وقد جاءكم خليفة ليرث عرش الذئاب

تاريخ النشر: 18/07/14 | 2:19

كأنهم شرطة أمر بالمعروف ونهي عن المنكر.
هاجمت غارات من الشرطة المصرية مقاهي المفطرين في رمضان. وقالوا طبعاً: هذه جنحة. لم يكشفوا أنها من مهام انكشارية الدولة الايديولوجية السرية، ولا أن القانون المصري عبر العصور فيه كل شيء. حكم ديني وعلماني وعسكري وملكي وجمهوري. كلما أردت قانوناً انزل السرداب وانفض الغبار وضع قليلاً من الماء لينشط ويعمل بشكل طبيعي كأنه لم يكن سجين السراديب، او يتناقض مع الهويات المعلنة للحداثة.
وهذه ليست عادات مستحدثة مع السيسي الذي يجسد كل تاريخ الحكم في الدولة الحديثة، جامعة التناقضات والازمان، المقيمة في زمن وحدها، المستقرة مع شيزوفرانيا عمومية لا تتيح طويلاً استخدام العقل او التأمل او التفكير بعيداً عن هستيريا الأجنة التي تموت في الأرحام بسبب داء السلطوية البنيوي.
هجمة المطوعين الرسميين لم تأت مع السيسي لكنها فرقة تؤدي نمرتها في استعراض يثبت تديّن الدولة. هي مضاعفات جرح سري من جروح الدولة المصرية. شعور بالذنب مقيم منذ أن هوت الخلافة العثمانية ودخلت مصر مرحلة الدولة الحديثة من حالة لا شرعية اجتماعية، ولكن بموديل ارتبط مع الاستعمار. وهذه لعنة جعلتنا نستمتع بمنتجات الحداثة ونلعنها. نفخر بأننا أصحاب اول سكك حديد، لكنه فخر مرتبط بالتدمير والإنكار والشعور بالدونية تجاه ما نعيش فيه.
الحكام يستمدون وجودهم من العلاقة مع الغرب، لكنهم وبدرجات تلعب الخلافة بأحلامهم. ارادوها عندما اعتلوا الكراسي أن تكون عروشاً ذات نزعة ابكراطورية وأبهة تاريخية. ارادوها دولاً تشبه الدول التي يروى عنها في سير البروباغندا التاريخية عن خلفاء وملوك المسلمين. كل منهم استوحى خلطة انتقى فيها حكاية من حكايات (ابو بكر الصديق او عمر بن الخطاب اوعلي بن ابي طالب وحتى عمر بن عبدالعزيز الملقب بالخليفة الخامس). كلهم تنافسوا على السادس، ودبجوا حكايات تشبه من قريب وبعيد حكايات الخلفاء.
لم يمر الخليفة البغدادي بالقاهرة، ولم يقرأ ما كتبته الفصيلة المجهولة من السياسيين في يوم من الأيام بعد ثورة يناير»الخلافة تاج الفروض». بدت الجملة المحيرة كأنها تثبيت عقيدة هاربة، واهل المدينة لم يلتفتوا إلى الشعار، كأنه أيقونة آتية من رف الذكرى الخالدة.
الخليفة الصاعد بساعته الغالية لا يعرف ماذا حدث لآخر من اقترب من كرسي الخلافة… لا يعرف بالتأكيد الذئب المسمّى بأحمد فؤاد الثاني، ولا حربه ضد شيخ وحامل دكتوراه من اكسفورد اسمه علي عبد الرازق على «الفرض السادس». الذئب العلوي (نسبة إلى الاسرة العلوية) كان قد أقام معسكرات استعداد للخلافة، وخططاً لتشكيل طليعته وطبقته السياسية… علماني متمرّد ومطارد في واحدة من اشرس معارك الثقافات.
وأحمد فؤاد السكير القادم من مغامرات البحث عن الثروات ليصبح سلطاناً في العام 1917 ثم أول ملك دستوري في العام 1922، تلمع في رأسه فكرة أن يرث الخلافة التي هوت في اسطنبول بعد 500 سنة من المرض.
قرر شاب اسمه علي عبد الرازق البحث في علاقة الإسلام بالحكم، وكان كتابه «الإسلام وأصول الحكم» الذي أنهى حلم ملك جبار هو أحمد فؤاد في وراثة الخلافة العثمانية تحت شعار أن الخلافة هي سادس فروض الإسلام وأنه المكلف بها.
حدث هذا سنة 1925، وكان شرارة أول صدام بين رغبات السلطة وكاتب قرر أن يكتب عن موضوع مثير وهو: الخلافة الإسلامية.
هل الاسلام دين ودولة؟!
هل الخلافة هي الفرض السادس على المسلمين؟!
هل يعترف الاسلام بحكم الفقهاء او وكلاء الله على الأرض؟!
الاسئلة كانت حارقة وقتها.
وعلي عبد الرازق الشيخ الأزهري تقمص روح مغامر عنيد، واقتحم قلب المعركة.
وكان المناخ مناسباً.
في الوقت نفسه الذي انفجرت فيه معركة «الاسلام وأصول الحكم» ناقش مجلس النواب المصري الطابع الديني لنظام الأوقاف، وطالب نواب بإلغائه نهائياً، كما تقدم النواب باقتراح لإلغاء منصب المفتي، كما تخلى طلاب دار العلوم عن العمامة وارتدوا بدلاً منها الزي الأوروبي و«الطربوش».
وبعد شهور قليلة من ضجة «علي عبد الرازق»، تفجّرت قنبلة أخرى مع كتاب طه حسين (الشعر الجاهلي)، وكلاهما معركة دارت حول كتاب، أي منطقة التصادم في ثقافتنا التي تمنح قدسية للكتابة ولا تعطي شرعية سوى للكتب التي تعيد إنتاج القيم المتوارثة.
كتاب علي عبد الرازق اصطدم بالغطاء الديني الذي يحمي السلطان نفسه ليحول معارضته إلى خروج عن الدين. كانت فكرة الخلافة تتهاوى تحت الضربات القوية لثورة أتاتورك في تركيا (1924). والزعيم التركي نفسه أصبح بطلاً مثالياً لشباب رأى فيه تجسيد حلم الخروج من نفق الرجل العثماني المريض… هذا قبل أن نكتشف بعد ربع قرن أن رجل الأحلام لم يكن سوى ديكتاتور بديل يريد الحكم والتغيير بقرارات فوقية.
انتقلت معركة علي عبد الرازق من النخبة لتصبح قضية «رأي عام»، بعد ضجة من الأزهريين ممثلي الثقافة التقليدية.
اللافت هنا أن علي عبد الرازق (وكذلك طه حسين) «أزهري سابق»، اي أنه متمرد على الحدود التي ضاقت في رمز المؤسسات القديمة.
لكن الضجة كان يحرّكها من الأساس نظام حكم الملك فؤاد الذي جعله الاحتلال الانكليزي يحلم بالخلافة الإسلامية التي شهدت فراغاً للمرة الاولى بعد الف عام حين ألغت ثورة كمال أتاتورك «الخلافة العثمانية» في العام 1924.
كتاب علي عبد الرازق أثار الملك فؤاد، لأنه ينفي مبدأ وجود الخلافة في تاريخ الإسلام، بينما الملك يقيم مؤتمراً إسلامياً عالمياً للخلافة ويصدر مجلة ويكوّن خلايا شعبية في الريف المصري لتنظيم هذه الدعوة، بل ويلغي دستور العام 1923 الذي أنتجته ثورة العام 1919 وينقضّ على غالبية «حزب الوفد» في برلمان 1925، ليشكل حكومة ائتلافية (من «حزب الوفد» و«حزب الأحرار الدستوريين») برئاسة زيور باشا.
الشيخ الشاب لم يكتف بأداء وظيفة القضاء في المحكمة الشرعية في المنصورة، لكنه حاول تقديم «اجتهاد مشروع»، كما كان يظنّ، ولكنه أقلق الملك وأذنابه: ‘لأن الكتاب فيه حملة هائلة على الملوك، وفيه تحطيم شامل لحلم الخلافة البرّاق، وأقلق رجال الدين: «لأنهم رأوا في هذا المنطق ما يزعزع سلطاتهم، ويعطل مدافعهم في الاتجار بالدين، ويكشف عن حقيقة هذه العمائم الضخمة التي لا ترتفع إلا لتستر وراءها الظلم والاستبداد… وهناك أيضاً الرجعيون بتفكيرهم والذين يتملّكون مشاعر الجماهير ولو بمجاراة الجهل والظلم!».
هؤلاء هم خصوم عبد الرازق كما وصفهم أحمد بهاء الدين في «أيام لها تاريخ»، والذين حاولوا الردّ بقوة على اجتهادات الشيخ، ليس على أنها رأي يُضاف الى حصيلة «الفكر الاسلامي» بل باعتبارها شطحات تحيد عما استقروا على معرفته.
وقائع محاكمة علي عبد الرازق تمّت بإيحاء ملكي إلى هيئة كبار العلماء في الأزهر، وفور إقرار الحكم بإبعاد الشيخ الشاب عن الأزهر والمحكمة الشرعية أرسل شيخ الأزهر برقية الى القصر الملكي تحمل التهنئة بالتخلص من المفكر المشاغب.
هذه أول معركة حول كتاب في مصر الحديثة.
خرج منها الكاتب الشاب متهماً بالإلحاد لأنه فكر في الاتجاه المعاكس للسلطة.
الملك كان يريد الخلافة، ويروج أنها من فروض الإسلام، والشيخ الشاب بحث وفكر ورفض منطق الملك.
المناخ الذي أفرزته أحلام الملك أتى بـ«الاخوان المسلمين» بعدها بسنتين فقط (١٩٢٨)… ويأتي اليوم بالداعشي وساعته الثمينة، مجسداً لتراجيديا الوقت في هذه البقعة من الأرض.
بقلم وائل عبد الفتاح – السفير

87878

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة