الإيقاع في مطولة أحمد حسين في ساحة الإعدام

تاريخ النشر: 25/09/14 | 16:56

أريد أن أشير في عجالة الى ايقاع هذه المطولة الرائعة، وهي تتدافع وتتدفق بغزارة مدهشة وترتفع بالهمِّ الوطني لتكون كقصائد أبي سلمى وعبدالرحيم محمود وابراهيم طوقان، وتأخذ مذاقا مختلفاً لا يعرف طعمه ولا قيمته سوى من تمرس في ارتشاف خمرة الشعر حتى الثمالة من الخرائد والمعلقات الأولى، بحيث تحتاج الى وقوف كبار النقاد عندها بالتحليل والتقريظ . والملفت في ايقاعها أنه وضع ليس عبثاً بل متساوقاً ومضمونها، فهي تبدأ بالتفاعيل : فاعلاتن/ فعِلن
وتظهر السخرية اللاذعة في قول الشاعر :
” دَنْدَنا دَنْدَنا
قَدْ أَتَيْتُمْ قَبْلَكُمْ
وَأَتَيْنا بَعْدَنا
وَبَقينا وَحْدَكُمْ
وَذَهَبْتُمْ وَحْدَنا
وَتَعَجَّبْنا… وَلكِنْ
صَدَقَ اللّهُ العَظيم . ”
ولا يمكنني الوقوف عند الاستعارات والتناصات والنصوص داخل النص والصور المشهدية التي تعبق بها أرجاء هذه القصيدة.
ثم يشرع الشاعر في خطابة على تفعيلة : متفاعلن/ مستفعلن:
” وَأُريدُ بابًا لِلرَّحيل !”
والقصيدة طويلة ولكن شاعرنا اولاً يكتب لعشاق خمرة الشعر وليس للهواة، وثانياً إنك لا تجد فيها الأ البلاغة تلو البلاغة تأتيك كأمواج النهر الثائر الذي يحمل معنى الاستفهام : ” وَأُريدُ بابًا لِلرَّحيل !”والذي يتكرر عند أول لُهاث المقطوعة.
وقد صاغها الشاعر صياغة حديثة بلغة جزلة الألفاظ ، وبفنيّة فذة نادرة في ترابط وثيق بين مبناها ومعناها.
“يا أيُّها السَّيْفُ المُخبَّأُ في الرِّمالْ .
هَلْ أَغْمَدَتْكَ سِوى يَدُ المُتهَوِّدِ العَرَبيِّ في بابِ الحُسَيْنِ،
وَهَلْ أَتَتْكَ الطَّعْنَةُ النَّجْلاءُ إلاّ مِنْ وَراءِ خِزانَةِ الصَّلَواتِ، حَيْثُ يُواعِدُ العَرَبِيُّ قاتِلَهُ بِلا سَيْفٍ وَتَخْتَبئُ النِّصالْ؟”
ويبلغ أوج روعته في قوله:
“لَوْ ذُقْتِ أَحْزاني فَهِمْتِ قَصيدَتي
وَعَرَفْتِ شُغْلي عَنْ سَريركِ بالمُنى
حَطَّتْ عَصافيرُ الحَنينِ عَلى مَدَىً
لا أَنْتِ فيهِ وَلا الجَليلُ وَلا أَنا”
إنها قصيدة مقطوعة من شرايين القلب تقطر دماً ولوعةً، ولو أخذتُ في تحليل التشابيه والاستعارات البلاغية لما وسعني الوقت، فهناك عصافير الحنين التي حطّتْ على مدى، وهذا المدى ليس فيه معشوقة الشاعر ولا الجليل، ولا هو نفسه. والأرض أوطانٌ وحبيبة الشاعر سفينة محتجزة في بحرهم، لكنها حمامة حرة في برّنا، وعندما لا تجد غصناً تحط عليه، فإنها تحطُّ في أحزاننا. إن هذا الشعر ليخرج من نفس المشكاة الذي خرج منها شعر راشد حسين الأخ المارد ولكن بعد أن عركته أبعاد المأساة وتعمقت داخله .
ورغم قربها الظاهري من القصائد الكلاسيكية إلا أن فيها وحدة موضوعية عضوية تربط اجزاءها رباطاً معنوياً ولفظياً وشيجاً بين الصورة واللفظ والايقاع فيها، بحيث لا يقوم الواحد مكان الآخر، بل تعمل كل هذه العناصر في لحمة القصيدة وزخمها النادر.
وأبداً لا بد للشاعر من تذكر مراتع صباه وطفولته الأولى في حيفا الكرملية كما يحلو له وصفها، عروس فلسطين ولكنه في هذه القصيدة يوظف غضبه فيها:
حَيْفا صَبابَتُنا وَحَيْفا لَهْوُهُمْ
حَيْفا مَدينَتُهمْ وَحَيْفا أُمُّنا
حَيْفا تَفاصيلُ الفِراقِ تَدُبُّ في
أَجْسادِنا، وَتَمُرُّ مِنْ ساعاتِنا
حَيْفا نِهايَةُ دَرْبِنا، وَبِدايَةٌ
أُخْرى لِجيلٍ لَيْسَ مِنْ أَبْنائِنا
سَقَطَتْ عَلى دَرَجِ «الهَدارِ» طُفولَتي
لَمّا ارْتَمى الزِّلْزالُ في ساحاتِنا
وهو يروي ملحمة ضياع الوطن في جلد للذات مرير ولكنه الواقع الذي كان ولا بد لنا إلا أن نعترف به.
نَحْنُ الدَّسيسَةُ، لَيْسَ في وِجْدانِنا
غَيْرُ الدَّسيسَةِ فَاحْذَروا وِجْدانَنا
أَلأَرْضُ تَعْبُرُنا إلى أَقْدامِهِمْ
وَجُنودُهُمْ عَبَروا عَلى صَهَواتِنا

د. سامي ادريس

480-3500SAMI330

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة