لمساتٌ فنّيّةٌ في مجموعة “فراشة الحواسّ” للأديبة آمال غزال

تاريخ النشر: 21/03/15 | 19:39

تحفلُ مجموعة (فراشة الحواس) بحزمةٍ من التقنيّاتِ الأسلوبيّة والأيقوناتِ الفنّيّة، الّتي تستحقُّ مُعاينةٍ نقديّةٍ جماليّة، وقد اخترت أربعَ تقنيّاتٍ أسلوبيّةٍ فنّيّة، وختمتُ مُعاينتي للكتاب بموقفٍ نقديّ.
1* التّناص: التناص كما يُعرّفُهُ النّقّاد: أن يتضمّنَ نصٌّ أدبيٌّ ما نصوصًا أو أفكارًا أخرى سابقة عليه، عن طريقِ الاقتباسِ، أو التّضمين، أو الإشارة، أو ما شابه ذلك مِن المقروءِ الثّقافيّ لدى الأديب، بحيثُ تندمجُ هذهِ النّصوصُ أو الأفكارُ معَ النّصّ الأصليّ، وتندغمُ فيه، ليتشكّلَ نصٌّ جديدٌ واحدٌ مُتكامِل. ويتوزّعُ التّناصُ في حنايا كتاب (فراشة الحواسّ) على مرايا فكريّةٍ وأطيافٍ وجدانيّة، فهو يختزلُ رؤًى ومشاعرَ مُكثّفةً مِن خلال استحضارِهِ لنصوصٍ أخرى، تتجسّدُ فيها أحداثٌ حيّةٌ مَوشومةٌ في الذّاكرة، أو تتجسّدُ فيها شخصيّاتٌ اسثنائيّةٌ كتبَتِ التّاريخَ الإنسانيَّ بمواقفِها وإنجازاتها. وقد تجلّى التّناص بثلاثةِ أشكال؛
الأوّل: التّناص التّاريخيُّ الّذي تَشكّلَ في قول الكاتبة : (أين أنتم؟.. أين هم؟.. أين نحن؟/ أين أحفاد صلاح الدّين؟/ أين صلاح الدين؟)، فهي تستدعي شخصيّةَ صلاح الدين الأيّوبيّ، لمَلْءِ فراغٍ في فضاءٍ يَخلو مِن بطولة صلاح الدين، ويَخلو مِنَ المَناقبِ الجهاديّةِ لمثل هذا الرّجُل، الّذي أضحى أيقونةً رمزيّةً تُضيءُ الذّاكرةَ في سراديبِ الضّعفِ والهوان. وتكرارُ الاستفهام في سِياق التّناص يُعبّرُ عن أمنيةٍ وحُلمٍ يَسكنانِ الوجدان، ويُثيرانِ الذّاكرةَ والذّهن؛ فالكاتبة تسألُ تارةً عن صلاح الدين نفسِه، بحثًا عن قائدٍ يَسُدُّ الفراغَ الّذي خلّفَهُ صلاحُ الدّين، وتسألُ تارةً أخرى عن أحفادِ صلاح الدّين، رغبةً في ظهورِ جيلٍ يَحملُ الجيناتِ الجهاديّةَ ورايةَ الخلاصِ والتّحرير.
**الثاني: تناصٌّ سياسيٌّ يَبرُزُ في قولها: (وحدها ميادين التحرير/ هي الهدف والبوصلة/ فاهنأ يا عدوّي واسترِح/ نَمْ قريرَ العين لا تَخَفْ/ فمنذ اليوم قد وجّهتُ بندقيّتي/ ولن اصطادّ بها إلّا داخلَ حديقتي). التّناص مُرَكّبٌ مِن فضاءيْن سياسيّيْن مُتناقضيْن، يُشكّلانِ عبقَ الكرامةِ وعطرَ النّصرِ والتّحرّرِ مِن جهة، ووخزًا في الذّاكرةِ ووجعًا في خاصرةِ الضّميرِ مِن جهة أخرى، فميدانُ التّحريرِ في القاهرة فضاءٌ، يُشكّلُ في وعينا وفي تفاصيلِ الخطاب الثقافيّ رمزًا للتّحرُّرِ والثّورةِ على الظّلم، وساحةً شَهِدَتْ سقوطَ فرعون مصر المُعاصِر، وتَحطيمَ الصّنم الأكبر، وتوجيهُ بنادقِنا إلى حدائقِنا فضاءٌ سياسيٌّ آخرُ، يَستحضرُ صورةً قاتمةً للاقتتالِ الفلسطينيّ، الّذي ما زالتْ أعراضُهُ ومُضاعفاتُهُ تنتظرُ العلاجَ والشّفاءَ باستكمالِ استحقاقاتِ الوحدةِ الوطنيّة.
***الثالث: تناصٌّ دينيٌّ يَتمثّلُ بقولِ آمال غزال: (أرض المحشر والمنشر أنتِ/ ستكونين الأمل/ وهُم زوال/ كعاصفةٍ في أيلول/ أو سحابة دخان)، فأرضُ المَحشر والمَنشر تناصٌّ يَستحضرُ خطابًا عقائديًّا راسخًا في وجدانِنا، ويَستحضرُ خطابًا فكريًّا حيًّا في أذهانِنا، بأنّ أرضَ المحشر والمنشر هي القدس في حديثٍ مَنسوبٍ إلى الرسول عليه السلام، فعن ميمونة بنت سعد مولاة النبي (صلى الله عليه وسلم) قالت: يا نبيَّ الل،ه اِفتِنا في بيت المقدس، فقال: أرض المحشر والمنشر.
2* النّسيجُ الفنّيُّ للصّورة: تبرزُ في مجموعة (فراشة الحواس) تقنيّاتٌ أسلوبيّةٌ تتّصِفُ بتكاملٍ وانسجام؛ إذ تتخلّقُ عناصرُ صورةٍ فنّيّةِ في رحمٍ دلاليٍّ فنّيٍّ واحدٍ، مِن خلالِ الانسجام في الماهيّة وتآلفِ العناقيدِ التّصوّريّة، فنقرأ من مجموعة (فراشة الحواس): ربّما يمنحنا الزمنُ لحظةً/ لحظتيْن من غفوتِهِ/ يَمضي بنا إلى الأعماق/ نمتطي جوادَ القمر/ إلى لقاءٍ أزليّ/ ترقصُ فيه النجومُ/ مُترنّحةً في صدرِ السماء/ يُزيّنها الفرحُ بأكاليلِ البنفسج/ والكواكبُ تشهدُ عرسَ الكونِ من جديد/ الغيماتُ تلبسُ ثوبَها الأبيض/ يُباركُها شيخُ المطر.
حينما نتأمّلُ ما تقدّم، نجدُ أنّ الصّورةَ الفنّيّةَ تتشكّلُ مِن عناصرَ سماويّةٍ، وكأنّ حُلمَ الكاتبةِ وانتظارَها لمستقبلٍ واعدٍ مُشرقٍ، قد استمدّ مُفرداتِه وتفاصيلَهُ مِن بشائرِ السّماءِ وجماليّاتِ النّجومِ، وبهاءِ القمر وإشراقاتِ الكواكب وخصوبة الغيوم وعطاء المطر. ولا يخفى أنّ هذهِ الدّلالاتِ الإشراقيّةَ في السّماء، هي ذات الدّلالات الّتي تُشكّلُ الفضاءَ الوجدانيّ للكاتبة، وهو وجدانٌ تجلّتْ إشراقاتُهُ وفرحُهُ المُنتظَرُ في الصّورةِ السّماويّة الّتي أشرتُ إليها. ولا يَقتصرُ الجَمالُ التّصويريُّ على التّكاملِ والانسجامِ بينَ العناصر، بل يتجاوزُهُ إلى جماليّاتٍ مُكثّفةٍ تتجلّى في الاختياراتِ الاستعاريّةِ في قولها: (نمتطي جواد القمر.. ترقصُ فيه النّجوم.. الغيماتُ تلبسُ ثوبهَا الأبيض.. شيخ المطر..) الخ.. وهذا ليسَ تصويرًا فنّيًّا مألوفًا، وإنّما طقوس فرح وحلم، لم تجدِ الكاتبة لهذه الطقوس نظيرًا مِن مفرداتِ الواقع، إلّا قمرًا يتحوّلُ إلى جوادٍ يجولُ ويصهلُ في سهول الفرح وهضاب الحُلم، وعلى وقع صهيلِهِ ترقصُ النّجومُ، وتلبسُ الغيومُ ثوبًا أبيضَ يُباركُها شيخُ المطر. هذا طقسٌ يَتشكّلُ مِن السّموّ والنّبلِ والجَلالِ والجَمال، يَحيا فيهِ نقاءُ سريرةٍ وصفاءُ قلبٍ وطهارةُ حُلم. وفي مجموعة (فراشة الحواس) يُدهشُنا هذا التّكاملُ والانسجامُ بينَ عناصرِ الصّورةِ الفنّيّةِ في غير موضع، وهو تقنيّةٌ فنّيّةٌ تستحقُّ أن يُفرَدَ لها دراسة يتجلى فيها بهاءُ التّصوير، وعلى الرّغم من كثرةِ هذا اللّون التّصويريّ، إلّا أنّني لم أستطع إغفالَ قطعةٍ فنّيّةٍ رسمَتْها الكاتبة بقولِها: (سأشرب رحيق أزهارك ماءَ/ لينبعث في زوايا جسدي.. نبضا لحياة/ أتنفسك هواءً تحتضنه أحشائي/ أخبئه شهيقا.. وأرفض بعدها الزفير.)
لا أظنُّ أنّ النّقدَ الجَماليّ أو الرّؤيةَ النقديّة الأسلوبيّة ترتقي إلى هذا المستوى الفنّيّ الأصليّ، فأيّةُ حروفٍ يمكن أن تُعبّرَ عن الشّحنات النفسيّة،وتُصوّرُ وهجَ العشق واتّقادِ القلب سوى هذهِ الأنفاس، التي رسمت الصورة بشهيقها وزفيرها؟! ولتسمح لي الكاتبة أن أداعب وأشاكس صورتها الفنّية للأنفاس فأقول: في العمر شهيق يسكن الذاكرة وما سواه اختناق، وبين الحرف والحرف شهيق حلم وزفير حزن لا تتنفسهما أبجديّة، وليس للحلم أبجدية سوى شهيق حرف وأنفاس دهشة.
3*الصورة الصوتية: لعل الصوت من أبرز الحواس التي تتفاعل مع دلال الحس في عنوان المجموعة (فراشة الحواس)، وقد عمدتْ الأديبة آمال غزال إلى تحميل الصورة الصوتية تموجات نفسية ووجدانية؛ إذ عبرت بالصوت عن أطياف مشاعرها وبنيتها الوجدانية، ففي قولها: (أعترف أنك تشبهني/ تشبهني حتى الثمالة/ تشبه أحزاني.. وأفراحي/ تشبه وقع الموسيقى بدمي/ و”سيمفونية” ترددها آلامي)، لا يخفى أن البعد الصوتي في هذا النص قد أحدث خرقا فنيا، وأضاف بعدا تأثيريا استثنائيا.. فصوت الموسيقى لم يؤثر على النفس أو الروح كما هو مألوف في تلقي الموسيقى والتفاعل معها.. بل إن وقع الموسيقى لدى الأديبة يسري تأثيره في دمها.. كذلك تتحول “السيمفونية من نوتة موسيقية إلى نبض ألم ووخز حزن دفين.. وهذا التحول هو انحراف فني عن المعيار الصوتي وعن رتابة التلقي للموسيقى.
4* الصورة اللونية: توظف الكاتبة الموروث الثقافي للون للتعبير عن حزمة من المشاعر الإنسانية، واللون في النص الأدبي ليس عنصرا فنيا بصريا محايدا، بل يحمل في حناياه إحساسا مكثفا ورؤى فكرية، ففي قولها: (رحل المكان عن المكان مسافرا/ تحلّق خلفه طيورٌ/ كأنها غربان بعمامات سود/ تجر خلفها عباءةَ حنيني الموشحة بالسواد).. وفي موضع آخر من القصيدة نفسها تقول: (رسموا ملامح تاريخ سطروه بريشة../ ولون أحمر.. وبندقية).. وتبقى دلالة الألوان في هذه النصوص وما يماثلها من المجموعة.. تبقى في حدود الدلالة المألوفة للونيين الأسود والأحمر.. وتبقى آلية التلقي لدلالة اللون هادئة ومألوفة ورتيبة لأنها لا تخرج عن الموروث الثقافي للون. أما حينما تغادر دلالة اللون سياقها المألوف، وتتجاوز الدلالة التي تختزلها الذاكرة الجماعية فإنها تُحدث عصفا دلاليا وانعطافا حادا للسياق الدلالي كما في قولها: (وتختفي../ خلف شفافية الماء الملون بالوجع/ الماءِ الملونِ بظلالنا المنتحرة/ في كل المنحدرات/ وفوق سطور الضباب تنحي/ مثل قوس قزح). لم يعد اللون هنا دلالة مألوفة تتناغم مع الموروث الثقافي.. بل أضحى مثيرا بصريا ومنبها حسيا يحتاج إلى يقظة المتلقي ومضاعفة انتباهه لدلالة اللون في سياقها الجديد، فالماء قد تحول من شفافيته المألوفة إلى لون من الوجع.
وبعد، فإن في مجموعة (فراشة الحواس) أيقونات فنية أخرى تستحق التأمل، وبخاصة التناغم الدلالي والنفسي بين مطلع النص وخاتمته، إذ تحتاج هذه الظاهرة إلى مزيد من التأمل من خلال محاورة نقدية للنص. كذلك خاصية التلاحق والتتابع التي تشكل صورا توليدية تفضي إلى صور عنقودية تشكل فضاء تخيليا مكثفا.
5* هوية النص/ رؤية ناقد: قد يتساءل بعضهم عن هوية النص، أو عن الجنس الأدبي لكتاب (فراشة الحواس) هل الكتاب نصوص شعرية أم نثرية؟ وهل هو قصائد من شعر التفعيلة أم قصائد نثرية؟ وهل يجوز الجمع بين نص شعري ونص نثري في كتاب واحد؟ كل هذه التساؤلات قد يهمس بها من يقرأ كتاب آمال غزال.. ولأنني قارئ متأمل وناقد محايد أقول: إن الكتاب يجمع بين الشعرية والنثرية.. وهو جمع جائز ضمن المعايير النقدية المعاصرة التي تتيح للمبدع أن ينشئ نصا بأطياف أدبية مختلفة.. فلم يعد الجنس الأدبي مستقلا عن غيره من الأجناس الأدبية الأخرى، وهو ما يصطلح عليه النقاد المعاصرون بتداخل الأجناس أو الأنواع الأدبية، وقد أفردتْ لهذا الأمر دراسات وأبحاث، وعقدت في هذا السياق مؤتمرات وندوات دولية.. وأستطيع أن أقرر- وأنا مطمئن- أن الإبداع أكبر من هوية النص، وأن المبدع أسمى من الجنس الأدبي.. ولا ينبغي أن يُفهم من هذا التقرير أنني أدعو إلى هدم الحواجز بين الأجناس الأدبية.. ولكني أدعو بكل ثقة إلى تلوين النص الإبداعي بما ينسجم مع الدفقات الشعورية للمبدع.. ولا شك أن تدخل الأجناس الأدبية في نص واحد يشكل تحديا للمتلقي عموما وللناقد خصوصا.
وقد يكون الخطاب النقدي- اليوم- قادرا على رصد تجليات إشكالية تداخل الأنواع الأدبية في النص ما دام النص كتابا مطبوعا مقيدا بمواصفات الطباعة وإمكاناتها وطاقاتها الفنية، ولكن حينما يصبح النص الذي تتداخل فيه الأنواع الأدبية كتابا الكترونيا مصحوبا بالوسائط المساندة التي تمنح النص مؤثرات صوتية أو تسجيلا صوتيا وصورا صامتة وناطقة بل قد يصل الأمر إلى مقاطع مرئية (فيديو) وغيرها من الوسائط المساندة؛ فإن الخطاب النقدي سيواجه تحديا حقيقيا لإشكالية تداخل الأنواع الأدبية.
بقلم د. عمر عتيق
16

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة