عن قصيدة سميح القاسم: أبي

تاريخ النشر: 16/08/14 | 11:17

تقع قصيدة سميح القاسم في ستة مساقات (انظر GRATA NON PERSONA ص 42 – 48) تارة يكتب شعر التفعيلة، وطورًا يلتزم الشعر العمودي، وفي هذا التراوح توزيع لآهاته، وتنفيس عن لواعج ذاتية مضطربة .ففي المساق الأول يبدأ القول:
” كبرت
وصرت
من الأهل في منزل الحزن”
يفضي لنا الشاعر بسرائره فقد تغيرت ملامحه، وصوته ترهل، وضاقت خطاه ..هرم.. وغام وصاحب تغير ملامحه تغير في طبائع الأشياء- فقد العشب من نضارته، وتلون الصبح بالصفرة والورد بالغبرة، وقد تغيرت ملامح الأفق والشمس.
وفي المساق الثاني يلجأ إلى البحر الخفيف بقافية مقيدة:
كان قبري فكيف أصبح قبرك
وهو سري أم أنه كان سرك
يا أبي والدي أبوي ويابا
فيك وحدت والردى فيك أشرك
ولا يخفى أن البيت الأول يلامس بيت شوقي الذي ورد سابقًا، لكن الأصوات المجسمة لنداء الأب وبكل نغمة ولغة تضفي جوًا مأساويًا، كما تتميز هذه المفارقة الحادة بين التوحيد والشرك على عمق الصورة النابعة من عقيدة التوحيد الدرزية- (سري، وحّدت).
إن الشاعر يشتهي أن يسمع نداء أبيه العذب (يا ابني!) ليجيبه (أمرك)….. وهو أسوة بنزار وعبد الصبور لا يصدق بأنه غاب عنه:
” غبت عني! هل غبت عني؟ هذا
طيفك الحي بيننا يتحرك
لم تزل تملأ العبــاءة بيتي
من ترى يملأ العباءة غيرك
وبالطبع فـإن الشاعرين رمزا من ورائها إلى هيبة الأب وديمومته.
وفي المساق الثالث يقول إن وجه أبيه السمح “قصارى الرضا”، وإن همسة الطيبة غاية الرزق، والشاعر يكرر طريقة الأب في تحية الصباح، وتشبّع الابن بجو الأبوية – يبوس يديه…يلثم ردن عباءته المعشبة (تعبير نزاري) …..يملأ روحه برائحة البن والتربة الطينية ….يملأ قلبه بحكمته السمحة المرعبة …..
يعود الشاعر ليؤكد أن أباه حي مثل جبل حيدر المتاخم لقريته (الرامة)، بل هو أحلى وأكبر وأعلى وأنضر.
وفي المساق الرابع يتوقف لدى زيتونة في قطعة أرض تابعة له، ويخلع عليها طاقة إنسانية مستقاة من شعور سميح بدوره، فالزيتونة تهب الوجود لأمة العرب، ونشرت على الآفاق خضرتها، وتفجرت نورًا مدى الحقب… عرفت الزيتونة (وهي رمز بارز في التراث الفلسطيني) هذا الأب، فعند زيارة الشاعر لها تعاجله بالسؤال، أو هو يعاجلها (أين أبي؟) وكأن الزيتونة والأب صنوان.
وفي المساق الخامس يحدثنا عن عواطفه إزاء “جسر روحه”، يقول له:
” ساعتك الأوميغا استسلمت للزمان
قلبك في جسدي موضعه
أتفتح أبواب حزني
وتغمض عينيك عني
أبي لا تدعني!”
ويحس الشاعر بطفولته وهو يتلهف إلى لمسة من يدي والده، وهو يتشوق إليه، ويكرر “أبي لا تدعني!!” .
وفي المساق السادس يقول لنا إنه لم يَضع (يعلق) صور والده على الجدار، لأنه لا يعرف كيف يلاقي نظره…. وضحكة قلب الشاعر انتهت، وأصبحت دمعة فوق تراب دثر والده:
يا أبي ما زلت في منزلنا
ماثلا لم ننس حتى نذكرك
ومرة أخرى يعود الشاعر ليركز على كونه طفلاً، وهي (الموتيف) في القصيدة:
“كم تماديت وكم باركتني
غافرا من قبل أن استغفرك
طفلك المتعب مشتاق فمن
يا أبي، عن موعدي قد أخرك”
وقصيدة سميح تشي عن وصف ذاتي لشخصيتــه هو، فالأب صديقه، وفارسه، وإمامه، وهو يجد في هذه الشخصية انعكاسًا لطموحاته الوطنية الأصـيلة. ولعل من الجدير أن أذكر أن الشاعر يربط باسم والده (جبل حيدر) و (خلة القصب) …. وعند شرح معنى اللفظين يلجأ إلى شاعرية التعبير مستمدة من واقعة الذي وصفه:
*جبل حيدر الذي يحمل الرامة على زنديه مثل طفلة ترفض النوم.
* خلة القصب – قطعة أرض تنبت زيتونًا وأجيالاً وتاريخًا.
وأخيرًا، إن في هذه الوقفة عند قصيدة القاسم دليلاً على الزخم في المشاعر والحيوية، وفيها تاكيد على أن الشعر الفلسطيني لم يكن في موقع ريادي بفضل القضية ومعاناتها فقط، بل لأن الطاقة الشعرية هي التي أهلت بعض شعرائنا للدخول في محراب الشعر الرفيع.
لا بد من التأكيد من خلا ل متابعة قصائد المحدثين أن هذا الشعر عبر عن عواطفنا الإنسانية بعمق وشفافية، وبمضامين مصوغة بحيوية وألفة، فإذا ترجمت هذه القصائد لأية لغة فـإنها لا تفقد حلاوتها وطلاوتها…. وفي ذلك نموذج على تناول موضوعات كثيرة قصر فيها الشعر القديم وجلّى فيها الشعر الحديث، وفي ذلك عبرة لمن بقي في مكانه يرفض حداثة الشعر والتجديد في صياغته.
…………………………..

من كتابي “دراسات وأبحاث في الأدب العربي الحديث”. دالية الكرمل: دار آسية- 1992، ص 94- 97.

ب.فاروق مواسي

1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة