قراءة لقصة “أين ولدي” للدكتور فاروق مواسي
تاريخ النشر: 04/12/14 | 10:35القصة
كنت أسكن داري بأمان واطمئنان، أعبد الله وأسعى لرزق العيال الحلال، وإذا بفقير ضعيف الحال، يقف أمام بيتي يستدرّ عطفي ولطفي، فرثيت لحاله، وسمحت له أن يأوي في ركن بيتي لأن بيت الضيق يتسع لمائة صديق.
…
وجاري كان لطيف العشرة يؤنسني في حديثه.
وأشرقت الشمس وغربت آلاف المرات.
…
لكن جاري أخذ يبعث الريبة في نفسي، فهو يدعي أن له حقًًا في داري، وأنه ورثها عن جد جد جده، وأخذ ادعاؤه يلبس ثوب الجد، فقد أحضر لي كتبًا قديمة كانت بحوزته يثبت لي فيها أن الدار داره، وأنني أنا الضيف، وكرمًا منه وتقديرًأ لضعفي فإنه سيناصفني الدار.
…
وبسبب معارضتي وجدته يقتحم غرفة النوم، وكان معه جماعة من أقربائه ومن العائلات التي تكرهنا.. وتسلحت بالعزم والإرادة أن أطرده شر طردة، فهو لا يصون الجميل والمعروف.
…
حاولت أكثر من مرة أن أسترجع ما اغتصب مني، لكنه وهو يتظاهر بالضعف والاستكانة والعائلات التي تكرهنا تنظر إليه بعين العطف- حمل سلاحه وأشهره علينا، وطرد زوجتي وأولادي من الدار. وكرمًا منه سمح لنا أن نقيم خيمة في الساحة من الجهة الشرقية.
….
عندما طالبت بحقّي كان رد فعله هذه المرة عنيفًا، فادعى أن الخيمة تمنع عنه الريح وتشوه منظر الدار، وما علي إلا أن أخلي له الساحة.
..
كان أقربائي غافلين عن أمري، فهم لا يحببوني، بل إن بعضهم كان يشمت بي، وبعضهم اعتدى عليّ وأهلك من أولادي أجملهم، ولم يبق من أمل إلا أن ينصرني خالي صاحب الجاه والعدّة.
…
في مساء يوم لا أدري كيف حل خالي ضيفًا على داري، ولم أستطع أن أكون المضيف.
قال خالي:
– “جئت أي، أي، لأعيد الدار، إي لابن إي اختي نحن إي اخوان ولا شيء إي بيننا، فكلنا إخوات”.
..
شكروه على مجيئه، وشكوا له أمري، فهز رأسه بمعنى “فاهم”.
***
كان بيتي جميلاً زينته بالأشجار، وزرعت أمامه الحدائق، ولد أطفالي كلهم فيه، بيتي شرفاته كبيرة، وكل حجر فيه أنا الذي حملته.
بيتي ملاذي ومبعث إنسانيتي، سيّجوا بيتي بأسلاك الكهرباء، وعندما ألقي نظرات متواصلة على أشجاره أتمنى أن أكون عصفورًا يحلق. أحن إلى الزيتونة التي غرستها لنأكل ثمارها.
..
النسيم يأتي داري يحمل أريج البرتقالة التي غرستها، وسميتها باسم أحد أولادي، أطوف حول داري سبع مرات يوميًا.
عندما سألني ولدي: لماذا ليس لنا دار كالأخرين أجبته:
– هناك على الرابية تقوم دارنا يا ولدي.
– إذًا لماذا لا ننام هناك، ولماذا لا يأتي أصدقائي لزيارتي هناك؟
– إنها مسيجة بالأسلاك.
– لا بد أن هناك ممرًا…”
…
وأخذ ولدي يطوف معي يوميًا سبع مرات.
وفي إحدى المرات –مرات الطواف- اختفى ولدي.
ولم أبك، ولم أقل شيئًا.
..
وعدت إلى خيمتي لأمتع نظري بمناظر الرابية.
…………..
*أمام المرآة وقصص أخرى. نابلس: دار الفاروق- 1995، ص 101.
…….
التحليل:
………
قصة (أين ولدي) نص أليغوري مزدوج الدلالة، فيه مستويان:
..
المستوى الأول: سطحي بسيط حركي- قصة الراوي يعيش حياته بأمان دون تعقيد حتى قادته مروءته إلى إيواء جاره المسكين “لطيف العشرة” والذي ما أن أنعم عليه بالدفء حتى انقلب على الراوي وطرده من بيته بدعوى أن لديه أوراقًا ثبوتية تثبت حقه فيه.
إزاء ذلك لم يسعفه أقرباؤه ولا خاله الذي تواطأ عليه هو الآخر، وبات يجد نفسه مع من بقي من أولاده يطوف حول منزله القديم.
في إحدى مرات الطواف يتسلل ابنه عبر السياج ويختفي دون ان نعرف عن مصيره شيئًا.
إلى هنا تنتهي القصة، وهي كما ترى قصّة عادية ليس فيها إثارة ولا تركيب.
…
أما المستوى الثاني، النص الغائب فيحكي قصة ضياع فلسطين، فالراوي وهو شخصية نمطية ذو خصائص نفسية مميزة يمثل الإنسان الفلسطيني سليم الطوية “يعبد الله… ويسعى لرزق العيال الحلال” يتهاون للطارق الجديد عن جزء من وطنه عن طيب خاطر وسلامة نيّة.
ما يفتأ “الضيف” أن يدعي حقوقًا تاريخية في هذا الوطن، ويعرض على الفلسطيني تسوية نصف الوطن، “وكرمًا منه وتقديرًا لضعفي فإنه سيناصفني الدار” وفي هذا إشارة إلى تقسيم 47.
ويرفض الفلسطينيون العرض: “وتسلحت بالعزم والإرادة أن أطرده شرّ طردة”.
لكن هذا المسعى يخيب، لأن الشعوب الأوروبية وأمريكا و “العائلات التي تكرهنا” شجعت العدوان وتعاطفت معه، فاحتل جزءًا آخر من فلسطين في حرب 67 “حمل سلاحه وأشهره علينا وطرد زوجتي وأولادي من الدار”.
…
لم تسعف الدول العربية الفلسطينيين، فهي تضمر لهم الكراهية “أقربائي” (..) لا يحبونني (..) بعضهم كان يشمت بي “وفي المنافي ينكل العرب بالفلسطينيين، “بعضهم اعتدى عليّ وأهلك من اولادي أجملهم”.
…
ويبقى الأمل معقودًا على مصر، ولكن!
يزور الرئيس السادات إسرائيل “خالي صاحب الجاه والعدّة” لكنّه لم يطالب بعودة الحق الفلسطيني، وكان صوته متعثرًا فيه تواطؤ: “جئت إي إي، لأعيد الدار، إي لابن اختي، نحن إي اخوان ولا شيء إي بيننا”.
..
مع ذلك فالحنين إلى الوطن لابني يلح عليه، وأشواقه عارمة ولكن ما في اليه حيلة.
تُختتم القصة بدخول الجيل الثاني “الأولاد”، ويرمز الكاتب إلى كفاح الأجيال لاسترداد الأرض.
– إنها مسيجة بالأسلاك
– لا بدّ أنه هناك ممرًا…”
****
القصة مقتصدة في السرد، وتكتفي بالعبارات الموحية، والراوي يختزل الزمن عن طريق التعبير الكنائي: “وأشرقت الشمس وغربت آلاف المرات”، ويختزل مشكلة اللاجئين بعبارة:
“سمح لنا أن نقيم خيمة في الساحة من الجهة الشرقية” وتواطؤ الزعامة العربية يلخصه بعبارة “فهز رأسه بمعنى فاهم”.
كما يلخص المرحلة الجديدة مرحلة الكفاح بعبارة “وفي إحدى مرات الطواف اختفى ولدي”.
..
إمعانًا في تبسيط القصة على المستوى الأول وسعيًا لجعلها تقترب من الأجواء المحلية يستخدم الكاتب العاميّة أو الترجمة عن العامية أحسانًا، مثل:
– “بيت الضيق يتسع لمائة صديق”
– ” ورثها عن جد جد جده”.
..
وثمة نفس شعري يعبر من خلاله عن شكاته وأناته الموجوعة من فرط الحنين إلى الوطن:
– ” وعندما القي نظرات متواصلة على أشجاره أتمنى أن أكون عصفورًا يحلق “.
– “أحن إلى الزيتونة التي غرستها لنأكل ثمارها”.
– “النسيم يأتي الى داري يحمل أريج البرتقالة التي غرسها”.
– “هناك على الرابية تقوم دارنا يا ولدي”.
ويبقى العنوان أو السؤال اللغز “أين ولدي؟” وله ارتباط بنهاية القصة.
النظرة المتعجلة تظهر كما لو أن هناك انسجامًا بين العنوان ونهاية القصة، حيث تنتهي القصة باختفاء ولده. تبعًا لذلك، يأتي العنوان مرتبطًأ بالمستوى الأول الظاهري في القصة، فهو ذو ترجيع كلاسيكي والمضمون هو الضياع.
..
لكن الحقيقة هي أن العنوان جاء على نحو مفارق مما يبدو في الواقع، فولده عثر على السبيل الذي من خلاله يحقق ذاته ويجد ضالته، هذا وإن ضلّلنا العنوان وأوحى لنا بضياع ولد، ولعلّ الجملة الأخيرة، تفسر ما توصلت إليه:
“اختفى ولدي، ولم أبك، ولم أقل شيئًا.
وعدت إلى خيمتي لامتع نظري بمناظر الرابية”.
*******
نشرت المادة في عدد مجلة الشرق الاحتفائي بالدكتور فاروق مواسي كانون الأول 1996، ص 48.
بقلم: د. ياسين كتانة