دينا سليم… حين يكتب الغبار سيرة وطن

بقلم: رانية مرجية – من الرملة واللد

تاريخ النشر: 29/05/25 | 14:21

في زمن تتكاثر فيه الأصوات وتضيع فيه الهُويّات، تبقى الكتابة فعل نجاة ومقاومة… وتبقى دينا سليم، الروائية الفلسطينية ابنة اللد، واحدة من القلائل الذين فهموا اللغة جيدًا، لا بوصفها أداة، بل كجسرٍ بين ما كان وما ينبغي أن يكون.

دينا لم تكتب عن اللد كمدينة، بل كتبتها ككائن حيّ، كأمّ، كذاكرة لا تموت. وها أنا أكتب اليوم عنها، بفخرٍ لا يضاهيه فخر، لأنّها بقيت وفيةً لمدينتنا الجريحة، رغم بعد المسافات وتقلبات المنافي. لم تنسَ اللد يومًا، بل حملتها في قلبها وفي قلمها، ونسجت من غبار الذاكرة ما يشبه الأسطورة.

مدوّنة الغبار… الكتابة من الحافة
ليس من السهل أن تكتب امرأة فلسطينية عن الخسارات المتراكمة، عن الغياب، عن الغبار الذي يغمر الروح قبل أن يعلو الأثاث.
في مدوّنة الغبار، لا تكتفي دينا سليم بسرد حكاية، بل تفتح جرحًا وتدعونا للدخول. تنقل القارئ من سكون النص إلى عاصفة المشاعر، من لحظة تأملٍ عابرة إلى مواجهة صريحة مع الذات والتاريخ.

الغبار، في هذه المدوّنة، ليس مجرد رمزٍ للزمن الآتي من بعيد، بل هو رفيق المنفى، وشاهد القهر، ومرآة الهوية. تتناول فيه دينا الإنسان الفلسطيني بوصفه مشروع حنين لا ينتهي، وتُجسّد الغربة كمساحة لخلق أدبٍ مختلف، أدبٌ متوتر، حاد، صادق، نسويّ، ومتمرّد في آن.

ببساطة، استطاعت أن تخلق نصًّا يتجاوز المألوف، يتماهى فيه السياسي بالشخصي، وتتواشج فيه الذاكرة الفردية بالذاكرة الجمعية. في كل فصلٍ من المدوّنة، كانت اللد تطلّ علينا: مرةً من نافذة قطار غادر، ومرة من شقوق الجدران، وأخرى من دمعةٍ خبأها طفلٌ في المنفى.

الأنثى… الوطن
في مدونة الغبار، لا تكتب دينا سليم فقط عن اللد أو الغربة، بل تكتب عن المرأة الفلسطينية في خضمّ هذا الكون الممزق.
المرأة عند دينا ليست كائنًا مُتلقّيًا للوجع، بل شاهدة عليه، وفاعلة فيه، وناقضة له.
هي الأم، والعاشقة، والمنفية، والمشتهاة، والمرفوضة، والمتمرّدة، وكلّها في آنٍ معًا.
في هذه الثنائية الدقيقة، تربط الكاتبة بين الأنوثة والوطن، وتقدّم نصًا يحمل من الرقة ما يكفي ليُشبه نساء المخيمات، ومن القسوة ما يكفي ليُشبه جدران الزنازين.

تكريمٌ للذاكرة والقلم
أنا، رانية مرجية، فلسطينية من الرملة واللد، أعرف جيدًا ماذا يعني أن تُغلق المدينة أبوابها على الذكرى.
ولهذا أقول، بكلّ يقين، إن دينا سليم من القلائل اللواتي عرفن كيف يفتحن الأبواب من جديد.
لم تغادر اللد روحها، بل استعادت عبر الكلمة كل ما أُريد له أن يُنسى.

ولأن الكلمة تستحق أن تُكرَّم، كان لي شرف المبادرة إلى تكريم الكاتبة الكبيرة دينا سليم في مدينتي اللد والرملة، بحضور محبّين ومحبّات للكلمة الحرة. لحظة التكريم لم تكن احتفالًا تقليديًا، بل لحظة التقاء بين قلبين حملا الوطن والحبر، بين ذاكرة تصرّ على البقاء، وصوت أنثويّ عنيد يُجيد النهوض من بين الركام.

أنا فخورة بكِ يا دينا، لأنكِ أثبتِّ أن الرواية الفلسطينية يمكن أن تكون أنثوية، شجاعة، فلسفية، وجامحة.
ولأنكِ تكتبين باسم من لا صوت له، وتُعيدين لنا نحن نساء هذا الوطن جزءًا من كرامتنا المفقودة وسط صخب العالم.

كتاباتكِ ليست مجرد سطور، بل رسائل محمولة على أجنحة الغبار…
غبار اللد، غبار القلب، غبار الذاكرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة