخل بتمعن، ولنميز الأزعر الكبير قبل اصطيادنا للأزعر الصغير.

وأخيرا، فإن مشوار التعديل شاق وطويل، ولا أتوخاه باستخراج خطاب أو زعيم، وعلى الجميع أخذ دورهم والنزول لتنظيف كل الميادين، لن يكفي الواقع بناء سياسة الاستغفار والجمعة للجمعة ورمضان لرمضان كفارة، لن تنفع الخطب والشعارات وحدها إذا ما أزلنا كل المعيقات والتناقضات على حساب محاسبة الذات والمجموعة، خاصة في حوادث لطالما يتم فيها إعدام القتيل والتغاضي عن المطالبة بإعدام القاتل، فانظر إلى المشهد الفوقي بتدقيق واحسب لنا كم من إعدام تم لواقع ذبيح، إذ كيف تحرم أجيال كاملة من موقع المسؤولية ومن حقوقهم، وكيف نلوم تلك الأجيال إن اتخذت موقعاً آخراً، رضيناه لأنفسنا خلسة، ولا نرضاه لهم علنا! لذا نحتاج لإعدام هذا الواقع لنحيا من جديد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة