خطيب الأنبياء في مواجهة الأشقياء

تاريخ النشر: 26/09/15 | 6:54

وفي سيرنا منشرحة صدورنا مغتبطة قلوبنا بأحسن القصص نعرج على أيكة عظيمة أشجارُها، وارفة ظلالها، قد أعطي أهلها من النعيم الكثير وهم في خير وفير. فيسترعي انتباهنا ويأسر قلوبنا ذلك الرجل الواقف مواجها قومه يخطب فيهم إنه نبي مرسل إليهم، إنه الذي سماه المفسرون خطيب الأنبياء لفصاحته وجزالة موعظته كما قال ابن كثير فهو يقرع الحجة بالحجة فيدمغها ويظهر زيفها.
انه نبي الله شعيب عليه السلام أرسله الله تعالى إلى قومه أهل مدين:{والى مدين أخاهم شعيبا } أرسله إليهم يحارب فيهم الجشع والطمع والحرص الشديد والأنانية إلى جانب الكفر بالله ونعمه.

وإن هذه الصفات الدنيئة والخصال القبيحة لما تتمكن من النفس البشرية وتتأصل فيها فإننا نجد صاحبها قد غشي قلبه سواد قاتم يمنعه من التفكير والتبصر في الأمور،وغطى عينيه ظلام كثيف يعميه عن الحق وأصاب أذنيه وقر يجعله لا يستمع لأي موعظة ولا دعوة فيتعدى الحدود ويطغى ويبغي ويعيث في الأرض فسادا،يحارب الفضيلة وينشر الرذيلة، يطمس الحق ويعلي الباطل، وهذا ما كان من قوم شعيب عليه السلام. قد بلغ بهم جشعهم وطمعهم وحرصهم مبلغه فأصروا على كفرهم وتكذيبهم نبي الله شعيب. خوفا على أموالهم ورغبة في تكثيرها وحرصا على زيادة ثروتهم وحمايتها بكل وسيلة ولو بالغش والخداع وأكل أموال الناس بالباطل.
ولقد جاهد شعيب عليه السلام قومه جهادا كبيرا فهم قد استشرى فيهم الكفر وجحود نعم الله عليهم، وكان جشعهم سببا في إضافة فساد آخر بينهم وهو نقص الميزان وبخس الناس أشياءهم وتجارتهم بالتدليس عليهم وخيانتهم خفية دون أن يشعروا، ثم أضافوا إلى ذلك قطع الطريق على الناس والترصد لهم لمَّا يأتون إلى بلدهم حتى يصدوهم عن اتباع شعيب بتوعدهم لهم بالقتل إن هم آمنوا معه. فيقول تبارك وتعالى:{ وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين *ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا } (الأعراف 85-86) إنه يدعوهم للإيمان وينهاهم عن فعالهم القبيحة ومعاصيهم الشنيعة ويذكرهم بنعم الله عليهم فهو الذي كثرهم بعد قلة، وأصلح لهم الأرض وأغناهم بعد فقر فيقول تعالى: { واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين } ( الأعراف 86 ) ويقول تعالى أيضا:{ والى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط * بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ } (هود 84-85 )ويخطبهم شعيب عليه السلام محذرا من سوء العاقبة والمصير ومرغبا لهم بتقوى الله ثم بالتوبة إليه فيقول تبارك وتعالى يحكي ذلك: { ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد* واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود} ( هود 89-90 ) ويقول تبارك وتعالى: {وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين } (العنكبوت 36) ويستمر شعيب عليه السلام في دعوته مبينا لهم أنه ما جاء بهذه الدعوة من الله إلا طلبا لإصلاح الفساد وتقويم العوج في سلوكهم وإنه لا يبغي ولا يطلب أجرا ولا جزاء على ذلك فهو قد تكفل الله برزقه:{ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب } ( هود 88) ويقول تعالى:{ كذب أصحاب الأيكة المرسلين * إذ قال لهم شعيب ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون* وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين} (الشعراء 176-180 ).

واستمر شعيب عليه السلام في محاججتهم ودعوتهم يبغي الإصلاح ما استطاع ولا ينكل عن رسالة الله إليه ولا ييأس. وقد رأوا أن بعض الناس قل مالوا إليه واتبعوه فهلعت قلوبهم خوفا من انتشار دينه وزيادة أتباعه، فأخذوا مرة يسخرون منه فيتهمونه بعدم البيان حتى لا يكادون يفقهون قوله: {قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول.. }(91) ويصفونه تهكما بالحليم الرشيد: { إنك لأنت الحكيم الرشيد } (هود87). ومرة يهددونه بالرجم وأنه لا يمنعهم من ذلك إلا مكانة عشيرته وقبيلته: {… وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز} (هود 91) فيجابههم شعيب عليه السلام بأن الأولى بهم بدل أن يمتنعوا عن إيذائه لمكانة قومه وعشيرته، الأولى أن يكون ذلك إعظاما لله تبارك وتعالى وإجلالا له: { قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط}(هود 92). ويستمرون في تهديده فيتوعدونه هو ومن معه بالإخراج من القرية إذا لم يعودوا إلى ملة الكفر التي قد أنجاهم الله منها، ولكن شعيبا يبين لهم أنهم لن يعودوا في ملة الكفر لأن الإيمان قد التصق في قلوبهم، وأن أمرهم بيد الله الذي يعلم كل شيء، وهم لن يفتروا على الله الكذب وهم يتوكلون عليه ويدعونه بأن يفتح بينهم وبين قومهم بالحق وينصرهم عليهم: { قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين* قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين }(الأعراف 88-89) ثم لما رأوا إصراره أخذوا يتهمونه بالسحر والكذب ثم يزيدون في تكذيبه فيستعجلون العذاب إمعانا في عدم تصديقهم له: { قالوا إنما أنت من المسحرين* وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين * فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين} (الشعراء 185-187).

ولما أن أمعنوا في الكفر والصد عن سبيل الله حتى بلغ بهم الأمر أن يسألوا نبيهم إسقاط الكسف من السماء متحدين له متهمين إياه بالكذب فقد وصلوا إلى مرحلة لا بد أن ينصر الله فيها أولياءه فيدعوهم شعيب عليه السلام إلى ترقب العذاب فيقول:{ ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب فارتقبوا إني معكم رقيب } (هود 93) ولا يطول ترقبهم حيث يأتيهم العذاب في يوم عظيم يجتمع فيه عليهم نار تحرقهم أسقطها الله عليهم من سحابة أظلتهم،وصيحة من السماء ورجفة من الأرض أسقطتهم على ركبهم جاثمين وقد خمدت أنفاسهم فكانوا عبرة لكل معتبر، ويقول تعالى في وصف هلاكهم:{ ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين * كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود } (هود 94- 95 )وقال تعالى: {فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين }( الأعراف 91).
وقال تعالى:{ فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم } (الشعراء 189 – 191).
ويقول ابن كثير قي تفسير الآية:( فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم ) وهذا من جنس ما سألوه من إسقاط الكسف عليهم فإن الله سبحانه وتعالى جعل عقوبتهم أن أصابهم حر عظيم مدة سبعة أيام لا يكنهم منه شيء ثم أقبلت إليهم سحابة أظلتهم فجعلوا ينطلقون إليها يستظلون بظلها من الحر فلما اجتمعوا كلهم تحتها أرسل الله تعالى عليهم منها شررا من نار ولهبا ووهجا عظيما ورجفت بهم الأرض وجاءتهم صيحة عظيمة أزهقت أرواحهم ولهذا قال تعالى:{إنه كان عذاب يوم عظيم }.

نعم إن الله تعالى هو العزيز الذي لا غالب له، العزيز في انتقامه من الكافرين والجاحدين والمفسدين في الأرض، فلا يظنن أحد أن الله غافل عن عمل الظالمين المستكبرين في الأرض الذين يتهددون عباده المؤمنين، فإن الله رحيم بهؤلاء المؤمنين فينجيهم وينصرهم على أعدائهم ولو بعد حين، ولو بعد تضحيات جليلة ومعاناة طويلة، ولو بعد ضريبة عظيمة من الدماء والأرواح فهذه سنة الله التي لا تبديل لها ولا تحويل في خلقه ومع حملة رسالته المخلصين في دعوته التي تكفل بنصرها وإعلائها مهما حاول أعداؤها طمسها وقهر أهلها، فأهلها هم المنصورون وهم الغالبون بإذنه تعالى.

امنه حسن

Untitled-1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة