سليمان جبران: من باب الترفع عن المحكية
تاريخ النشر: 13/12/14 | 11:00“على هامش التجديد والتقييد في اللغة العربيّة المعاصرة”، ص. 98 – 101.
(ننشر هذه المادّة، وقد نفد الكتاب المذكور أعلاه من السوق، بناء على طلب بعض القرّاء)
في لغتنا العربيّة، حتى الحديثة منها، ظواهر كثيرة لا يمكن تفسيرها إلا بالرغبة في تجنّب اللغة المحكيّة، أو «الترفع» عنها. رغم أننا اليوم في «عصر ديمقراطي»، كما يرى الأستاذ أحمد أمين، ولم تعد اللغة ولا الأدب وقفا على الخاصّة، على الأرستقراطية، إلا أننا ما زلنا في اللغة واستخداماتها واشتقاقاتها نبتعد عن المحكيّة ما أمكن. حتى اللفظ المشترك بين المحكية والفصيحة «يهرب» منه الكتّاب في اللغة الحديثة أيضا إلى بديل «فصيح» لا يستخدم في المحكيّة عادة، والأمثلة كثيرة:
.1 حبّ/ أحبّ
هناك، مثلا، الفعلان حبّ / أحبّ: الأوّل، المجرّد، صحيح سليم لا عيب فيه سوى أنه يُستخدم أيضا في اللغة المحكية. فهل قرأتم في النصوص القديمة أو الحديثة هذا الفعل؟ لا أظنّ، إلا في الحالات النادرة. في الشعر مثلا يرد الفعل المجرّد، دونما «ترفّع» ودونما حرج، استجابة لمتطلبات الوزن. يقول مجنون ليلى، مثلاً:
لقد حبهاّ قلبي وعمّ غرامها / ولا صبر ممّا يلتقي العبد مانعُ
وله أيضا:
ولا تستبدلي مني دنيئاً / ولا برماً إذا حُبَّ القتارُ
وقال معروف الرصافي:
حببتُ العلا منذ الصبا حبّ شاعر / وقمت اليها ساعياً سعي قادرِ
فهل نحن اليوم نفهم في الحبّ أكثر من هؤلاء؟ ثمّ إن القاموس يذكر الفعل المجرّد أيضا. ففي المنجد: «حبّه: ودّه، وحبّ الشيء: رغب فيه». وجاء في لسان العرب
أيضا: «وحكى سيبويه: حببته وأحببته بمعنى». كذلك يكثر في اللغة، القديمة والحديثة، استخدام الحبّ والمحبوب، والأوّل هو مصدر المجرّد طبعا، والثاني اسم المفعول منه.
نخلص إلى القول إنّ حبّ وأحبّ بمعنى، كما يقول القدماء، إلا أنّ اللغة «ترفّعت» عن المجرد لأنه يشي بالمحكية، وفضّلت عليه أفعل لأنه لا يرد إلا في اللغة المعيارية. ومثل حبّ وأحبّ أفعال أخرى كثيرة، ظلموا فيها المجرّد لأنه مشترك للمحكية والمعيارية، مؤْثرين وزن أفعل: حرق / أحرق، حسَّ / أحسّ، شفِق / أشفق، عقب / أعقب، فلت / أفلت، مسَك/ أمسك، وغيرها كثير، بعضها معروف وبعضها غير شائع تذكره القواميس، ونادراً ما يُستخدم في اللغة الحديثة.
2. هناك / هنالك
مثل حبّ وأحبّ أيضا: هناك وهنالك. لا فرق بينهما في المعنى سوى أنّ الثانية أبعد في دلالتها إذا أردنا الدقة. إلا أنّ الأولى رغم بساطتها مشتركة للمحكيّة والمعيارية، ولذلك أهملت غالباً، والثانية رغم «ثقل دمها» شاعت كثيراً لأنها مقصورة على اللغة المعيارية، ولا تعرفها لغتنا المحكّية. ألا تستمع إلى بعض الناس حين يتحدّثون ارتجالاً كيف يرتكبون في النحو أخطاء فاضحة، لكنهم يحرصون على استخدام هنالك ونبذ هناك المسكينة لأنها «عامية»، شعبية ؟!
.3 هذي / هذهِ
والكلمتان هذهِ / هذي، هل من فرق بينهما في المعنى؟ هل من عيب في الثانية سوى أنها مشتركة للغة المعيارية والمحكية أيضا؟ ألا تذكر كتب اللغة أن اسم الإشارة للمفردة القريبة هو: ذهِ، ذي، تهِ، تي، تا؟ فلماذا نهمل هذي وهي أخف لفظاً وأقرب إلى لهجتنا وإلى آذاننا، لماذا نبتعد عنها وقد وردت في الشعر دونما حرج؟ قال المعري:
صاحِ هذي قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عادِ
وقال المتنبي:
أصخرة أنا ما لي لا تحرّكني / هذي المدام ولا هذي الأغاريدُ
وقال أبو صخر الهذلي في وصف الأطلال:
عهدتُ بها وحشاً عليها براقع / وهذي وحوش أصبحتْ لم تَبرقعِ
الشواهد من الشعر كثيرة، وقلّما تجد شواهد من النثر، لأن الشاعر يعرف أنها لا عيب فيها، فيستخدمها بدلاً من أختها حين يتطلبها الوزن. أمّا في النثر فلا بدّ من «الترفّع» عن هذي المسكينة، لأنها مشتركة للمعيارية والمحكية، وفي ذلك ما يعيبها !
.4 حوالى / حواليْ
من هذا الباب أيضا حوالى / حواليْ، وأزعم أن الأولى أصحّ أيضاً، إلا أنها ظُلمت هي أيضاً لأنها مشتركة للمحكية والمعيارية، وفضّلوا عليها حواليْ،منهكين شفاهم، ظناً منهم أنها أفصح. هذا المنجد يذكر لنا: حول وحولى وحوال وحوالى الشيء أو الشخص: الجهات المحيطة به». لذلك هناك من “الغيورين” من يعترض أصلاً على استخدامها لهذه الدلالة. لا أظنّ حواليْ هذه إلا من باب الابتعاد عن المحكيّة، أو ما يُسمّى في الألسنيّات تصحيح الصحيح، أو التصحيح المفرِط – hypercorrection.
هكذا نترفع عن لغتنا المحكيّة في أحيان كثيرة بغير حقّ. فلماذا نواصل في عصرنا الديمقراطي هذا إهمال اللفظ الشائع، وهو سليم لا عيب فيه، لأنّه مشترك بين لغتنا المحكيّة واللغة المعياريّة؟!
.5 غير المألوف بالذات !
هناك ألفاظ أخرى كثيرة في اللغة يجوز في قراءتها وجهان: وجه شبيه بما نتداول في لغتنا المحكيّة، والثاني يختلف عنه، فأيّ الوجهين يختارون في الإذاعات والفضائياّت وكتب التدريس؟ القراءة الغريبة طبعا، للابتعاد ما أمكن عن المألوف في محكيّتنا !
نبدأ بياء المتكلّم: من المعروف أن ياء المتكلّم «يجوز فيها السكون والفتح إلا إذا كان ما قبلها ألفا أو ياء ساكنة، فيتعيّن الفتح، فتقول: عصايَ، مولايَ، بُنَيَّ، أُخَيَّ. وإنما تُفتح في مثل هذه الحال دفعا لالتقاء الساكنين». هذا الكلام معناه، ببساطة، أن ياء المتكلم إذا اتصلت باسم آخره حرف صحيح، لا ألف ولا ياء ساكنة ولا واو، يمكننا قراءتها ساكنة، كما في لغتنا المحكيّة، فنقول: كتابي الجديد. وهي قراءة أسهل وأوضح. لماذا إذن يصرّ معظم القارئين على تشكيلها بالفتح، فيقولون: كتابيَ الجديد، ويتجنّبون التسكين؟ في الشعر يختار الشاعر إحدى القراءتين وفقا لمتطلّبات الوزن، إذ هو يختلف في التسكين عنه في الفتح، أما في النثر فلا نرى من داعٍ لذلك سوى «الترفع» عن اللغة المحكيّة!
في لغتنا العربية ألفاظ أخرى كثيرة يجوز في قراءتها وجهان. هنا أيضا نختار في قراءتنا، عادة، الأصعب والأغرب ! نكتفي، للتمثيل، بإيراد بعض هذه الألفاظ التي تقرأ على وجهين: الأوّل «فصيح شائع على الألسنة، والثاني سهل لكنه مهمل لقربه من اللغة المحكية، ومن يبحث يمكنه العثور على غيرها طبعا: سُمّ – سَمّ، رُغم ــ رَغم (بل إن القاموس يذكر أن السين والراء هنا مثلثتان أيضا، أي يمكن قراءتهما بالحركات الثلاث!)، بَبَّغاء ــ بَبْغاء، خاتَم ــ خاتِم، مِشط ــ مُشط (هناك قراءات أخرى أيضا)، فُلفُل ــ فِلفِل، ضِفدِع ــ ضَفدَع… إنها كما ترون ظاهرة لا حالة عارضة.
سليمان جبران