واقع وآفاق السياسة والأحزاب في المغرب

عبده حقي

تاريخ النشر: 10/06/25 | 18:53

هل نحن أمام أزمة فعل سياسي حقيقي أم أزمة صورة فقط؟ هل أصابنا العطب في جوهر السياسة، أم في الطريقة التي تُقدَّم بها هذه السياسة للرأي العام؟

في الواقع، كلما تعمقت بتواضعي في فهم الواقع السياسي المغربي، ازددت اقتناعاً بأننا نعيش أزمة مركبة، تتداخل فيها هشاشة المضمون مع ابتذال الشكل، حتى بات الانفصال بين المواطن والشأن العام شبه نهائي وكامل.

لقد مر عقدين ونصف على ما سُمي بالانتقال الديمقراطي، وما زالت البنيات الحزبية التقليدية متمركزة حول ذاتها، عاجزة عن التجديد، وكأن الزمن السياسي المغربي توقف عند مرحلة “الاستثناء” أواخر التسعينات مع تعيين المعارض عبدالرحمان اليوسفي وزيرا أولا لحكومة التناوب من قبل الملك الراحل الحسن الثاني. فمنذ سنوات، لاحظت تراجعاً مطّرداً في الحيوية الحزبية، لا على مستوى الخطاب، ولا على صعيد المبادرة أو التأطير. لقد صارت الأحزاب كيانات ، شبه جزر معزولة ، تتناسل فيها الانقسامات أكثر مما تُبنى فيها المشاريع. البعض يتحدث عن أحزاب إدارية صُنعت لتكون أدوات، لا لتنتج فعلاً سياسياً نابعاً من إرادة اجتماعية. وآخرون يرون أن حتى الأحزاب الوطنية ذات التاريخ النضالي العريق فقدت بوصلة التوجيه، وأضاعت قدرتها على التأثير في القرار أو على تعبئة الشارع.

ولعل ما يثير الانتباه هو أن هذه الأزمة لم تعد تقتصر على النخب، بل أصبحت ملموسة لدى المواطن العادي، الذي فقد الثقة في السياسة والسياسيين. لقد أضحى خطاب العزوف السياسي هو القاعدة، وصار التصويت مجرّد واجب شكلي يؤديه البعض على مضض، أو يقاطعه آخرون من منطلق فقدان المعنى والغايات . لا يعود هذا فقط إلى ضعف البرامج أو غياب الإقناع، بل أيضاً إلى الصورة المهترئة التي ترسخت في أذهان الشعب المغربي عن الفاعل السياسي: “انتهازي”، “باحث عن الغنيمة”، “بعيد عن هموم الشعب” . إنها صورة قد غذتها بعض الممارسات، وتؤكدها الفضائح، وتساهم في تفاقمها وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي.

غير أن الأزمة، في تقديري، ليست فقط أزمة صورة وتمثل سائد . بل إنها أعمق من ذلك بكثير. نحن في قلب مأزق بنيوي، تتداخل فيه ثلاثة عناصر: اختلالات في التمثيلية، جمود في النخب، وتحكم فوقي في اللعبة السياسية. فمن جهة، لم تعد الأحزاب قادرة على تأطير المواطنين ولا على ترجمة مطالبهم إلى سياسات. ومن جهة ثانية، إعادة إنتاج نفس الوجوه، في مشهد يوحي بأن لا مجال للتجديد ولا لرؤى بديلة. ومن جهة ثالثة، لا تزال مراكز القرار الحقيقية خارجة عن منطق التنافس الديمقراطي، ما يجعل من العمل الحزبي مجرد واجهة تُدار من خلف الستار.

في هذا السياق، تبرز مفارقة حادة: بينما يتطور المجتمع المغربي في حركيته ومطالبه وتطلعاته، تبدو السياسة كما لو أنها راكدة، منفصلة عن الزمن والمجتمع معاً. فالأحزاب لا تواكب التحولات الثقافية والتكنولوجية، ولا تلتقط نبض الشباب، ولا تملك الجرأة لإعادة التفكير في مواقعها المجتمعية. لقد بات واضحاً أن هناك حاجزاً نفسياً وسياسياً بين الأجيال الصاعدة والبنيات التقليدية للعمل السياسي، وهو ما يعمّق الإحساس بالاغتراب ويُنتج أشكالاً جديدة من التعبير، قد تكون غير مؤطرة أو حتى عشوائية، لكنها تعبّر عن حيوية اجتماعية لا تجد صداها في مؤسسات الوساطة.

أمام هذا الواقع، لا يمكن الاكتفاء بإلقاء اللوم على “الشعب” لأنه لا يصوّت، أو على “الشباب” لأنه لا ينخرط بحماس. والسؤال الحقيقي هو: ما الذي تقدمه السياسة المغربية اليوم من أفق واعد؟ ما الجدوى من البرامج الانتخابية إن كانت لا تُترجم إلى سياسات عمومية ملموسة؟ ما معنى التمثيلية إن كانت لا تؤدي إلى المحاسبة ولا إلى تجديد وجوه الفاعلين؟

إنني لا أتبنى هنا خطاباً تيئيسياً. على العكس، أؤمن أن الإصلاح ممكن دائما، بل وضروري. لكن هذا الإصلاح يتطلب جرأة في الاعتراف بأن ما نعيشه اليوم ليس مجرد أزمة تواصل أو صورة، بل انهيار في العقد السياسي والاجتماعي بين الدولة والمجتمع. ولتجاوز ذلك، لا بد من إعادة تعريف الوظيفة الحزبية، من خلال فتح الباب أمام طاقات جديدة، ومنح استقلالية حقيقية للأحزاب، وتوسيع هوامش الفعل السياسي والمجتمعي.

في النهاية، السياسة ليست فقط معارك انتخابية أو تحالفات ظرفية، بل هي قبل كل شيء فنّ بناء الثقة. ومتى ما عادت الثقة، عاد المواطن إلى الشأن العام، وعادت السياسة لتكون أداة تغيير، لا مجرد مشهد كاريكاتوري يُستهلك في الجرائد الحزبية النشرات التلفزية والهاشتاغات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة