أرملة من الجليل، رواية للشاعر والاعلامي محمد بكرية
تاريخ النشر: 27/05/25 | 11:40
تقع في187 صفحة من الحجم الوسط صدرت عن دار يافا العلمية للتشر والتوزيع
الأردن-عمان
يطالعك ذلك الوجه الحزين بنظرة عينية التي تبوح بما خلفته تجربة العمر من هرم، وحكاية خطت سطورها بحلوها ومرها على الجبين المُغضن ،وتلك الأنامل التي لا زالت تحمل أثر الشقاء، لكنها لا زالت قادرة على حمل هذه الرأس بثقل حزنها وبياض شعرها وكتم وجعها.
أرملةٌ من الجليل: أرملة، نكرة لكنها إنسانًا حيويّا متحركًا وفاعلاً يسعى لانهاض فكرة جوهرية.
من: حرف جر يشي بحضور المكان وأن هذا المكان ثابت
الجليل: منطقة جغرافية جميلة تقع شمال فلسطين.
عنوان يحمل في أحشائه جاذبية خاصة تحمل نعومة عطر الجليل وصلابته. وقد أبرز العنوان هوية الرواية وانتمائها وحمل جينات السرد والنًول الذي ستغزل عليه الرواية كلّ ملابساتها.
الإهداء: إهداءٌ مشحونٌ بكمية عاطفة كبيرة حدّ البكاء. فليس أصعب من الكتابة للإم أو عنها.
ويهدي الكاتب روايته أيضا للأخ الأكبر الذي قام مقام الأب في حضور اليتم، صدرٌ يفيض عليه حنوًا أبدي الدهر ا ذابت مشاعر الكاتب الشاعر في هذا الإهداء، وخُيّل إلي لو أن الكاتب لم يكتب هذه الرواية لبقيت الكلمات كالصخر جاثمة على صدره، فما كان همّه الرواية لذاتها الأدبي أو الفني أكثر مما أرادها رسالة حبّ ومحبة ووفاء لاعز الناس على قلبه، وتحريرًا لمشاعرٍ لا بد لها أن تخرج جاءت البداية علامة ضوئية حددت الاتجاه بالكتابة، فقد حدّد لنفسه نقطة الانطلاق بسرده، حيث أن حضور ذاكرة الزمن كان عنصرًا حاسمًا في تأسيس رواية الكاتب تجاه الحياة بكافة وجوهها وأمكنتها التي مهما اختلفت تبقى رهينة الذاكرة.
بدأ الكاتب برسم ملامح الطفولة بألوان غير ألوان المراحل اللاحقة، وكلّها متميزة بواقعية المشاعر والسمات. ففي عودة الكاتب لعالم القرية والطفولة لم تكن عودته لقريته (عرابة البطوف، والتي هي اليوم مدينة) فحسب بل هي عودة لعوالم قرى الجليل الفلسطينية، لزمن أغرق الحزن فيه كل الأشياء في بحرٍ من السواد . حيث غيرت الحرب مسار الأحلام حتى امتدت السنتها تلتهم من يدنو منها كالموت والجوع والعوز وحتى الإقرار بالرحيل والهجرة والتهجير. نواح أمهات وبكاء آباء فقدوا أبناءهم. وقرية عرابة طالها ما طال كلّ القرى غير أنها تميزت بكونها اإحدى أضلاع مثلث يوم الأرض عام 1976)عرابة، سخنين، ديرحنا) حيث بقيت أحداث هذا اليوم عالقة بذاكرة
الكاتب،لما ترك في نفسه من ذعر وغضب حيث كان احد ضحايا يوم الارض جارا لبيت العائلة، وحيث رأى بعينيه تلك الدبابة التي داست الأخضر واليابس من مزروعات الخضار والدخان التي كانت مصدر رزقهم، وشاهدد ذلك الجندي الهجين يأمر بعدم الخروج، أراضٍ صودرت لمصلحة مشروع تهويد الجليل.
وخلف هذه الخلفيّة التي أقرت بحزن القرية، تسدل ستائر الدجى على أحزان امرأة(هي كل نساء فلسطين)عاشت الحزن اليومي على فقدان زوج وهي في ريعان شبابها، وعلى أطفال يبكون يُتمهم، فالرحيل الفاجع للأب لم يكن موتًا، بل كان سؤالا غائرا في عالم الطفولة الغض، إنّه تساؤل إنكاري عن مقابيس الحياة الظالمة.
أطفال كبُروا في غفلة من وحشة الليل وكآبة النهار في ظلّ الصبر والشقاء، كبروا أكثر من سنوات العمر، هذا الوقت الذي أكل الشباب والأحلام وعبث بالطفولة.
يعود الكاتب إلى ماضيه سريعًا في الزّمن إلى الوراء، يركض في الوقت بل يسابقه ليأخذ من فمّ وذاكرة تلك الأرملة الغالية الحزينة، ما يروي ذاته ويُخصب ذاكرته، حيث تمتزج ذكرياتها بذكرياته، فهذه الذكريات هي من شكلت عالم الكاتب وأفراد عائلته، وهي ذاتها الذكريات التي تشكل الوالده محورها وعصبّها، وهي تتسّع لحضوره ولصوته. الغرفة: هي شكل من أشكال تداعيات الماضي، ففيها كان له مطرحًا وأخوة وأحلامًا طموحة، هي ذاتها الغرفة جمعت بينه وبين والدته والليل، لتسكب ذكرياتها بين يديه على طبق من وجع.
فقد اعتاد الكاتب أن يبيت عند والدته في نهاية كلّ أسبوع، حيث تناوب الأخوة والأخوات ليلا ونهارا التواجد عند الوالدة التي باتت تخشى سآمة الوحدة ومللها.
نعم لا غرابة أن تلك الأرملة التي واجهت الجنود وصدّتهم عن بيتها وحدها، وهي من نسجّت في الماضي القريب علاقة ذات طبيعة خاصة مع أرضها والتي علمت بشؤون الزراعة وأساليبها، تجد نفسها وقد تغيرت طبيعة هذه العلاقة
بسرعة، بسبب ابتعادها قسرًا عن الأرض بسبب تغيير نمط الحياة الذي فرضه الاحتلال، من مصادرة أراضي وضرائب وصعوبات أخرى، وقد يصّح القول أنها شاهدة على مرحلة من الزمن حلوها ومرها.
ثمة علاقة سابقة كانت مُتحققة في المكان نفسه ولكنها لم تعُد تحيا إلّا في وجدان الأرملة.
ولعلها تنبثق في ذاكرتها التي أرهقتها الأقراص المنومة والمضادة للإكتئاب- بتحفيزٍ من أحد الأبناء. اعتادت هذه الأرملة على تناول جرعات كبيرة من الأدوية التي لم يوصي بها الأطباء ضاربة عرض الحائط كلّ التوصيات وتحايل الابناء، فهي الأدرى بما تركته الأيام والليالي على جسدها وروحها.
أولم يكن نواحها الذي يستثير مكامن الحزن والألم والبكاء:
” يا مين يجيب الدوا ويا مين يداويني علي يجيب الدوا ومصطفى يداويني
ومحمود يحط الدوا على الجرح ومحمد يشفيني”
أولم يكن هذا نداءً وإشارة لجرح ساكن في عمق الروح ؟
سكينة الليل التي جمعت الكاتب بوالدته وهو يسامرها حتى تغفو ويُراوغ ذاكرتها لتفيض سوية مع ذاكرته خلقت نسيجًا متشابكا من خلال الاسترجاع والاستباق بمهارة وربطها بذاك الحلم الذي راود الكاتب أكثر من مرة، والذي جاء نصًّا خاصًا داخل بنية الرواية غذّى المُتخيل ووجه الأفعال والسلوك وقد أخذ على عاتقه تأويل أحداث الرواية، خاصة الحلم الأخير الذي يعيد قراءة الرواية ويُجيب التساؤلات.
من العنوان يدرك القارئ أن الرواية عبارة عن سيرة ذاتية للأرملة، حتى ولو كُتبت بقلم ابنها، الذي وضع شيئا من سيرته فيها، إذ كيف يمكن له أن ينفصل عن سيرة الوالدة، وأجمل ما في هذه السيرة صدقها ودقتها وعلو إحساسها ومشاعرها، وتقاطعها مع أحداث وقضايا الآخرين، مما يجعل تبادل المواقع ممكنًا بين القارئ والراوي.
الجملة السردية داخل الرواية جاءت فعلية
موازية لحركية السرد، ومعبرة عن الحالات النفسية والأوصاف الخارجية، مما أعطى لبعض الفقرات شحنة عاطفة قوية.
” يا وابور ألي رايح على فين – ياوابور أولي يا وابور ألي” (قل لي)
: الله بس اللي بعلم لوين، اييه يا وابور سلملي على الحبايب”
أوجدت في روايتك مطرحًا للدمع، وجعلت روح الوالدة دائمة الظل الوارف تُبارك خطواتكم أنى حلّت وارتحلت.
سلام من الله ورحمة للأم الفاضلة
وسلام من الله ورحمة للأخ الوالد
خالدية أبو جبل
الجليل الفلسطيني
26 أيار 2025