وطن العصافير

تاريخ النشر: 30/09/15 | 17:53

من جديد، يطل علينا الأديب وهيب نديم وهبة ليتحفنا برائعته الجديدة الموسومة بـ “وطن العصافير”(1) والتي تنضاف إلى قائمة طويلة من نتاجه الإبداعي ألمتميز، فلا جفَّ دم يراعه ولا نضب معين إبداعه. وقد تكتسب هذه التجربة الإبداعية الجديدة أهمية خاصة وقيمة مضاعفة لما تطمح إليه من تحقيق حلم البشرية جمعاء منذ الأزل، ألا وهو السلام والتعايش المنشود، لاسيما بين شعبي هذه البلاد، وما يمكن أن ينجم عنه من إسهام في تفاعل الثقافتين: العربية والعبرية، وذلك عبر الترجمة التي تعد جسرًا يصل الثقافات الإنسانية بعضها ببعض، وأداة فاعلة بالغة الأثر في التبادل الحضاري، وذلك من خلال تشجيع التقارب والمثاقفة والتواصل الفني بينهما.
من هنا أمكن القول: يعد الفن، بكافة أشكاله وتجلياته، إحدى أهم الوسائل العصرية المتاحة للتقريب بين “الأنا” و “الآخر” فيما بين الشعوب، وفيما بين شعبي بلادنا تحديدًا. ولأديبنا جهود مبذولة يمكن أن يشار إليها بالبنان في هذا المضمار.

“وطن العصافير” تجربة فنية متقدمة تشي بأديب مبدع، مرهف الإحساس والوجدان ذي خيال خصب ومدى مترامي الأطراف، لا يستطيع الانعتاق، كما يبدو، من هاجس الكتابة الذي ما يزال يلاحقه، الأمر الذي يفرض حضوره على المتلقي أو يجعله أسيرًا يسير مع النص حيث يريد أن يصل، فلا يدعه حتى يصحبه محلقًا في فضائه أو سابحًا في مائه، بحثًا عن القيمة المضافة والمتعة المشتهاة. وفي الحق، فإن المديحية والإطراء المفتعل يبقيان أحد منزلقات النقد الأدبي، مما يدعونا إلى أخذ الحذر والموضوعية والحيادية قدر المستطاع، وذلك حماية لمقاربتنا هذا النص.

تطمح القراءة الآتية، ما يسعُها الجهد، إلى تقديم قراءة تتجاوز ظاهر معنى اللغة بقصة “وطن العصافير” وصولاً إلى باطن معناها، ذلك أننا لو اكتفينا بالقراءة السطحية من دون أن نتجاوزها إلى الأعماق، لكانت القصة لا تعدو كونها مجرد قصة عادية أو مألوفة لا تأتي بجديد ليس إلا. إذًا المطلوب هو قراءة استقرائية معمقة تحاول إعادة إنتاج النص من جديد. وحسبنا أن الجواهر لا تطفو على السطح إنما في الأعماق! يقول النِفَّري: إذا جزت الحرف، وقفت في الرؤية(2)! وهو ما نصبو إليه.

في محاورتنا للنص، أول ما تواجهنا اللغة وهي اللغة العادية، ولو اكتفينا بها أو ما يعرف بظاهر اللغة لم نتوصل إلى شيء ذي قيمة تذكر، أو كما يقول الغذّامي “ولكنها [اللغة] لا تقوم كشيء ذي قيمة إلا بأن تتجاوز ظاهر اللغة فتسبر بواطنها وتستكشف تركيباتها الخفية. ولو اقتصرت على ما في اللغة فقط لكانت كمن فسر الماء بعد الجهد بالماء”(3)! وقد اصطلح على تسمية مثل تلك القراءة بقراءة الشرح وهي “قراءة تلتزم بالنص ولكنها تأخذ منه ظاهر معناه فقط وتعطي المعنى الظاهري حصانة يرتفع بها فوق الكلمات. ولذا فإن شرح النص فيها يكون بوضع كلمات بديلة لنفس المعاني، أو يكون تكريرًا ساذجًا يجتر نفس الكلمات”(4)! وليس هذا هو المطلوب من القراءة المنتجة أو المضيئة. القراءة المنتجة أو جمالية التلقي، هي القراءة الحقيقية، إنها فعلٌ إبداعيٌ ومظهرٌ ثقافيٌ، تمامًا مثلها مثل فعل الكتابة الإبداعية.

بالمقابل، هنالك ما يُسمى قراءة ما وراء اللغة وهي لغة اللغة، وهو ما يعنيه الجرجاني بـ “المعنى” و “معنى المعنى” حيث يقول “المعنى ومعنى المعنى، تعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ والذي تصل إليه بغير واسطة. ومعنى المعنى أن تعقل من اللفظ معنىً ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر”(5). وقد اصطلح على تسمية مثل تلك القراءة بالقراءة الشاعرية وهي “قراءة النص من خلال شفرته بناء على معطيات سياقه الفني. والنص هنا خلية حية تتحرك من داخلها مندفعة بقوة لا ترد لتكسر كل الحواجز بين النصوص. ولذلك فإن القراءة الشاعرية تسعى إلى كشف ما هو في باطن النص، وتقرأ فيه أبعد مما هو في لفظه الحاضر”(6).

النص الأدبي تشكل لغوي يفصح عن غير ما يقول ويضمر أكثر مما يظهر! وذلك، اعتمادًا على السياق والشفرة أهم خاصيتين في النص وهما روح تميزه. فالنص الأدبي، يُفترض أن يكون نص إشارة لا نص عبارة، ودور القارئ فيه تفسير تلك الإشارات. فهو يخبئ في باطنه حمولات متعددة أكثر مما يكشف في ظاهره، ما يعني أنه حمّال أوجه. وهذا أمر متوقف على لغة النص أو ما يسمى بـ شفرة النص، التي تتشكل من المضمون والشكل والثقافة المعرفية لصاحب النص من جهة، وعلى مهارة القارئ وقدرته على التلقي من جهة أخرى، حيث يكتسب النص الأدبي قيمته من الخلفية الثقافية والفكرية والمعرفية والطاقة الخيالية للقارئ الذي يتفاعل معه وفي تذوقه اللغة وجمالياتها، وهو يحاوره أو يعيد صياغته من جديد.

تعتمد القصة على راو عليم ينقل أحداث القصة وصورها بحسب رؤية الكاتب نفسه، الذي يتوسل من خلال قصته “وطن العصافير” الكشف لا مجرد الوصف فقط، عن غابة كانت تعج بالحياة، فيها تنتظم الأمور على أحسن ما يُرام، أو كما يقول “كانت الغابة تستيقظ على أصوات أهازيج العصافير.. وهي نشيطة فرحة مسرورة”(ص37). وفي المساء، كانت الغابة “تنام على أناشيد الوداع”(ص37) والعصافير تسرح وتمرح في وطنها “الغارق بالجمال” (ص37). وهنالك “الحطاب العجوز الذي يقطن على ضفافه [النهر] معظم فصول السنة” (ص37). لكن هذا الواقع لم يدم طويلاً، وبين عشية وضحاها تنقلب الأمور، في الغابة، رأسًا على عقب، والحياة فيها شر منقلب، فما كان لم يكن وما لم يكن كان! مما اضطر العصافير أن تولي الأدبار هاربة وتغادر وطنها، بعد أن كانت آمنة مطمئنة في وطنها، أما الغابة فكادت أن تصبح أثرًا بعد عين. ولم تعد تُسمع زقزقة العصافير كما كانت تفعل في السابق. لقد تغيّر ذلك الواقع الجميل ليصبح من الماضي السعيد، وتحول إلى حاضر مؤلم وتعيس!

في اليوم التالي، يستيقظ الحطاب على واقع جديد، الأمر الذي يدفعه وهو مستغرب إلى التساؤل فيقول “في الصباح يستيقظ الحطاب وحده بلا أهازيج العصافير.. يستغرب.. أين رحلت؟… هاجرت.. كيف ولماذا تركت الغابة تلك المخلوقات الجميلة المغردة”(ص40)؟ لم يدم ذلك الاستغراب طويلاً وجاء الجواب على جناح السرعة كالآتي “الآن يدرك الأمر.. يكتشف سر الخيالات والظلال.. يعرف حقيقة ما سمع في الليلة الماضية.. يبصر الفيلة وهي تهز جذوع الأشجار وتُسقط أعشاش العصافير فوق أديم التراب وتدوسها.. والحيوانات الأخرى تأكل.. تفترس كل ما تصادف من العصافير..”(ص40)! حتى النهر تلوثت مياهه وكانت جثث العصافير الميتة تطفو على سطحها، لتصبح مياهًا قذرة، أما التماسيح وأسماك القرش فقد أتت على الأسماك الملونة الجميلة وافترستها. باختصار سيطرت على الغابة “الفيلة والحيوانات الضخمة المفترسة والتماسيح”(ص44)، وراحت تعيث بها خرابًا وقتلاً وتدميرًا! وعندما وصل حاكم المدينة المجاورة لتفقد ما حدث للعصافير وما حلَّ بالغابة، خرجت بعض الأفاعي من أكياس الحطاب المعبئة بالفحم ولذعته، فمات من فوره. واتهم الحطاب بأنه هو القاتل! ويسأل أثناء التحقيق ما إذا كان خطط معه أو ساعده أحد؟ لكنه ينكر التهمة، ويتمكن من إقناع المحقق بوجوب البحث عن حل للمشكلة يرضي كافة الأطراف، وبالفعل هكذا كان.

كان المشهد مرعبًا جدًا لدرجة لا تحتمل! كيف لا وقد انقضّ على الغابة الوادعة ما هب ودب من الحيوانات: كالفيلة والحيوانات الضخمة المفترسة والتماسيح وتدوسها بأرجلها إلى أن “أصبحت الغابة منذ ساعات الليل الأخير حتى شروق الشمس، خرابًا ومرتعًا للموت والقتل والدمار”(ص40-41)! لم يرُق للراوي، وهو يراقب الأحداث عن كثب، ما رأته عيناه وما سمعته أذناه عن تلك الغابة، وما حدث للعصافير الوادعة من ترويع وقتل وتدمير وتهجير، لذلك تجده يقول على لسان الرجل الذي يخضع للتحقيق بأنه يعلم علم اليقين أن “الغابة هي ملكٌ خاص للعصافير”(ص63)! ولا حق لأحد بها سواهم، وما هؤلاء الفيلة والتماسيح إلا غرباء طرأوا على الغابة، ثم يضيف قائلاً: لا بد من “إرجاع الغابة كما كانت”(ص63)! لكن الغريب بالأمر، أن القارئ لم يلحظ، ولو من باب المحاولة، في أقل تقدير، أية إمكانية للمقاومة ولصد تلك الحيوانات الغريبة، أو أية إمكانية أخرى للدفاع عن النفس، من جانب العصافير، في وجه الظلم والعدوان، علمًا أن لكل طائر أو مخلوق وسيلته الدفاعية الفطرية! إنما اكتفت العصافير بأن تولي الأدبار مرعوبة لكي تنجو بنفسها وتحافظ أرواحها. لقد روّع الراوي وكل مراقب، ذلك المشهد الذي ألمّ بالغابة الوطن وهي تدمر والعصافير تُهجر فانبرى، تارة بالتصوير وأخرى بالتعبير، وهو يترجم عن ذلك المشهد بكل أبعاده وإسقاطاته على الواقع المعيش لتلك “العصافير” الضحية! كما هو معروف فإن مجال الأدب ومنطلقه هو التجربة الإنسانية وواقع الإنسان ذاته.
فجاءت “وطن العصافير” تعبيرًا أدبيًا متكاملاً عن القلق والأسى والتشظي في داخل الكاتب الحالم والرومانسي، حيث “يتغنى الرومانسيون هيامًا بجمال النفوس عظيمة كانت أم وضيعة. وتأخذهم الرحمة بالجنس البشري كله. فتفيض عيونهم بالدموع لضحايا المجتمع منادين بإنصافهم، مهاجمين ما استقر في المجتمع من قواعد… وقد يحلم الرومانسيون بمجتمع مثالي تُنال فيه الحقوق دون بذل جهود في أداء الواجبات… فالرومانسيون في أدبهم لا ينشدون الحقيقة التي تواضع عليها الناس وأقرها المنطق السائد… لأنه يعيش في عالم لا هادي له فيه سوى القلب والعاطفة”(7)! ما هو معروف أنه “لكي يكون العمل الأدبي ناجحًا، يجب أن يتوافر فيه صدق التعبير عن واقع الحياة، ودقة التصوير لمشكلات المجتمع”(8)، وهذا ما فعله وحققه الكاتب. فالأديب وكل فنان آخر هو ابن بيئته البشرية قاطبة ومجتمعه العالمي بأسره، لذا تراه يسمع ويرى ويفهم ويشعر، كما يُفترض، بكل ما يدور من حوله في هذا المجتمع البشري القرية الكونية الصغيرة، فما بالك بما يدور من حوله في مجتمعه الأصغر، أي المحلي؟! في هذا السياق يمكن أن نحيل القارئ إلى لقاء صحافي مع الراحل محمود درويش الذي يقول فيه “أنا اعتبر أن المصدر الأول للشعر في تجربتي الشخصية هو الواقع، وأخلق رموزي من هذا الواقع. فرموزي خاصة بي، حيث لا يستطيع الناقد أو القارئ أن يحيل رموزي إلى مرجعية سابقة. أي أنني أحوّل اليومي إلى رمزي. الواقع هو مصدر رئيسي لشعري”(9). وهذا إنما يؤكد مدى ارتباط المبدع، في أعماق وجدانه بالحلم الفردي والجمعي على حد سواء، ورغبته الجامحة بالتحليق عاليًا بحثًا عن فردوسه المفقود، في عالمه الافتراضي أو المتخيّل. فالمبدع له أحلامه وهو كالطائر لا يكف أبدًا عن التحليق وارتياد آفاق جديدة والتقاط الصور وتحويلها إلى لوحات فنية معبرة ومؤثرة(10)، وهو ما يُسمى توظيف التشكيل واللوحة في الكتابة القصصية.
وقد جاءت الرسومات التي أبدعتها ريشة صبحية حسن، جميلة ومعبرة ومتناغمة إلى حد كبير مع مضمون القصة. وهكذا فإن لغة القصة جاءت أقرب ما تكون إلى لغة الصور والأشكال “لأن لغة الأحلام لا تستخدم اللغة التجريدية في العبارات التي اصطلح عليها الناس بل تستخدم الصور والأشكال”(11)! مثال ذلك قوله “.. وفجأة شاهد عصفورة تحاول أن تغادر المكان ولا تستطيع.. كانت مكسورة الجناح وقد غادر رفاقها المكان. سمع آخر أنشودة لها كانت حزينة باكية.. كأنها تقول وداعًا يا وطني”(ص41)! فالصورة معبرة أصدق تعبير، ورب صورة أصدق من ألف كلمة!

يصعب على المرء تحمل هول المشهد؛ ذلك الواقع المذهل والمؤلم، جسديًا ومعنويًا، الذي حلَّ بالغابة “وطن العصافير” من قتل وتدمير، وتشريد بالقوة للعصافير، لاسيما من قبل كل إنسان مهما كانت لديه من الطاقة أو القدرة على التحمل. لقد راعه أن يرى مبادئ الحرية والعدل تنهار أمام ناظريه، وكذلك قيم الحق والخير والجمال، وتُستبدل بالباطل والظلم والشر والقهر، الأمر الذي دفعه مرغمًا إلى الإعلان عن تذمره ورفضه واحتجاجه الشديد، دفاعًا عن الحق والعدل ورفضًا للباطل والظلم، ويعلن بأنه لا بد من إحقاق الحق وإعادته إلى أصحابه، مهما طرأ من تغيرات الزمان وتحولات المكان، يقول “علينا إنقاذ المدينة وإرجاع الغابة كما كانت”(ص63)! وهكذا نرى بأن الكلمة كإعلان عن موقف، بأقل تقدير، يمكن أن تحررنا جميعًا من ذلك الواقع
المؤلم، فسحر الكلام لا يتم إلا حين يتصل بالشعور والوجدان!

يجري استحضار الحدث الذي ألمَّ بالغابة من خلال افتتاحية بجملة فعلية تحمل دلالات الفعل الماضي، يقول “كانت الغابة تستيقظ على أصوات أهازيج العصافير”(ص37)! بنبرة فيها الكثير من الشجن والأسى. لكن، سرعان ما تتداخل الأزمنة بعضها ببعض، كتطور لأحداث القصة أو كعنصر هام من عناصر الفن القصصي. وبما أن للأفعال الماضية وظائف كثيرة تتعلق بالمعاني التي تتضمنها وفق السياق فإن القارئ يلحظ أن من أبرز تلك المعاني: الحركة، والتغيير، والوصف المتحرك، والخوف، والقلق. إلى ذلك فإنها ـ تلعب دورًا بارزًا في السرد القصصي المتحرك والذي يكثر فيه استعمال الفعل الماضي الناقص كان، وهذا ما يلحظه القارئ في متن القصة. لذلك، ليس مصادفة أن يُرى الراوي ويُسمع وهو يستخدم، في الغالبية العظمى من أحداث القصة، لغة الزمن الماضي من ألفاظ ومفردات، وذلك تأسيًا وشوقًا إلى الزمن الماضي بكل تفاصيله وأشيائه الملونة والذكريات الجميلة، أيام الصفاء من ذلك الزمن الجميل الذي كانت تنعم به تلك الغابة وعصافيرها، على العكس تمامًا من الزمن الحاضر وما يلفه من وحشة وبؤس ومأساة! وللزمن الحاضر عدة وظائف معنوية، مثال ذلك: الحركية، والحيوية، والوصف، واكتساب الحياة للحدث وديمومته.

لقد استطاع الكاتب أن يصل إلى وجدان القارئ بأسلوبه الخاص، ولغته الشاعرية، التي تقوم على لغة سردية بسيطة سهلة، وقريبة إلى فهم القارئ، بحيث تتلاءم مع أحداث القصة. لغة أقرب ما تكون إلى لغة القص الحديث التي تعتمد على الرمز اللغوي المحمل عليه دلالات الواقع، بما تشتمل عليه من ترميز سهل وبسيط، لا يحتاج إلى كبير جهد ومن خلال رؤيته الفنية الخاصة، أن يجمع بين المألوف والغرائبي في الغابة، بين الماضي والحاضر، بين السلام والحرب، وغيرها من المتناقضات المتنافرة. وقد تجدر الإشارة إلى أن توظيف الرمز كأسلوب من أساليب التعبير لا يقابل المعنى ولا الحقيقة وجهاً لوجه، إنما من وراء قناع. على ذلك النحو، يكون قد خفف من حدة التعارض القائم بين العقل والخيال، وبين الواقع الموجود والحلم المنشود، فيما آلت إليه وأصبحت عليه تلك الغابة. كذلك يمكن للقارئ أن يلحظ بأن الرمز في القصة قد جاء مجمِّلاً ومكمِّلاً لأجواء القصة وأحداثها، لكونه يزيد في حركية الأحداث وحيويتها. فضلاً عن كونه متناغمًا جدًا مع الواقع الذي فرض حضوره بكثافة وقوة، فالغابة، كما يبدو، ترمز إلى الوطن، والعصافير ترمز إلى البشر، فالعصافير والطيور كافة مهما صغرت أم كبرت فإنها ترمز إلى البشر. لذا أصبح توظيف الرمز حاجة ملحة وعلى مستويات متفاوتة لدى الكتابة الأدبية الحديثة، شعرية كانت أم نثرية، لتحولها إلى صور فنية رائعة يمكنها أن تُغني النصوص وتعمقها فكريًا وجماليًا، بحيث تظهر حية وناطقة، وقد تكون جذابة ومؤثرة في سياق سردها. وتعد “جماعة إخوان الصفاء وخلان الوفاء” التي عرفت في القرن الرابع الهجري أبرز من استعمل الطير كرمز.

وهو ما يؤدي بنا في نهاية المطاف أو يحيلنا إلى فهم الرمز على حقيقته، بالإشارة إلى النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، بما يحمله من دلالات اجتماعية وفكرية وسياسية، الذي ما زال حتى يومنا يحصد الأرواح البشرية والخسائر المادية من كلا الطرفين، منذ مدة طويلة. أو كل نزاع آخر، في كل زمان ومكان، يمكن أن تنطبق عليه تلك المواصفات. من هنا، بات من الضروري، عند تحليل الكتابة الإبداعية أيًا كان نوعها، تحويلها إلى أسئلة ترتبط بالواقع وبالحاضر المعيش عبر حركة التحام وتداخل مع الواقع المعاصر، وكذلك إلى طاقة مثيرة ومؤثرة في الفكر والثقافة لدى الفرد والمجتمع سواء بسواء. الأمر الذي يدعو القارئ ويحثه على التأمل والتفكر وإعادة النظر في كل ما يحيط به من واقع معيش، لأجل البحث عن إجابات أو حلول مناسبة.

كذلك، يمكن للقارئ أن يلحظ توظيف السؤال بكثرة في القصة، باعتباره أصبح مكوِّنًا رئيسيًا من مكوِّنات الكتابة القصصية الحديثة. وذلك في محاولة من الكاتب اختراق الواقع المؤلم، وتبديد أجواء المرارة والظلام الدامس من حوله، وهو ما يلمسه القارئ في قصة “وطن العصافير”، مثال ذلك قوله “كيف جاءوا؟ وأين كانوا؟ وهل حقًا أتوا من الغابة؟… أين اختبأت الأفاعي؟ هل رحلت وتركت الحي؟ عشرات الأسئلة التي اخترقت جمجمة المحقق دون إجابات كاملة أو جزئية”(ص60). كذلك “من يستوطن الآن هناك؟ كلنا يعرف الغرباء الفيلة والتماسيح الجائعة. إذن لم يعد هنالك للعصافير وطن؟”(ص61)!.

وقد يكون من اللافت التأكيد على أن الكاتب لا يهدف أو يتطلع إلى تغيير الواقع الراهن وحسب، بقدر ما يهدف كذلك إلى تغيير الإنسان تغييرًا جذريًا، وذلك بالدعوة إلى نبذ الحرب والعدوان والعنف نهائيًا، كخطوة في الطريق الصحيح نحو تجسيد اللقاء بين الأنا والآخر وصولاً إلى إمكانية إحلال السلام والوئام بين الأطراف المتخاصمة. الأمر الذي يؤكد على رغبة الكاتب في بناء عالم جديد، وإن كان افتراضيًا أو متخيلاً. يقول الرجل (الحطاب)(12) في ذلك السياق “الحرب تعني العداوة.. والعداوة تولد النقمة والنقمة هي إعادة المحاولة في كل حرب خسرناها أو ربحناها.. الحرب هي الموت حتمًا، منا ومنهم.. أقترح السلام.. لا شيء يدوم فوق الأرض كمثل السلام.. السلام أنشودة الحياة وراية الحرية.. كلما زدنا ثقافة زدنا وعيًا وإدراكًا واقتربنا أكثر إلى السلام”(ص65)! تشي أقوال الحطاب بفكرة جديرة بالاهتمام وتدعو إلى التفكير، وهي إعمال العقل وتفعيله لا تعطيله حتى يتفوّق العقل على القوّة، فكان لا بد من فتح صفحة جديدة، ذلك لأن عجلة التاريخ لا يمكن أن تعود إلى الوراء إنما تسير دائمًا إلى أمام.

ويكون، في المشهد التاسع وهو المشهد الأخير، أن تلقى فكرة الحطاب أذنًا صاغية وقبولاً لدى المحقق، بحيث يقترح الحطاب عقب التغير الجديد الذي طرأ على واقع الغابة، وكمخرج واقعي منطقي، تقاسم الغابة مناصفة بين الحيوانات والعصافير، يقول “سوف نترك نصف الغابة للحيوانات والنصف الآخر للعصافير، وعندها سوف يسود السلام ويعم الخير علينا”(ص75)! وفكرة تقاسم المكان المتنازع عليه والقبول بالحل الوسط ليست جديدة، لكن ربما حان الوقت لتقبلها والدعوة إليها، ما يعني حقنًا للدماء وتوفيرًا للأرواح وحفظًا للأملاك. وبالفعل هكذا كان وهذا ما حدث، حيث تنتهي القصة على أكمل وجه وبأجمل صورة ممكنة، إذ يتم بها إرضاء الطرفين المتخاصمين بعد أن سادت بينهما، لمدة طويلة أجواء من النزاع والحقد والكراهية، يقول “العصافير تعود والغابة تنهض من جديد والحيوانات تتدرب وتُروض. وفي غضون أسابيع صارت الغابة مرتعًا أليفًا للعصافير والحيوانات وتم فك الحبال وإزالة الحدود وأصبحت البحيرة نقية صافية وعادت كما كانت؛ ماؤها يلمع ويبرق في ضوء الشمس”(ص77). لوحة فنية مشرقة فلا أحقاد ولا كراهية ولا عدائية، ولا قيود ولا حدود، بعد اليوم. وتكون النهاية أفضل وأجمل نهاية، ويكون أن يحل التفاهم والسلام والوئام في ربوع الغابة، بدل الخصام والحرب والعداوة، باعتبار أن السلام هو الحل الأمثل والمخرج الأفضل في مثل تلك الظروف، شرط أن يوفر للجميع حياة حرة، وعيشًا كريمًا، ويحفظ الحقوق لأصحابها، يقول الحطاب “أقترح السلام.. لا شيء يدوم فوق الأرض كمثل السلام.. السلام أنشودة الحياة وراية الحرية”(ص65)!

هوامش:
(1) وهيب نديم وهبة: وطن العصافير، دار الهدى للطباعة والنشر كريم، كفر قرع، 2014. والكتاب يشتمل على النص باللغتين العربية والعبرية معًا. في سياق متصل يمكن أن نشير إلى الشاعر نزار قباني الذي يقول في قصيدته “مواطنون دونما وطن” والتي ألقيت لأول مرة في مهرجان المربد الخامس بالعراق عام 1985:
يا وَطَني.. كلُّ العصافيرِ لها منازلٌ/ إلا العصافيرَ التي تحترفُ الحريهْ/ فهي تموتُ خارجَ الأوطانْ..
انظر كذلك: محمود درويش، الديوان، مج1، ط14، العصافير تموت في الجليل، 1969، ص245، دار العودة، بيروت، 1994
(2) محمد بن عبد الجبار بن حسن بن أحمد النِفَّري، ولد بمدينة نِفَّر الواقعة على ضفاف نهر الفرات شرقًا في العراق وإليها ينسب. كان من كبار الصوفية وتنقل كثيرا بين العراق ومصر، ومن أشهر كتبه كتاب المواقف والمخاطبات. من أشهر ما ذكر عنه أنَّه قال “كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة”! توفي النفَّري عام 375 هـ/965 م.
(3) الغذامي، عبد الله محمد: الخطيئة والتكفير، من البنيوية إلى التشريحية، ص21، النادي الثقافي، جدة، 19085.
(4) المصدر نفسه: ص76.
(5) عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز، قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر، ط3، ص263، دار المدني، جدة، 1992
(6) الغذامي، عبد الله محمد: الخطيئة والتكفير، من البنيوية إلى التشريحية، ص76.
(7) محمد غنيمي هلال: الرومانتيكية، ص18، دار الثقافة، القاهرة، دون تاريخ.
(8) عبد الواحد لؤلؤة: البحث عن معنى، دراسات نقدية، ص7، دار الحرية للطباعة، بغداد، 1973.
(9) محمود درويش: لقاء صحافي، صحيفة البيان الخليجية، دبي، 20/5/1986.
(10) ميشيل فوكو في كتابه «الكلمات والأشياء»، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1990.
(11) محمد غنيمي هلال: الرومانتيكية، ص95.
(12) ليس مصادفة أن تتكرر شخصية الحطاب باستمرار كعنصر حيوي وهام في قصة “وطن العصافير” وذلك باعتباره شخصية شعبية وبسيطة، وهو من العناصر الأساسية القديمة لاسيما في حكايات الأدب الشعبي للصغار والكبار على السواء، ومعروف أن الحكايات الشعبية هي أساس القص الحديث. والحطاب، كتوظيف فنّيّ في القصة يتم التركيز عليه، قد يوحي بأن له دورًا مهمًا في تطور القصة وتصاعد أحداثها وصولاً إلى نهايتها. لدرجة أنه يمكن أن يفاجئ القارئ بما يؤديه من دور فاعل وحاسم في القصة، على الرغم من أنه يعد شخصية شعبية وبسيطة كما سبق أن أشرنا، ولا عجب فقد يضع سره في أضعف خلقه!

وهيب نديم وهبة

0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة