إياد شماسنة… حين يُصبح المثقف شاعرًا، والكاتب منارة، والقدس قلبًا نابضًا بالأبجدية
بقلم: رانية مرجية
تاريخ النشر: 28/06/25 | 13:35
في زمنٍ تراجعت فيه الثقافة إلى هامش الأخبار، وتحوّلت الكلمات إلى شعارات جوفاء، ينهض إياد شماسنة من بين الركام ككلمةٍ نُحتت من نور، وكصوتٍ استثنائيّ يكتب ليس فقط ليُقرأ، بل ليُصدّق، ويُصَدّق عليه.
يكتب إياد شماسنة كمن يحفر في جسد التاريخ، لا ليؤرشفه، بل ليبعث فيه الحياة من جديد. لا يختبئ خلف الأسطر، بل يظهر من خلالها، حادًا، شفافًا، وملتزمًا — ليس بالمفردة وحسب، بل بالإنسان، وبالقدس التي يسكنها وتسكنه. القدس في رواياته ليست خلفية ديكورية، بل نبض يومي، حاضرٌ في الخبز والهمس والصمت والمقاومة.
هوية مقدسية متكاملة: عندما تصافح الحروف حنكة الإدارة واحتراف اللغة
قد يبدو غريبًا أن يأتينا الشاعر من قلب المستشفيات والإدارات، وأن يكتب من موقع مدير الموارد البشرية في مستشفى المقاصد بالقدس، لكن شماسنة لا يعرف الانفصال بين العلم والإبداع. فهو الحاصل على ماجستير في بناء المؤسسات وتنمية الموارد البشرية، وبكالوريوس في التمريض، ودبلومين متخصصين في اللغة الإنجليزية وإدارة المشاريع، ما يجعله حالةً نادرة، فريدة، تمارس الثقافة بعقلٍ ناضج لا يغيب فيه القلب.
تتجاور لديه الإدارة بالقصيدة، والتنظيم بالخيال، والمهنية بالرؤية النقدية. ولعل هذا التكوين الأكاديمي المعمق هو ما يمنح كتاباته بعدًا بنيويًا رصينًا، لا سيما في رواياته التي تتقاطع فيها النفس البشرية مع الجغرافيا السياسية، وفي قصائده التي تُبنى كأنها هياكل مضيئة من صلب وحنين.
رجل المؤسسات… شاعر المؤسسات
إلى جانب دوره الأدبي، يشغل شماسنة مواقع تأثير فعلي في المشهد الثقافي الفلسطيني، بصفته عضوًا في اتحاد الكتّاب والأدباء الفلسطينيين، وعضوًا مؤسسًا في منتدى رواق المهد الثقافي، ومسؤول العلاقات العامة في مبر أدباء بلاد الشام، كما شغل عضوية المجلس الاستشاري لوزارة الثقافة الفلسطينية واللجنة الصحية في مؤسسة إبداع – مخيم الدهيشة.
وليس هذا غريبًا على من كان عضوًا في لجان التخطيط الاستراتيجي والبعثات والموارد البشرية – فالرجل لا يكتب فقط، بل يخطط وينفّذ ويقود. شاعر لا يسكن البرج العاجي، بل يمشي بين الناس، ينظر إليهم، ويكتبهم.
أدب لا يتثاءب ولا يتراجع: نصوص تقاتل بصمت
ما بين قصيدة “سدرة المُشتهى” ورواية “امرأة اسمها العاصمة”، وما بين “الرقص الوثني” و”لا سماء في المدينة”، ينحت إياد شماسنة عالمًا أدبيًا لا يُشبه إلا نفسه. إنّه كاتب المرايا المعقّدة، حيث تُطلّ فلسطين من شرفة الخيال، لا لتستعير بطولة، بل لتعيد تعريفها.
في روايته “الوجع والجرأة” – التي حظيت باهتمام نقدي ملفت – لا يُقحم السياسة في الأدب بل ينزع عنها غبار الاستهلاك، ويعيد إلينا النص الفلسطيني في أنقى حالاته: نص يقاوم، يُحاكم، يُربك، ويُحب.
وفي شعره، لا يبكي الشاعر، بل يُشعل المساحات البيضاء بالأسئلة. قصائده – كما في “ستون ظلًا للنرجس”، و”حدائق الكريستال”، و”التاريخ السري لفارس الغبار” – تذهب بعيدًا في التأمل، دون أن تفقد دفء الانتماء. إنّه شاعرٌ لا يَكتب الوطن، بل يَنكتبه الوطن، سطرًا بعد سطر.
مترجم الوجع والدهشة
لشماسنة مشاريع ترجمة رائدة، بين “روبوت صيني”، و”معجزة هواوي”، وصولًا إلى المجلدات الثلاثة من أعمال إدغار آلان بو، وهي قيد التحرير، ما يدلّ على سعة الأفق، وعمق القراءة، وشغفٍ حقيقي بثقافات الآخر.
ولأنّ الإبداع لا يعترف بالحدود، فقد تُرجمت قصائده إلى الإنجليزية، واختير ضمن شعراء أنثولوجيا فلسطين الصادرة عن مؤسسة Inner Child Press بالولايات المتحدة الأمريكية عام 2018، كصوت فلسطيني نافر في زمن التباسات الصمت.
كاتب في قلب الإعلام… لا على هامشه
ككاتب منتظم في صحف كبرى مثل القدس العربي والعرب اللندنية وموقع كتابات، لا ينفصل شماسنة عن قضايا الراهن، بل يكتب بقلب المثقف العضوي الذي يرفض أن يكون مجرد شاهد. في مقاله، كما في قصيدته، تبرز القدس كجذر لا يمكن قطعه، وكجرحٍ لا يُراد له أن يندمل، لأنه ببساطة… من يندمل ينسى.
خاتمة: حين يكون الكاتب وطنًا صغيرًا
في عالمٍ يتناقص فيه الإيمان بالقلم، يثبت إياد شماسنة أنّ الكتابة لا تزال فعلًا نبيلاً، ومقاومة، وشفاء. لا يكتب ليقال إنه كتب، بل لأنه إن لم يكتب… اختنق.
هو ابنُ مدينةٍ لا تملك غير حجارتها حراسًا، ولا غير شعرائها رواةً، ولا غير مبدعيها صوتًا. وإياد شماسنة، من هؤلاء الذين لو لم يُخلقوا، لاخترعتهم المدينة لتتكلم بلسانهم.
وفي حضرة أدبه، لا تملك إلا أن تُسلّم بأن هناك أقلامًا لا تُقرأ، بل تُصلى.