الشاعرأحمد فوزي والصّمتُ المزنّرُ بالحكايــــا

تاريخ النشر: 15/02/12 | 10:18

هذه القصيدة المطوّلة كأنها معلقة كما قال بعض المعلقين حماسةًً، فقد استطاع الشاعر أن يثير حماستنا، ونحن نتخيله يلقيها بصوته الجهوري، فتستحوذ على قلوبنا فنقف لها مصفقين. ولا بد من القول إن القصيدة أُعدت للإلقاء في المناسبات الوطنية التي يحتاج فيها الشاعر الى الهاب الجماهير ، فليس فيها من الصور العميقة التي تحتاج الى تأمل وتمعن، بقدر ما فيها من الايقاع المطرب الذي يبعث على الحماس والثورة، مستعملاً قافية نادرة هي الفاء الموسيقية. لذاكم فإنها تستحق منا  الوقوف عند جمالياتها، مثلما سأذكر بعص عيوب مثل هذا الشعر بعامة وألفت الانتباه الى موضعين أظن أنه وقع فيهما سهواً تعثرٌ في وزن القصيدة ومواضع أخرى حدث تجاوز في القافية على حساب المعنى، وذلك استجابة لرغبة الشاعر الذي يؤمن بالأمانة العلمية والنقد البناء،وتوضيحاً لبعض الأمور أهمها أن القارئ الحديث لا يستطيع فهم بعض الأبيات على حقيقتها دون الرجوع الى لسان العرب، فمن منا يذكر معنى ( الصريف، السريف، الثقيف، القرايا وغيرها ). فأقول للمعلقين الذين قالوا ما قالوا هلا تريثتم حتى تفهموا ما يُقال. أما كان الأجدرُ بنا العمل بما جاء في بيان المستشار الأدبي من أعطاء مهلة للقارئ لمثل هذه القصيدة المطولة والعظيمة في مبناها ومعناها ، حتى يتمعن فيها محاولاً الوصول الى مقاصد الشاعر فتتم الفائدة. وإلاّ فما هدف هذه الكتابة إذا لم استفد أنا واستمتع بما أكتب وأقرأ، فتستفيدوا وتستمتعوا ونستمتع جميعاً ونرقى الى سدة الحضارة عبرما نكتب وعلى هدي تراثنا العريق.

 

ملاحظات على وزن القصيدة ومعانيها:

القصيدة بناء متقن وزناً وايقاعاً حماسياً رائعاً، ولكن  يبدو أنه وقعت سهواً بعض العثرات : ففي البيت:

هنا ما زِلْنا نبني البيتَ نــروى              جنانَ الأرضِ بالدّمِّ العفيفِ

يبدو لي أن البيت غير سليم في وزنه، فاسمع نشازاً معيناً ادعو الشاعر الى بحثه ، وذلك عند كلمة ( ما زلنا)

كذلك في البيت:

أغنّي  في الأنينِ بيوتَ عشقٍ               لكِ فْلسطين لم يهدأْ صريفي

فأدعو الشاعر الى فحص الوزن في ( لك فلسطين).

 كذلك فإني لم أفهم معنى للتعبير( لم يهدأ صريفي) ، فالصريف هو:

 مصدر صرف. من الباب: صوته عند تحركه.  صوت ناب الجمل أو غيره إذا حكت على غيرها.  صوت القلم عند الكتابة به.

فالمؤكد أنها استعارة، ولكن تبدو لي استعارة غير موفقة، الاّ إذا شرحها لنا الشاعر كما قصد ، فالصريف للباب وللجمل، فهل يشبه نفسه بالباب أو الجمل؟!وهذا مستبعد. وقد كان الشاعر قد استعمل أفعالاً جميلة ورقيقة في صدر البيت (أغني في الأنين) أم أنه أراد المعاني الأخرى للصريف :

شَرَابٌ صَرِيفٌ” : خَالِصٌ لَمْ يُمْزَجْ.

“شَرِبَ صَرِيفاً” : لَبَناً سَاعَةَ حَلْبِهِ

فيقصد لم يهدأ شرابي؟!

أم أنه أراد معركة الصريف وهذا أقرب المعاني الى مضمون البيت.

مهما يكن من أمر فاجتماع الصاد والراء يعطينا صوتاً حادّاً كالصرير.

كذلك في قوله:

كأنّ رهوطَنا أسرابُ  نخْلٍ                   كأنّ الكرمَ بحرٌ من سريفِِ

فالجمع رهوط ليس له وجود في قاموس المعاني

رَهْطُ الرجل قومه وقبيلته و الرَّهْطُ ما دون العشرة من الرجال لا يكون فيهم امرأة قال الله تعالى {وكان في المدينة تسعة رهط} فجمع وليس لهم واحد من لفظهم مثل قوم والجمع أرْهُطٌ و أرْهَاطٌ و أرَاهِطُ.

كذلك فإنني لم أهتد الى معنى (سريف)! في لسان العرب، فأرجو من الشاعر أن يدركنا الى ما هو السريف حتى نفهم كيف يكون الكرم بحراً من سريف.

كذلك نجد في البيت التالي مشكلة يمكن تجاوزها في الوزن إذا لم نجعل حركة الضمير في ( سواده) قصيرةً!!

لبِسْنا من ثيابِ الحسْنِ خلْقاً             سماويّاً سوادُه(سوادهو) من رفيفِِِِ

 

وفي البيت التالي وقع خطأ سهواً في ( لن يظهرَ ) وكان من الممكن ( لم يظهرْ)

 

هنا كنّا ولن يظهرْ سوانــــا                   بحكمٍ عادلٍ  حرٍّ نظيفِ

 

مبنى القصيدة وعروضها

البحر الوافر:

فالقصيدة على البحرالوافر التام الذي يتكوَّن من ست تفعيلات ثلاث فى كل شطر

مُفاعَلَتن مفاعلتن فعولن ::: مفاعلتن مفاعلتن فعولن

ب – ب ب-

وقد تأتي مفاعَلَتن مخففة بتسكين اللام أي هكذا: ( مُفاعَلْتُن/ ب – – -)،أي بتسكين اللام وعندها فقد يقع التباس بينها وبين ( مفاعيلُن/ ب – – -)التي تساويها في المقاطع.وحيث أن ( مفاعيلن) هي تفعيلة بحر الهزج، فيحدث تداخل بين البحرين، خاصة في شعرالتفعيلة الحر، وخاصة في مجزوء الوافر أي بدون (فعولن). فإذا قمنا بتقطيع الأبيات الأولى من القصيدة، فيمكننا القول إنها على التفاعيل التالية:

 

مفاعيلن مفاعيلن( فعولن)     مفاعيلن مفاعيلن فعولن

على نارِ اللّظى تجري حروفــي           تفي بالكَلْمِ من وقْعِ السّيوفِ

رماني الشّوقُ في قولي فأبكــى         رياح الشّرقِ في رملِ الهَفوفِ

تراتيل النّوى تحكـــي صهيلـي             وجفراءُ الّتي صارت حفيفي

 

إلى أن نصل الى البيت الجميل الذي وشّحه الشاعر المجيد بالاستعارة الجميلة(الصمت مزنر بالحكايا) وجعله  عنواناً رائعاً لقصيدته، حيث تبدأ بالظهور التفعيلة ( مفاعَلَتن):

أنا الصّمتُ المزنّرُ بالحكايــــا          دبيبُ النّملِ فرَّقَ في صفوفي

 

ولا تظنن أن كلمة تزنّر من العامية، إنما هي من الفصحى.فيكون معنى الاستعارة : صمتٌ كثيرُ الحكايا، وهي استعارة جميلة وموفقة.

والزُّنَّارُ حزام للنصارى

تزنر تزنرا  :  شدَّ الزنار على وسطه

والزنار والزنارة ما على وسط المجوسي والنصراني وفي التهذيب ما يلبسه الذمي يشده على وسطه وامرأة مزنرة طويلة عظيمة الجسم وفي النوادر

ويعود الشاعر الى مثل هذا المعنى في قوله:

 

أنا إن ضاقت الدّنيا  بشعـــري            فصمتيَ مشعلٌ جَمْرَ اللّهيفِ

 

ويأتينا الشاعر بصورة شعرية جميلة في  الأبيات:

 

أنا حبرٌ بدائيٌّ  ينـــــــادي                 جموعَ القومِ باللّحن الرهيف

وعشقي في سرابِ الأرضِ مـاءٌ          حياةٌ دَرْبُها أهدَت حتوفي

ولكنني لم أتوصل الى فهم كيف أن درب الحياة يهدي الحتوف، أم أن هذا من عيوب الشعر العمودي الذي يسير على نفس القافية.

الخطابية والحماسة في القصيدة

وينتقل الشاعر في معلقته هذه الى القسم المباشر الخطابي الذي يبدأ ب (هُنا ) وتكرارها في بداية كل بيت يثير روحاً خطابية حماسية مباشرة،  لذلك أقول إن القصيدة أُعدت للإلقاء في المناسبات الوطنية التي يحتاج فيها الشاعر الى الهاب الجماهير ، فليس فيها من الصور العميقة التي تحتاج الى تأمل وتمعن، فالمستمع بحاجة الى أن يكوّن ردّة فعل سريعة تكون عادة بالتصفيق للشاعر المجيد الذي استطاع تثوير السامعين وتحريضهم نحو غايته:

 

هنا جاء المسيحُ بكلّ خيــــرٍ                لأهلِ الأرضِ بالخُلُقِ الشفيفِ

هنا عرجَ النبيُّ الى سمــــاءٍ                لربِّ العرشِ من أقصىً شريفِ

هنا أهدى لنا التاريخُ  مجـــداً                بنته الأيدِ من حضرٍ وريفِ

 

ثم يأتي بيت جميل يذكر فيه الشاعر ضروب الغناء التراثي من موال ومعنى والشروقي ودلعونا وجفرا، وأظنه يقصد بقوله: ” نُدلعنُ للظريفِ” الأغنية الشعبية: (  ياظريف الطول) فقد استطاع شاعرنا جمع جميع أنواع الغناء في بيت واحد فجاء رائعاً

نموّل  بالْمُعنّى  والشُّروقـــيْ              لجفرا أو نُدَلْعِنُ للظريفِ

هنا صالت خيولٌ في وغاهـــا               هنا مرّت من الأممِ الصّنوفِ

هنا عشنا يعاربةً كرامًـــــا                   جَمَعْنا الودَّ مع لُقَمِ الرّغيفِ

 

وما هدموه بيتَ العزّ لكــــنْ                سَيُهْدَمُ بيتُهم هدمَ السّقيفِِ

هنا أرضُ الرّسا لةِ من سماءٍ                ووحيٍ  طاهرٍ برٍّ لطيفِ

مرابطُ خيلِنا غُرِسَتْ بـــأرضٍ                وَفَتْ بالعهدِ كالأمّ العطوفِ

 

ثم يأتي قسم آخر من القصيدة يبدأ بكلمة خطابية هي (نحنُ)

فنحن العادلون إذا حَكمْنــــا                 وحكمُ العدلِ درعٌ للضعيفِ

ونحنُ الفاتحون بخير خُلْــــقٍ                 أتى من قدرةِ الهادي الرؤوفِِِ

وقد وقفت عند البيت الذي يقول:

ونحن العالمون اذا أرَدْنـــــا                 جنانُ العلمِ ذلّت بالقطوفِ

وقلت لنفسي أتراه يقصد أن العرب كانوا العالمين، وأهل العلم ومن نقلوا الحضارة الى الغرب الذي كان يعيش في بحر الظلمات. أما كان الأجدر بنا ايها الشاعر المعطاء أن نقول (كنا، بدلاً من نحن)

أو تستعمل الصيغة الانكارية( وهي على نفس البحر):

 ألستم خير من ركب المطايا  وأندى العالمين بطون راح.

 

وأخيراً أحييك وأشد على يدك ، فإنك وإنْ كنتَ الأخير  زمانه، فقد أتيتَ بما لم تستطعه  الأوائلُ.

اقرأ القصيدة أنا الصّمتُ المزنّرُ بالحكايا

‫8 تعليقات

  1. تحيّاتي الورديّة لكَ أستاذي الفاضل طابَ مساؤكَ..
    لقد قمت بقرائة هذه القصيدة مرات عدة ” الصّمتُ المزنّرُ بالحكايا”, فَجاء شَرحُكَ لها ليثلجَ قلبي ,أشكركَ د. سامي على عطائكَ المديد دُمت ودامَ نَبضُ مدادكَ
    وتحياّتي العَطرة الى زميلي ألأخ أحمد
    أخي أحمد مشكور على هذا النص القييم والراقي سَلمت أناملكَ المرمرية

  2. استاذي الكريم..حياك الباري وجمل ايامك بالسعادة والعطاء

    ارفع اليك تحيات الشكر والامتنان على شرحك الواسع الذي ينورنا ..

    اسلوب شاعرنا احمد مميز بكلمات عربية جامدة …وتورية بليغة..

    لقد قرأت ديوان الشاعر ..مسروق السماء..وتمتعت بقصائده..

    ..جدير بنا جميعا ان نعيش اللغة العربية من خلال المطالعة..والكتابة..

    جدير بنا ان نجعل القراءة جزء من حياتنا اليومية ..لكي نرقى بادراكنا

    وتعم الثقافة حياتنا..

    لك مني خالص الحب والود الجميل..بوركت وجزاك الله كل الخيرات ..

  3. وهل من ظمأ بعد الذي اغترفناه وشربناه من بحر علمك , إنها شربة هنيئة مريئة سائغة , مستحيل نظمأ بعدها أبدا .
    د. سامي إدريس , لقد أمعنت بقراءة نقدك وتحليلك ألكاملين الشاملين للقصيدة الجميلة المذكورة , دققت بما ورد حرفا حرفا وكلمة كلمة وسطرا سطرا باستمتاع وانتفاع وكأنني أجمع دررا وجواهرا , اسقيتنا ونفعتنا يا من نتوسل الى الله أن يديمك لنا دخرا , وكلما نقص يوم من عمرك يزد ك من العمر دهرا , فليس مثلك بيننا كثرا وأنت الذي يفوح لسانه وقلمه شذى وعطرا .
    لقد خشيت أن كل ما تعلمتُه أنا كان هدرا وصار هباء منبثا أو على الأقل كان خطا , فجئتَ تسعفني من ظنّ بنفسي ينتابني فأنقذتني وأعدتني إلى صوابي , إلى صدق كتابي , وعليه سأظل مدينا لك طيلة حياتي .

  4. سررت جدا بهذه المفاجأة لجميلة أستاذي د. إدريس
    وقدسرّني أنك بحثت بجد وموضوعية في ميزات القصيدة ومثالبها
    وأقولها من على هذا المنبر الموقر
    إني لاستمتع بالنقد الجاد وأحب أن توضع قصائدي على المحك
    أما بالنسبة لما ورد في المقالة النقدية فردي هو كالتالي
    1- أعترف بالتجاوز على الوزن في (ما زلنا)
    2- بالنسبة لــ..(لك فْلسطين ) فهي موزونة بتسكين الفاء وهذا وارد وقد سبقني الكثير في هذا التجاوز المسموح
    3- المقصود بالصريف هو صوت القلم عند الكتابة وقد تقمصت روح القلم وصوته والمعنى أن صريفي كقلم لن يهدأ من كثرة الكتابة عنك..أي أنني صرت ومن فرط عشقي لفلسطين القلم وليس صاحبه فلم يهدأ صريفي
    4- معنى كلمة سريف: جاء في لسان العرب ما يلي
    وأرض سَرِفَةٌ: كثيرة السُّرْفَةِ. وقال ابن عبّاد: السًّرُفُ: شيء أبيض كأنه نسج دود القز. والسَّرُوْفُ: الشديد العظيم، يقال يوم سَرُوْفٌ: أي عظيم. وقال غيره: الأُسْرُفُ: الآنُكُ، فارسي معرب، وهو تعريب سُرُبْ. وذهب ماء الحوض سرفاً: إذا فاض من نواحيه. والسَّرِيْفُ سطر من كَرْمٍ.
    إذن السريف هو سرب أو سطر من الكرم إي بحر من السروب في الكرم وقد قصدت أن أستعمل كلمة كرم لقربها من كلمة كرَم أي سخاء فاختزلت الجناس بكلمة واحدة تفيد بالمعنيين

    5- لن يظهر والصحيح لم يظهر خطأ مطبعي أرجو تصليحه
    6- رهط رهوط وهي جمع غريب مستعملة في الأنظمة العسكرية والحزبية والكشافة وقد تكون مستحدثة مثلا: رهوط جوالة الإخوان المسلمين و رهوط الكشافة ورهوط العشيرة
    7-لبِسْنا من ثيابِ الحسْنِ خلْقاً سماويّاً سوادُه من رفيفِِِِ
    سواده من =مفاعلتن– وهي من تفعيلات الوافر والهزج ولا ضير في استعمالها ولا كسر في الوزن
    أرجو أن أكون قد وفقت في طرحي وأشكر الدكتور سامي والمعلقين الأفاضل على شحذ الأدمغة وتلاقحها

  5. أشكركم جميعاً، وأشكر الشاعر أحمد فوزي على رحابة صدره وإفادتنا الموضوعية عن التساؤلات التي وردت في المقال. وهكذا فلنكن جميعاً .

  6. […] اقرا تحليل للقصيدة أنا الصّمتُ المزنّرُ بالحكايا بقلم …     نبذة عن الكاتب […]

  7. بهذه الأخلاق النبيلة يجب أن تتسم ألروح الجميلة لنرقى للبطولة , أحييكما د. سامي إدريس والشاعر الكبير أحمد فوزي أبو بكر ” , فأنتما خير خلف لخير سلف والقدوة المثلى بها يحتذى .

  8. تحيات اخوية ممزوجة بالحب والتقدير للاخوة الكرام على السلوكيات الايجابية..

    لكم كل الحب والتقدير…انتم الشراع المتين لمراكبنا الادبية..بكم تزدهر مسيرتنا

    نحو التالق الثقافي لمجتمعنا..حياكم الباري وكحل دروبكم بالكرامة ومكارم

    الاخلاق..بوركتم جزاكم الله كل الخيرات..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة