“التوحد بين الإنكار المجتمعي والاحتضان الإنساني: قراءة ذاتية نقدية من موقع التفاعل المباشر”
بقلم: رانية مرجية
تاريخ النشر: 28/05/25 | 7:16
الملخص
يتناول هذا المقال تجربة شخصية ومهنية في التعامل مع الأطفال المصابين بطيف التوحد من موقع التفاعل المباشر، ويطرح رؤية إنسانية نقدية تخرج من الإطار الطبي والتربوي التقليدي نحو قراءة مجتمعية-ثقافية لواقع ذوي التوحد في السياق العربي المحلي. تسعى هذه الورقة إلى فضح أوجه التهميش والإقصاء التي تُمارَس باسم الشفقة أو “العلاج”، كما تقترح مسارات بديلة للتعامل مع التوحد بوصفه اختلافًا لا خللًا، وغنى لا عجزًا.
مقدمة
ككاتبة وناشطة فلسطينية تربيت في بيئة اجتماعية محافظة، لطالما تابعت قضايا التهميش والعنف الرمزي ضد النساء، الفقراء، وذوي الإعاقة. إلا أن بوابة دخولي لعالم التوحد لم تكن تنظيرية أو مهنية، بل إنسانية وعاطفية خالصة. كنت شاهدة على حياة طفل مصاب بالتوحد، لا يتكلم كثيرًا، لكن حضوره الطاغي أيقظ أسئلتي القديمة حول ما نسميه “الطبيعي” و”غير الطبيعي”. ومنذ تلك اللحظة، لم أعد أتعامل مع التوحد كتشخيص، بل كنداء لإعادة تعريف إنسانيتنا.
التوحد في السياق العربي: بين الوصمة والإنكار
يُنظر إلى التوحد في كثير من المجتمعات العربية، ومن بينها المجتمع الفلسطيني، على أنه عار صامت. تَعيش العائلة، وتحديدًا الأم، تحت وطأة نظرات الشفقة والاتهام في آنٍ معًا. وغالبًا ما يُختصر التوحد بكونه “حالة يجب إصلاحها” بدل أن يُفهم كطيف غني من السلوكيات والقدرات المعرفية المختلفة.
تُقصى هذه الفئة من المدارس العامة، وتُحرم من الحق في اللعب، التفاعل، والانتماء، وتُختزل في خطابات العلاج وإعادة التأهيل، دون النظر في مسؤولية البُنى الاجتماعية التي تكرّس الإقصاء.
التجربة الذاتية: من الملاحظة إلى المرافقة
أثناء مرافقتي لعدد من الأطفال المصابين بالتوحد في ورش فنية وأنشطة مجتمعية، اكتشفت أن ما يُسمى “صعوبات تواصل” هو في الحقيقة نظام تواصل مختلف، أكثر صدقًا ونقاءً. الطفل المصاب بالتوحد لا يتلاعب بالمفردات، لا يُجيد الكذب الاجتماعي، ولا يفهم معنى أن ترتدي قناعًا من أجل إرضاء الآخرين.
أحد الأطفال، وكان في السادسة من عمره، كان يُعيد ترتيب الكراسي في كل نشاط، بهدوء دقيق، بطريقة لفتت نظري إلى حسه العميق بالتنظيم والتناسق. لم يكن يطلب المديح، ولم ينتظر الملاحظات، فقط كان يؤدي فعلًا بسيطًا نابعًا من عالمه الداخلي. لحظتها، أدركت أننا نحن من نحتاج إلى التعلّم، لا هم.
نقد خطاب “العلاج” و”الدمج”
لا أعترض على العلاج المهني أو التدخل التربوي، لكنني أعترض بشدة على تسليع التوحد وتحويله إلى مشروع ربحي يستنزف الأهل، ويُشعر الطفل بأنه “معطوب” يحتاج للإصلاح.
كذلك، فإن مفهوم “الدمج” في السياق المحلي كثيرًا ما يُمارس بوصفه مناورة شكلية لا تُراعي خصوصية الطفل، ولا تؤهّل البيئة التربوية لاستقباله.
إن دمج الطفل المصاب بالتوحد لا يعني إجباره على التصرّف كزملائه، بل احترام إيقاعه، ومرافقة نموّه بإيمان لا بإكراه.
أدوار الأمهات: غائبة عن الخطاب الرسمي
في كل بيت فيه طفل مصاب بالتوحد، تقف أمّ لا تُذكر في التقارير ولا تُدعى للمؤتمرات، لكنها تخوض يوميًا معارك صامتة مع المجتمع، النظام، وحتى الأسرة أحيانًا.
هذه الأم لا تنام، لا ترتاح، ولا تستسلم.
هي المربية، والمرافعة، والمرشدة النفسية، والطبيبة، والدرع الأول والأخير.
لكن بدل أن تُكرَّم، تُحاكم. بدل أن تُسانَد، تُدان.
وهنا، يجب أن يتحول الخطاب من “تدريب الأهل على التكيف” إلى تثوير المجتمع من أجل الاحتضان.
التوصيات
انطلاقًا من التجربة الشخصية، والقراءة المجتمعية، أقترح ما يلي:
تحرير الخطاب التربوي من النظرة الإصلاحية القسرية، والانتقال إلى مفاهيم الاحتواء، التفاعل، والتبادل المعرفي مع ذوي التوحد.
تهيئة المؤسسات التعليمية لتكون فعلاً دامجة، لا بيئات مقنّعة للعزل.
إدراج الأمهات في دائرة صنع القرار المتعلقة بالرعاية، التعليم، والتأهيل.
وقف تسليع التوحد وتوفير مراكز مجانية مؤهلة في البلدات المهمشة.
إعادة تعريف “الاختلاف” بوصفه قيمة مجتمعية، لا خللًا يحتاج إلى إصلاح.
خاتمة
التوحد ليس عيبًا ولا مأساة، بل تحدٍّ أخلاقي للمجتمع: هل نحن مستعدون للتخلّي عن أحكامنا الجاهزة؟
هل نحن على استعداد لنرى الإنسان قبل التشخيص؟
أنا أكتب، لا لأشرح التوحد، بل لأدافع عن حق المختلف في أن يكون كما هو.
“أصعب ما في التوحد ليس التوحد ذاته، بل أعين الناس التي تراك من خلالها كأنك غير موجود.”