جامعاتنا وجامعاتهم

تاريخ النشر: 12/07/15 | 18:40

الجامعات السعودية ربما تعتبر من أكبر جامعات العالم من حيثُ المساحةُ، والمباني الخاصة بها تعتبر من أفخم المباني العالمية للجامعات والأكثر تكلفة. الدعم الحكومي للجامعات السعودية ربما يكون من الأقوى عالمياً أيضاً، كذلك المنشآت التابعة للجامعات رياضية وصحية وما الى ذلك تعتبر من الافضل عالمياً ولكن لننظر الى الإنتاج؛ لا يوجد شخص سعودي واحد حاصل على جائزة نوبل فضلا عن منسوبي الجامعات! لا يوجد برنامج لدى الجامعات السعودية خاص بتسويق البحوث العلمية بين الجهات التي قد تكون مستفيدة، ولا يوجد أيضا جهاز تنسيقي يربط الجامعات بالقطاع الخاص ولو بشكل ربحي عن طريق التمويل! البحوث غالباً ما تكون صرفةً وحبيسة الأدراج لا يستفيد منها أحد، ربما حتى الباحث نفسه لا يستفيد منها! البرامج العلمية الخاصة بدراسات الماجستير والدكتوراه هي نفسها بنفس العناوين والمواد منذ عشر أو عشرين سنة! وكثيرا ما تكون بعيدة عن الواقع وحاجة الناس”( اسامة القحطاني).
تشكل الجامعاتُ العمود الفقري لاي دولة من دول العالم، سواء العالم المتقدم، أم العالم الثالث. فطالما نالت لقب ” جامعة”، فحري بها أن تكونَ عند تحمل المسؤولية المناطة بها؛ الأخذ بيد المجتمع وتنويره والصعود به الى آفاق التطور والرقي والمكانة المرموقة التي بناها عليها اصحاب القرار حين قرروا انشاءَها. ولما كانت مؤسسات التعليم العالي تضم بين ثناياها عِلية القوم من مدرسين ومفكرين وعلماء ينمازون عن الغير بزخم علمي وتفكير عقلي عالي الجودة، فليظهر ذلك جليا وملموسا على الملأ، وليأخذ بأيدي البشرية نحو التقدم الحقيقي، والهدف الذي من أجله انشئت هذه الجامعات.
الغاية من هذا المقال ليس رفعُ جامعةٍ ما أو خفضُ اخرى؛ انما اريدَ منه التباحث والتحاور والنقاش وتلاقح الأفكار فيما بين مدرسي الجامعات العربية، وغير العربية على حد سواء، حتى تعم الفائدة المرجوة بإقرار ماهيَّةِ ما تنماز به جامعات الآخر و مؤسساتنا العربية، وإزهاق الباطل الذي قد ينسب اليها- جامعاتنا- زيفاً وزوراً وبهتانا. فكاتب هذا المقال لا يقل حرصاً وورعاً عن أي غيورِ على أمته والرفع من شأنها على كل الصعد: محلية، إقليمية، أو دولية.
فالجامعات بكليتها لم توجد اساساً لتعبئة رؤوس الطلبة وحشوها وتلقينها تلقينا بحتاً بمعلومات تختزل من المراجع والكتب عن طريق المدرس، على أهميتها، إنما الأمر ابعد من ذلك وأكثر أهميةً. فإعمال الفكر والتحليق في أجواء التفكير والتفكر، هما من أسمى وأرقى انواع اكتساب المعرفة. فالسؤال والنقاش وإبداء الرأي كلها تمثل علامات الافادة مما يُتَداول في قاعات الدرس. فالتدبر والتفكيرالابداعي بتجرد، وعدم الأخذ بافكار معينة كمسلمات، لا شك سيأتي اكله الطيب ولو بعد حين.” أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها “. ولما كانت الجامعات بمثابة قمة الهرم التنويري في المجتمع، فقد باتت الحاضنة الأكثر اهمية لانتاج عقول تعمل كخلايا نحل همها الإبداع، ومزاحمة الآخر في اخذ مكانتها في مصاف المؤسسات الاكاديمية المرموقة والتي يشار اليها بالبنان.
كما ذُكر في ما سبق من اسطر، فإن الجامعات لم تُعَدُّ بشكل رئيس للحفظ والتلقين، وعلى مقولة :” هذه بضاعتكم ردت اليكم”، انما وجودها يتعلق بأمر آخر تنويري وهو الابتكار و البحوث التطبيقية المُنتجة التي على ضوئها يشعر المجتمع بأن مؤسسته الاكاديمية تدر عليه الخير الوفير، ويمكن لمس تلك الفوائد في حياته اليومية. فكم تكون فرحته وزهوه – كمواطن عربي- حين يستيقظ ذات صباح ليجد أن جامعة من جامعات وطنه العربي الكبير قد انجزت اختراعاً رائعاً – من عمل يديها – في مجال التغذية أو الطب أو الهندسة أو الفضاء اوالفلك، وغيرها، وأصبحت تُذْكر في كل المحافل الدولية وعلى المنابر الاكاديمية على حد سواء. لكن ما مدى الدعم – الرسمي وغير الرسمي – الذي تتلقاه تلكم الجامعات، للسير قدماً في الإنفاق على البحوث التطبيقية أولاً، ثم النظرية ثانيا، رغم أهميتهما.
فتحت عنوان” ثروة البحث العلمي” كتب فواز سعد ما مفاده أن جامعة أمريكية واحدة تنفق أكثر مما تنفقه الدول العربية مجتمعة. فدولة الكيان ، على سبيل المثال، تنفق ما نسبته 2.4% من الدخل القومي على البحوث العلمية، في حين أن الدول العربية مجتمعة لا تنفق اكثر من 0.3% في أحسن الأحوال؟؟!!. ففي عام 2012، انفقت اليابان على بحث واحد فقط مقدار موازنة دول اوبك مجتمعة، وهذه بحوث تطبيقية هدفها الإبداع والتقدم، ومهما انفقت عليها، فستعوض ذلك في المزيد من المبيعات من تكنولوجيا والكترونيات دقيقة، ما تفتأ تغزو العالم كل حين، وخاصة عالمنا العربي الذي أصبح سوقاً مُستهلِكةً لا منتجة. من الجدير بالذكر أن الكثير من الجامعات العالمية تتلقى مساعدات وهبات ومخصصات من القطاع الخاص، وكذلك من الموسرين الذين يقدِّرون العلم ومكانته. وبعض الجامعات الغربية، والامريكية على وجه الخصوص، تتابع خريجيها عن طريق عناوينهم الالكترونية وتحضهم على التبرع لجامعاتهم من أجل تقديم المساعدة للمتعثرين ماديا ، وللاسهام في اية مشاريع تتبناها الجامعة.هذا التبرع يساند ويدعم البحوث العلمية في الجامعات على نطاق العالم. وقبل أقل من اسبوعين من كتابة هذا المقال، فقد بادر أحد الأثرياء الأمريكيين ممن تخرجوا في جامعة هارفارد الى التبرع لجامعته بمبلغ 400 مليون دولار. هذه خطوة ممتازة لو حذا حذوها موسرو الوطن العربي، وهم كثر – وفيهم الخير والبركة على أي حال – وقدموا نسبة ما – عن طيب خاطر- من ارباح شركاتهم ومؤسساتهم أو زكاة أموالهم. لا أظن القطاع الخاص في الوطن العربي يسهم بالكثير من الهبات والتبرعات للجامعات الوطنية، ربما لاعتقادهم انها لا تصرف في موضعها من ناحية، أو انهم ليس لديهم الثقافة المجتمعية الكافية لتمويل البحوث العلمية. فالفرد الحصيف يمكنه ملاحظة مبالغ كثيرة من خيراتنا تصرف على لهو الحديث ومضيعة الجهد والوقت واقحام المجتمع في متاهات البعد عن قضايا ومسائل استراتيجية تهم وطنه الكبر ما مدى الابداع الأكاديمي وحرية التصرف والتعبير في قاعات المحاضرات الجامعية ؟
من ابسط حقوق الطالب الجامعي” الحرية والنقاش في ما يتلقاه من مادة أكاديمية في قاعة الدرس ” ، وألا يأخذ ما يتلقاه من مدرسه دون ادنى تمحيص او تدقيق، ويجدر بالمحاضر،بالمقابل، أن يحترم عقول طلبته وحريتهم في النقاش والتعليق على المادة المعطاة، فليس مقبولا منه أن يُلقي ما في جعبته ويغادر قاعة الدرس، ولا رأي إلا رأيه، ولا يريهم إلا ما يرى، مكرراً ذلك طيلة الفصل الدراسي، ثم في الامتحانات النهائية يطالب طلبته باسترجاع ما قذفه في عقولهم. فسقف الحرية – ضمن المعقول، ودون افراط او تفريط – عند المدرس والطالب يحبذ أن يكون محترماً. في أحد البرامج التلفزيونية الحوارية سأل المضيف ضيفه عن مدى حرية الاستاذ الجامعي في محاضرته، فرد بكلام لا يوحي بنسبة كبيرة. ومما قاله أن المدرس بات يحسب الف حساب لما يقول خشية أن يفسر بطريقة اخرى او يساء فهمه، ولفت الى احتمالية وجود طلبة همهم نقل ما يدور في القاعات خارج اسوار الجامعة. فالحرية في الأداء تحرك العقول، وتقدح الافكار وتقود الى الإبداع. وأهم شيئ هو منح المدرس الثقة في التصرف في قاعة الدرس. في بلاد الغرب، والى درجة ما في بلادنا العربية، قد يأخذ المدرس طلابة الى ركن من اركان أحد المطاعم القريبة من الجامعة، أو في الكافتيريا ضمن الحرم الجامعي، ويتناقش الجميع في موضوع ذلك اليوم أثناء احتساء كأس من الشاي او العصير او نحوه، ويمر الامر دون عتاب ولا مسائلة او تخوين واتهام بإضاعة المحاضرة في اللهو. فالهدف ان يتناقش الجميع في جو هادئ يكونوا مرتاحي البال والفكر والجسد. في جامعات الآخر كذلك، وفي الدراسات العليا على وجه الخصوص، ومنذ المحاضرة الأولى، يقدم المدرس نفسه وبإسهاب أحيانا، ثم يطلب من طلبته التعريف بأنفسهم لكسر كل الحواجز التي قد تحول دون التواصل الشخصي أولاً، ثم الأكاديمي ثانيا، وربما طبع اسمه و اسماءهم وسبل التواصل معهم على ورقة يتم توزيعها على الجميع، إذ ما دعت الحاجة لطلب مساعدة ما من بعضهم البعض، ولربما اوعز اليهم بمناداته باسمه الاول، في خطوة أولية لتجسير الهوة ما بين المدرس والطالب.
فالحرية في النقاش اثناء المحاضرة واحترام آرائهم وفكرهم تخلق من الطلبة أحراراً في النتاج والابتكار، وتصنع منهم ثروة في بلادهم لا تقل أهمية عن الثروات الطبيعية من ذهب ونفط ومعادن نفيسة. الابتكار لا يكون بالبحوث النظرية – مع كل التقدير- لكن العلوم التطبيقية المنتجة هي من تاخذ بيد المجتمع الى مصاف الدول المتقدمة. ولنعد الى مقدمة هذا المقال.
ماذا يختلف العقل العربي عن العقل الغربي؟ الظاهر أن لا اختلاف البتة، فهذا يفكر ويبتكر ويبحث وينشر، والآخر كذلك. ولكن الامر ربما عائد الى سقف الابداع والحرية والثقة المسموح بها. فالابنية الجميلة والمرافق الحديثة والمطاعم والمكتبات في اي مؤسسة أكاديمية شيئ جميل، لكنه ليس كل شيئ. فأُسامة القحطاني يقدم لنا خالص تجربته ورأيه عن المباني الانيقة وشهرة الجامعات. فقد أكرمه المولى زيارة العديد من الجامعات العالمية الشهيرة، ولم يجدها تميد وتفخر بالأبنية الفخمة. فجامعة اكسفورد في المملكة المتحدة في غاية البساطة والتواضع من حيث البنية التحتية علما بأنها تسجل كل اسبوع براءة اختراع في المتوسط. وجامعة هارفارد الامريكية – والكلام للقحطاني- التي طالما تربعت على قمة افضل الجامعات العالمية، هي في غاية البساطة ايضاً. أذكر في احد اللقاءات التلفزيونية مع رجل الاعمال الفاضل ” طلال أبو غزالة ” أنه – وبداعي الفضول- ذهب لزيارة جامعة هارفارد حيث كانت احدى كريماته الفضليات تدرس هناك. قدم نفسه لأحد المدرسين واستأذنه في حضور تلكم المحاضرة على قدم المساواة مع الطلبة وخرج بنتيجة مفادها ان الطلبة – ومن الدقيقة الاولى للمحاضرة – كانوا يتناقشون في موضوع تلك المحاضرة- الذي يعرفونه مسبقا حسب الخطة الدراسية – فهذا يبدي رأياً فيستحسنه آخر، أو يقف ضده آخرون. كل ذلك والمدرس يقبع في احدى زوايا الفصل الدراسي ويستمع لكل وجهات النظر، حتى اذا ما حزمهم أمر، استعانوا بخبرته ورأيه. علَّقَ د. عبدالله النفيسي في لقاء له مع قناة الجزيرة يوماً على النهضة الحياتية في جزيرة العرب فقال ان المنطقة تغص بالعمران والشوارع النظيفة وشارات المرور الكثيرة والتقدم المادي، لكن الدور العلمي مصحوبا بالبحوث التطبيقية ما زال متواضعاً. هل تأثر المبعوثون من طلبتنا الى الغرب بما وجدوه هناك، واصطدموا بواقع غير مرض حين العودة؟
هذا أمر مهم، وربما له الدور الأكبر في هجرة الأدمغة العربية. فالمبعوث الى جامعات الآخر يجد مقومات الحياة الاكاديمية المشجعة على الابداع من مراكز البحوث، الخدمات الميسرة، ووسائل التعليم الحديثة وعلى اعلى مستوى من التكنولوجيا، ناهيك عن مكتبات جامعية تغص بالمراجع وامات الكتب الحديثة والدوريات التخصصية التي قلما وجد المرء عليها ذرة غبار. كل ذلك متاح له وبايسر الطرق. فالمدرس يحتفي بطلابه ويعتبرهم اصدقاء اليوم وزملاء الغد. فهو يتجاذب معهم الأحاديث خارج الدرس ويسأل عن أحوالهم، وربما قبل دعوة أحدهم الى كوب من القهوة. فحال عودة طلابنا الى ديارهم- بعد تخرجهم- يجدون أن الأمر مختلف كثيراً. فالبيئة الإبداعية ليست كما تعودوا وَخَبُروا، والمكتبات تسودها شبه جفوة، وربما لا تحظو بكثير من أحدث المنشورات والمطبوعات من كتب ومراجع ودوريات، والانفاق على البحوث العلمية يمر ببيروقراطية مضنية، وربما في آخر المطاف مصيره الرفض، وقد يتم تعيين الخريج في منطقة نائية ليلتحق بعمل لا يمت الى تخصصه بصلة. امام هذه العوائق، وغيرها الكثير، يحن الخريج الى ايام الدراسة والتطبيق وربما العمل في جامعته الغربية، فيتواصل معهم ويفتحون اذرعهم له عالياً أنْ اقدم وأبشر، ولكم في ذلك خير مثال العالم العربي أحمد زويل، اسامة الباز، على نايفة، والكثير الكثير. لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها / ولكن أحلام الرجال تضيق. فهجرة الأدمغة من أوطانها الاصلية جعلها تعمل تحت مظلة الآخر، الذي ربما منحها جنسيته كسبيل للإحتفاظ بها حتى آخر رمق، وعندها يسير بأقصى سرعة وأعلى وتيرة في مسار البحث العلمي الذي يخدم تلك البلاد، وقد حُرمت منه بلادُه لعدم تقدير الموقف. فالبحث العلمي هو عصب التكنولوجيا الحديثة وروحها. فالصناعات الناتجة عن البحث العلمي في دولة الكيان تنوف عن 40% من صادراته، وهذا يعني أن بقاع العالم كلها باتت تستخدم هذه الصناعات بطريق مباشرة أو غير مباشرة. فبعض تقنيات الآخر التي بين ايدينا تُفشى اسرار المستخدمين من أرقام تلفوناتهم وسجلّ لمحادثاتهم. فلو كانت تلك التقنية قد صنعت بأيد عربية لكان الامر مختلفاً تماما. وهذا الابداع لا يتأتى بين يوم وليلة، لكنه ثقافة وتربية ورعاية بيتية منذ المراحل الاولى في التعليم: من تشجيع للدراسة اولا، وكثرة البحث والتنقيب في بطون الكتب التي تثري مستخدميها ثانيا. يحار المرء كثيرا حين يجد نفسه يغوص في بحر التقدم والاختراعات العالمية، ولا نصيب يذكر لبلاد أحبها وتمنى لها الخير والتقدم والابداع.
امتي هل لك بين الامم / منبر للسيف أو للقلم
أتلقاك وطرفي مطرق / خجلاً من أمسك المنصرم
نختصر الطريق على قرائنا الأعزاء ونسرد لهم ما جاش في صدر أحد الغيورين على نهضة العرب واسهامهم في صناعة المعرفة. يقول محمد قيراط :” صناعة المعرفة عند العرب ضرب من الخيال وخروج عن المنطق”. يبدو أن الامر بحاجة الى دربة لتحرير العقل من ملكة التلقين والتقوقع والتلذذ في ممارسة الحفظ للنصوص كما هي، ودون ابداع وكثير تفكر. فكثرٌ هم من قضوا ايامهم ولياليهم في حفظ مئات القصائد والامثال وقصص الخيال، والوقوف على الأطلال والبكاء لفقد الحبيب، وحفظ متاهات التاريخ، ومسالك الجغرافيا والتنقيب عن الآثار الدارسة دون أدنى تبصر وتفكر وابتكار وراء ذلك. دراسة المواد الادبية جيدة ومفيدة، ولكنها لا تقود لانتاج معرفة تقنية إبداعية، بل الى مزيد من تغوُّل الخيال والبعد عن حياة الاختراعات. هل خروج – او ربما اخراج – الجامعات العربية من التصنيف العالمي حقيقي ونزيه، أم وراء الأكمة ما وراءها؟ انني اضع هذا الامر للقارئ الحصيف، وليس لي في ذلك رأي افرضه على الاخرين. فهل انت ايها القارئ الكريم مع ما ياتي من تبرير بأن تصنيف الجامعات يشوبه شائبة او شوائب، عن قصد او غير قصد؟ لنرى فيما سيأتي .
من المستغرب أنْ لا جامعة عربية البتة تحصل على ترتيب مشرِّف بين جامعات المعمورة. فلدينا العتيد من الجامعات العريقة : جامعة القاهرة ، جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، جامعة الملك سعود وما يحمله هذا الاسم من وزن ومكانة، جامعة دمشق، جامعة بغداد ،الجامعة الاردنية ، الجامعة الامريكية في بيروت، جامعة الخرطوم وجامعات تونس، الجزائر، المغرب، جامعة الكويت، جامعة البحرين، وجامعة السلطان قابوس في سلطنة عمان …الخ. ألا من جامعة تستحق التربع على قائمة الجامعات العالمية ذات الشأن؟ ربما يكون لحق بجامعاتنا بعض الاجحاف والحيف أو النسيان، أو أن الامر يتعلق بأشياء باطنية لا نعلم منها إلا ما علمنا من منح جائزة نوبل – احيانا – لاسباب غير موضوعية. فالدكتور حسن بن فهد الهويمل ينتقد وبشدة ظاهرة خروج الجامعات العربية من مضمار السباق الدولي ويعزو ذلك لاسباب منطقية، كما يعتقد. يقول الهويمل:” هذه التداعيات اجتالت فكري، وأنا أصيخ للجدل حول ما اشيع من تصنيف مثير للجامعات العالمية، وخروج الجامعات العربية كافة في القائمة مكرس لمفهوم التخلف والجهل، كما يراه الاخوان، ولقد أصاب جامعاتنا السعودية من هذا التصنيف الجائر قرح قد أصاب لداتها قرح مثله”. ويسترسل د. الهويمل مندداً بالاسلوب المتخذ في تصنيف الجامعات العالمية ويعتبره متحيزاً لاطراف كثيرة. ولنقتبس مما قاله كذلك:” نعم هنالك تحيز في منهج البحث وربطه بجائزة نوبل، والمقالات المحكمة المنشورة في مجلات معيّنة، وتحيز للموضوعات العلمية و( التكنولوجية)”.
ويستشهد الهويمل بالحضارة الاسلامية الضاربة في العمق واحترامها وتشجيعها للعلم، وما كَتَبَتْهُ اقلام ابناء تلكم البلاد من مستشرقين منصفين، لخير دليل على ان الامر فيه اجحاف وحيف في حق جامعات عربية عريقة. لنتتبع رأي خالد الشهراني تحت عنوان:” هذا ما يحتاجه استاذ الجامعة السعودي”:
خالد الشهراني يقر بفروقات بين الأكاديميين السعوديين ونظرائهم الغربيين، ثم يتسائل عن مستوى استاذ الجامعة السعودي او الخليجي او العربي من حيث الكفاءة والذكاء. لا يجد فرقا البته، إنما البيئة التعليمية او المهنية التي عاش وتربى بها الآخر وترعرع ميَّزتْهُ عن ابناء بلادنا. يقول الشهراني:” اساتذة الجامعة أذكياء – مثل غيرهم، يحسبون تصرفاتهم بطريقة دقيقة لمعرفة الطرق التي تعود عليهم بالفائدة وبأقل تكلفة مع القيام بالمتطلبات الوظيفية من تدريس وأعمال إدارية ومتطلبات ترقية …الخ”.
وإذا عدنا ثانية الى دور المكتبات الجامعية وبحثنا عن امكانية جعلها موئلا لتهافت العقول، وذلك باجراء تغييرات تستقطب القراء بشكل أكبر، لكان ذلك مجديا بحق. نحن اليوم امام بحث اكاديمي اعده عبدالرحمن بن حمد الهذلول تحت عنوان” المكتبة الجامعية: التحول من مخازن للكتب الى قاعات اطلاع”. انه حقا بحث جميل ومفيد وبه نوع من الحداثة والتطور و يتوائم مع حياتنا العصرية وما يشوبها من وتيرة متسارعة ونفض غبار الماضي عن الاجساد والعقول. الهذلول هنا يذكِّرني بعالم لغويات امريكي اسمه” فانسلو” وهو من انصار التغيير وكسر الحواجز والقواعد، وله كتاب اسمه ” كسر القواعد”، هدفه اكتشاف نقيض الشيئ وما يخفي ،كوننا نعرف ظاهر ذاك الشيئ تماما. فالمكتبة عند الهذلول من اهم البيئات التي يتساوى فيها الطالب وعضو هيئة التدريس. هي مكان راق حقاً ليس بكثرة الكراسي او لوحات المؤسسين والمانحين، وليس بما يتيسر من تحف وقطع خزفية هنا وهناك. مكتبة اليوم شيئ آخر.
لاجل استقطاب اكبر شريحة من الطلبة والمدرسين، يرتأي الهذلول تصميم المكتبة بطوابق مختلفة، ولكلٍ غاية. بعد تصميم طابق او أكثر للرفوف وما تحمله من مراجع وكتب، يقترح انشاء طابق خاص بخدمات تريح المرتادين؛ فلا مانع من وجود ركن لحلقات النقاش ما بين الطلاب انفسهم أو مع مدرسيهم، وركن آخر لمشاهدة مادة ” فيديو ” مع توفير الاجهزة السمعية، وركن آخر للمطالعة لمن يريد في جو كهذا، وأهم ما لفت الانتباه في اقتراح الهذلول هو توفر ركن لاحتساء القهوة، إذ مع رائحتها- كما يقول- ترتاح النفوس وتبدع. ليس هذا فحسب، بل من اسباب الاخذ بأيدي مرتادي المكتبة هو وجود كتب ومصنفات جديدة تُقتطف حال نزولها للاسواق او للمكتبات، والعمل على الترويج لها بشكل دائم، ناهيك عن تمكين موظفي المكتبة من حضور دورات تخصصية للوقوف على أعلى وأسمى طرق التعامل مع زوار ومرتادي المكتبة، وبذلك تعتبر بيئة جاذبة، وليست طاردة. الشيئ بالشئ يذكر، ولإحقاق الحق، فهنا في كلية العلوم التطبيقية بعبري في سلطنة عمان، لا يتوانى رئيس مركز مصادر التعلم الاستاذ الفاضل محمود اللمكي عن رفد المركز بما هو جديد ومتاح، كما لا يفتأ يرسل الرسائل للهيئة الاكاديمية عبر بريدهم الالكتروني مستفسرا عن حاجاتهم من الكتب او المراجع او الدوريات للعمل على توفيرها لهم قدر المستطاع. كل هذا يعتبر اضافة مثلى لتزويد المؤسسة الاكاديمية بما تحتاجه من جديد المطبوعات والمنشورات. ماذا عن الطلبة الوافدين؟
ثمة أمرٌ آخر يبين مدى الفرق في الرؤية والنظرة المستقبلية من حيث استقبال الطلبة الدوليين في الجامعات. فالجامعات الغربية تعتبر هذا الأمر استثمارا لها على المدى البعيد، ليس للجامعة فقط، بل للبلد كله. فاستقطاب الطلبة من شتى انحاء العالم لا شك أنه يحقق مكسبا ماديا، ولكن الأمر المخفي أعظم. فهؤلاء الطلبة عند تخرجهم ورجوعهم الى بلادهم سيتسلم البعض منهم مراكز قيادية وهامة في المجتمع، مما يمهد الطريق للتعاون الجيد فيما بينه وبين جامعته الغربية، لما يمتلكه من تفتح في العقلية والرؤية واتخاذ القرار. ولهذا، فالجامعات الغربية، وخصوصاً الأمريكية، تسارع الى دمج الطلبة الدوليين في نشاطات طلابية محلية، ولربما خارجية، بعدما يتم تدريبهم على مهارات قيادية كتنظيم لقاءات ومؤتمرات وورش عمل تزيد من تفاعلهم مع شرائح شتى من مجتمعات كثيرة. واذا تعسر الامر في تحقيق انفتاح للطلبة الدوليين، فإن الجامعة تطرق ابوابا عدة لتليين الموقف. فقد كتب عبدالرحمن بن حمد الهذلول تحت عنوان الطلاب الدوليين.. تلاميذ اليوم وحلفاء الغد: ” يختبئ خلف هذا الاستقطاب المحموم للطلاب الدوليين غايات ثقافية وبعض الأحيان لمكاسب سياسية. الدول الغربية على سبيل المثال استخدمت أداة الابتعاث كأداة للتغيير الثقافي حال عودة الطلاب إلى بلدانهم والذي بدوره سهَّل عليهم التغلغل في الحياة السياسية وإدارتها من الباطن”. في القرن الثامن عشر ارسلت الولايات المتحدة الأمريكية بعثات طلابية الى المانيا لدراسة الطب في احدى جامعاتها، كما اردفتهم بمراقبين ورجال دين. لم يستمر الامر هناك كثيرا كون الطلبة انساقوا وراء الفكر والثقافة الالمانيتين. وهنا نقتبس كلام الهذلول مرة اخرى:” لم تستمر البعثات الأمريكية طويلاً حيث لاحظت اللجان الموكلة بالإشراف على البعثات تأثر الطلاب الأمريكان بالثقافة الألمانية تحديداً حيث أشار جيفرسون عام ( ١٧٩٤) إلى ذلك بقوله “عندما ذهب أبناؤنا لأوروبا فقدوا معارفهم وأخلاقهم وحتى صحتهم..”. في ضوء هذه الملاحظات وغيرها، أوصت اللجنة التي كان يترأسها جيفرسون بالأخذ بقرار عدم التوسع في مجال البعثات وتقليصه، والبدْء في مشروع تنشئة الجامعات الأمريكية الحديثة، وتدريس أبنائهم داخل الوطن بدلاً من تغريبهم خارج الحدود حتى أصبحت أمريكا الآن من أكثر الدول جذباً للطلاب الدوليين”. أما الجامعات العربية فلها طابع آخر.
ماذا تقدم الدول العربية على المستوى الرسمي حين انضمام الطلبة الدوليين الى جامعاتها؟ إن كانت فعلا تستخدمهم كثروة مستقبلية، لا مادية آنية، فبها ونعمت، وإلا فلا ضير من مراجعة الحسابات وتغيير استراتيجية التعامل معهم لجعلهم سفراء محبة يهشون لنا ويبشون حين تسلمهم مراكز مرموقة في اوطانهم. الغريب أن بعض مؤسسات التعليم العالي في الوطن العربي- لا يوجد تعميم هنا- لا يشعر الطلبة الدوليون بانتمائهم لا الى المجتمع المحلي، ولا الى المجتمع الجامعي. فالامر بحاجة الى إعادة نظر للعمل على صهر كفاءات المستقبل، واعتبارها مرحب بها حيثما حلت وارتحلت، ولا يجب النظر اليها نظرة دونية باعتبارها فقط “وافدة “همها الحصول على ورقة التخرج، ثم بعدها الولوج في اللامكان واللازمان، وتصبح طي النسيان، كأن لم تكن. حصول عضو التدريس على عمل في مؤسسة أكاديمية أمر بحاجة الى التوقف والتأمل قليلا.
أمر آخر أضعه أمام القارئ الكريم يتعلق بموضوع اعضاء هيئة التدريس في الجامعات سواء الغربية، أو العربية من حيث الحصول على العمل. إن كان الأمر يتم حسب الكفاءة والتميز والألمعية ودون اي وساطات او توصيات او تغول وسلب فرص الغير، فهذا هو الصواب بعينه، لأن الإبداع سيكون حليف هذه المؤسسة الاكاديمية. أما إذا تدخلت المحسوبيات والعلاقات الشخصية والإقليمية والعشائرية على حساب الكفاءة، فلا شك أن الفشل هو المنتظر، وستصبح الجامعة مدرسة ثانوية تحت مسمى مؤسسة تعليم عال. فالامر بين يدي القارئ، ويهمنا أن نسمع منه إن حدث وسمع بامر كهذا. امر آخر وثيق الصلة بما تقدم: التعيين والترشيح. فحين يتقدم عدد لا بأس به من حملة الشهادات العليا للعمل في جامعة ما، فهل يتم استقطاب المدرسين بطريقة التعيين البحت، أم الترشيح وذلك عن طريق البحث والتدقيق واخضاعهم لادق الاختبارات الاكاديمية والإدارية والشخصية؟ هذا الامر ينعكس على مستقبل المؤسسة الوظيفي التي سيلتحقون بها.
في لقاء أكاديمي بحت، وحوار راق من القلب الى القلب في مكتب د. هاشم احمد الطاهر- استاذ اللغة الإنجليزية ورئيس القسم في كلية عبري للعلوم التطبيقية، وهو بالمناسبة حاصل على الدبلوم والماجستير والدكتوراه من بريطانيا، فإنه يتمنى على الجامعات العربية أن تفعِّل دورها لقيادة مسيرة النهضة العربية المأمولة التي تراوح ما بين الاصالة والحداثة. ثم يضيف د. الطاهر بأن ذلك الأمر لن يتأتى لتلكم الجامعات ما لم تكن قواعد هذه النهضة ثابتة على هدي من مخرجات الابحاث العلمية التجريبية، سواء في مجال العلوم التطبيقية أو الدراسات الإنسانية.
مساء 10/6/2015، تطرقت قناة ” سفن ستارز ” الاردنية الخاصة في حوار مع عطوفة ا.د عبدالرحيم الحنيطي- عضو مجلس وزارة التعليم العالي في الاردن، ومدير هيئة الإعتماد الأكاديمي- وسعادة د. يعقوب ناصر الدين- عضو مجلس امناء جامعة الشرق الاوسط في الاردن- تطرقت الى دور المؤسسات الرسمية الاردنية في التركيز على ” مهننة” بعض التخصصات في المملكة. ومحصلة هذا اللقاء هو ثورة بيضاء تقودها وزارة التعليم العالي قريبا لتوفير تخصصات مهنية لا ترفد المملكة بالمهنيين فحسب؛ بل يعم أثرها أقطار الوطن العربي برمته. أثنى بدوره سعادة د. يعقوب ناصر الدين واعتبرها خطوة راقية في مسيرة الإصلاح في منظومة التعليم العالي بشقيه: الحكومي والخاص.
ما سبق هو موضوع للنقاش البحت، وتحريك للماء الراكد، وتلاقح للأفكار في ما بين الأكاديميين، وكل مهتم بهذا الشأن. فمن قدم إضافة هنا أو هناك، أو اقتراح أو توصية، فجزاه الله كل خير، ما كان يهدف الى الأخذ بيد أمتنا العربية- التي نفخر بالإنتماء اليها- والنهوض بها ووضعها على المسار الصحيح؛ مسار التميز والتنافس مع الآخر وجامعاته. نحن بشوق لمقترحات تساعد في إنارة الدرب بشكل اكبر لمؤسسات التعليم العالي العربية لتشرق شمسها بقوة، ” وما ذلك على الله بعزيز” صدق الله العظيم.

يونس عودة – الأردن

kk

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة