غزة.. كاشفة عارنا الكبير

تاريخ النشر: 16/07/14 | 2:41

في مطلع العام 2009، بعيد الحرب على غزة بأيام قليلة، شُرّف كاتب هذه السطور بزيارة القطاع في إطار تغطية تداعيات الحدث والإضاءة على المقاومتين المدنية والعسكرية للعدوان.  كانت مصر، بوابة غزة التي دخلنا منها، تُفرز مواقف متناقضة، بعضها شعبي متحمس للمقاومة وخياراتها، وبعضها يعبّر عن مزاج رسمي (له امتداد بدوره)، لا يفوت فرصة لاستهداف خيار الدفاع عن النفس وتهشيم صورة الفلسطينيين عموما، موظفاً في سبيل ذلك أصواتاً إعلامية وضيعة تشبه شيئاً مما يظهر اليوم.
وكانت أطراف غزة تتعرض لقصف متقطع، برغم إعلان نهاية الحرب التي استنزفتها مدة اثنين وعشرين يوماً، فيما كان داخلها يلملم الجراح ويعيد تنظيم نفسه، لدرايته أكثر من معظم العرب، أن الحرب، برغم أهوالها، لم تحقق المراد منها، وأن الأسير الإسرائيلي في حوزة رجالها محفوظ حتى إطلاق أعدادٍ من أسراها.
في الذاكرة ما زال محفوظاً «مستشفى الشفاء»، ذاك الذي شهرته الحروب المتتالية التي شنها الكيان العبري على أحرار أكبر سجن جماعي في العالم. خارج المشفى، رُكنت سيارة إسعاف صريعة، متشظية من وريدها حتى الوريد، وعليها أسماء شهداء الطواقم الطبية العاملة على مدار الحرب وما بعدها. وعلى السيارة الشاهدة ترك أمر التوقيع للقادمين إلى سجن الأحرار من خارجه، تحت عبارة «سجل استنكارك هنا». فيما داخل المشفى جناح مخصص لأطفال طالتهم ألسنة اللهب، بينهم روان التي يقل عمرها عن سبعة أعوام، ذات الجسد المحروق والوجه العاتب على الدنيا.
في الذهن منزل الصحافي المصور، أنس، في مدينة جباليا. كان الوصول إليه محض صدفة بعد سير مديد فوق ركام متشابه كأرقام الموت على الشاشات. لحظة وصولنا تخلى أنس عن كاميرته، سلاحه زمن الحرب والسلم، ودخل إطار الصورة يتفقد نصف عمره تحت الجدران المتداعية. فيما مؤمن، زميله المراسل، ظل واقفاً على مسافة أمتار يراقب، بوجه فيه فيض ابتسامة غالباً، هو الذي كان قبل ذلك بأيام على حافة الردى أثناء تغطية مباشرة من منطقة مستهدفة. في الذهن مؤمن الذي كان، تماماً كمعظم أهل القطاع، متشبثاً بالأمل حتى الرمق الأخير، يجدده كل صباح ويودعه أحلامه مساء. مراسل مذهل بطموحه، ذو ملمح «ليبرالي»، يفاخر بأشقائه المنتمين إلى «كتائب القسام».
في البال إيفا، الشابة البولندية، وصديقتها الإيرلندية كويفا. كانتا تتحدثان عن بقائهما في غزة أثناء العدوان كما يتحدث سائح عن زياراته بشغف، لكن الشغف هنا كان حزيناً. كانتا تعددان التحديات بعد كل عودة إلى الديار الأوروبية، حيث لوبيات تعمل لنسف شهاداتهما ليل نهار، في مقابل كثير من الأجانب «المتضامنين» معهما أيضاً، ممن يضعون إسرائيل على ضفة مقابلة، لاعتبارات إنسانية ومنطقية بحتة، من دون دواعٍ قومية ولا دينية.
في الخاطر أبو أحمد، قائد «سرايا القدس» الذي شرح ما يُسمح بالإفصاح عنه من عمليات المقاومة وقدراتها. وأبو أحمد كان يبتسم معتذراً عن عدم الإجابة حين يتعلق الأمر بالأسرار، ويترك باب التكهنات موارباً بتقصد أحياناً، من دون أن يحسم إيجاباً على أسئلة من نوع «صواريخ «الكورنيت» المضادة للدروع، تلك التي استخدمها «حزب الله» في حرب 2006، هل دخلت إلى غزة أم بعد؟». بسيطاً كان في إجاباته، لا يحب التنميق الكلامي. مباشر وواضح تماماً كمظهره، هو الذي كان وحده من بين رفاقه، مكشوف الوجه غير ملثم. في الخاطر أبو أحمد الذي كان واثقاً من وجهة مسار تراكمي طويل، من شأنه، كما قال، أن يغير معادلات يشكك فيها الكثير من «المتابعين».
بعد غزة 2009 كانت حرب أخرى العام 2012، واليوم حرب ثالثة تتوالى فصولها تباعاً.
في حرب اليوم ما زالت بوابة غزة المصرية، كما كانت بالأمس، محكومة باعتبارات تبقيها مغلقة معظم الأحيان، بل زادت على الاعتبارت السابقة أخرى تتصل بصراعات مستجدة على السلطة، داخل مصر وفي سائر أقطار المشرق العربي. وما زال الفلسطيني ورقة في هذه الصراعات، يختار دوره أحياناً ويُفرض عليه هذا الدور أحياناً أخرى.
في غزة اليوم، يعمل مستشفى «الشفاء» كما كان دوماً، بطواقم تصل الليل بالنهار. يدخل إليه جرحى يفيضون بالحياة، وأحياناً كثيرة من فارقوها، فيما سيارات الإسعاف أمامه إرادة حياة بحد ذاتها. أما روان فقد كبرت خمس سنوات، وكبرت جراحها خمساً هي الأخرى. وقد تكون فتاة غيرها مستلقية على السرير في الغرفة ذاتها، بحروق مشابهة، وبوجه، على الأرجح، عاتب على الدنيا.
ما زال أنس يعمل مصوراً. بنى بيتاً جديداً وانتشل حياته كآلاف غيره من تحت الأنقاض. وقد يكون مؤمن تابع سيره على منواله السابق، مراسلاً «حربياً» معظم الأحيان، في أرض تندر فيها أوقات السلام، بالابتسامة الغزاوية ذاتها، والثقة التي يعجز جسمه النحيف عن إخفائها. الأكيد أن أعداد الكوادر الإعلامية في غزة تضاعفت، سواء تلك العاملة في المجال التقليدي أم الإعلام البديل، والأكيد أن مؤمناً يشبه كثيرين منهم اليوم، أولئك الذين يراسلون، فيما أفراد من عوائلهم يقاتلون.
على الأرجح أن إيفا وكويفا تزوران غزة بين فينة وأخرى. المتضامنون الأجانب، على قلتهم، أكثر اتصالاً من معظم العرب، بهموم المشرق التي فاضت عن فلسطين راهناً، لتغرق معها جميع من تحاشوا التغيير، أو أرادوه عشوائياً كيفما اتفق.
أبو أحمد ما زال يتحدث بتواضع يزيده وقاراً. يظهر عبر وسائل الإعلام أكثر، لكنه يأخذ احتياطه اللازم. لم يعد وجود «الكورنيت» سراً منذ أربعة أعوام تقريباً. أما الصواريخ بعيدة المدى، فصارت تصل إلى «تل أبيب»، خلافاً لتوقعات «المتابعين». ما زال أبو أحمد يتحدث عن العمل التراكمي ومساره الطويل على وسائل الإعلام. وما زال يظهر ثقة بالغة بهذا المسار.
في غزة أشياء كثيرة تغيرت، وأشياء ظلت على قدمها.
أما الجديد فصنعه أبناؤها بأيديهم بعون قلة من المساعدين في المشرق المحيط.
وأما القديم فجله نتاج قيود هذا المحيط وانحطاطه.
في البال غزة وتمنٍ عليها، هي الغار الذي فوق رؤوسنا وكاشفة عارنا الكبير… سامحينا!
بقلم ربيع بركات – السفير

555444

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة